لم يكن اجتماع مجموعة الدعم الدولية للبنان في باريس أمس، مجرّد تظاهرةِ احتضانٍ من صنّاع القرار في العالم لـ «صمود» الوطن الصغير في وجهِ غليانٍ إقليمي لم تشهد المنطقة مثيلاً له منذ نحو قرن. فهذا الاجتماع، وهو السابع لمجموعة الدعم الدولية منذ ولادتها قبل 4 أعوام، شكّل في توقيته والمستوى الرفيع للمشاركين فيه، وفي الالتزامات السياسية والاقتصادية التي قَطَعها، ما يشبه «التوقيع الدولي» على معاودة تصويب التسوية السياسية في لبنان، وخصوصاً على «الملحق» المتّصل بـ «نأي الحكومة اللبنانية، بكل مكوّناتها السياسية، بنفسها عن الأزمات والصراعات والحروب وعدم التدخل في شؤون الدول العربية».فانعقاد اجتماع باريس بعد ثلاثة أيام من طيّ واحدة من أسوأ الأزمات التي دهمت لبنان وأكثرها انكشافاً على المواجهة الإيرانية - السعودية، بدا بمثابة الرعاية الدولية للمَخْرج السياسي الذي أتاح لرئيس الحكومة سعد الحريري العودة عن استقالةٍ أرادتْها المملكة العربية السعودية لنزْع الغطاء اللبناني عن «حزب الله» الشريك في الحكومة لتَورُّطه العسكري والأمني في ساحات المنطقة، وهو الأمر الذي كاد أن يتسبّب بتداعياتٍ خطرة، استدعت فرنسا للتدخل عبر ديبلوماسيةٍ مكوكية بين السعودية وإيران لاحتواء الأزمة وتَدارُكها.... أولوية استقرار لبنان، النأي بالنفس عن أزمات المنطقة في شكل كامل، التركيز على مكانة القطاع المصرفي، تعزيز الجيش لدوره الضامن، تطبيق القرار 1701 على نحو فاعل، ومساندة لبنان على تحمل أعباء ملف النازحين السوريين، مجموعة من العناوين حضرتْ في الكلمات الافتتاحية لاجتماع مجموعة الدعم الدولية للبنان ورافقتْ المناقشات بين ممثلي الدول المشاركة (الدول الخمس الدائمة العضوي في مجلس الأمن إضافة الى ايطاليا وألمانيا والجامعة العربية والاتحاد الاوروبي والأمم المتحدة) وكرّسها البيان الختامي.ولم يكد الاجتماع الذي افتتحه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والى جانبه الحريري وبحضور وزيريْ الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون والفرنسي جان ايف لودريان، ان ينتهي حتى كانت علامات الارتياح تتوالى على بيروت إزاء النجاح الكبير الذي تَحقق من هذه التظاهرة الدولية في موازاة تَكشُّف ان موضوع النأي بالنفس شكّل مرتكزاً للمناقشات كما «خريطة الطريق» السياسية - الأمنية - الاقتصادية لتعزيز استقرار لبنان.ويمكن اختصار نتائج ومداولات الاجتماع وفق الآتي:* ان لبنان تمكّن من استعادة مكانته على خريطة الاهتمام الدولي وكرّس المظلّة الخارجية لاستقراره استناداً الى المسار الجديد الذي سلكتْه البلاد مع التسوية المُرمَّمة التي عاد على أساسها الحريري عن استقالته.* تكريس الحريري كركيزة للاستقرار السياسي والمصارف كحجر الزاوية في الاستقرار المالي والاقتصادي والجيش كعنوانٍ للاستقرار الأمني. * ان لبنان نجح في حجْز ترجمةٍ عملية للدعم الدولي عبر 3 مؤتمرات ستُعقد تباعاً مع حلول السنة الجديدة، في روما دعماً للجيش، وفي باريس من أجل الاستثمار، وفي بروكسيل بهدف مساندة بيروت في تحمُّل أعباء نحو 1.5 مليون نازح سوري.* «تدويل» قرار الحكومة اللبنانية بالنأي بالنفس، وسط معلومات عن ان هذا القرار سيكون موضع مراقبة ومعاينة دولية لمدى الالتزام به، وان الرئيس الحريري أخذ على عاتقه «رهان» ضمان عدم خروج أي مكّون في الحكومة عن هذا الالتزام، علماً انه أكد ان اي خرق للنأي بالنفس سيضع لبنان في دائرة الخطر.* ان المداولات في الجلسة المغلقة ركّزت على موضوع «حزب الله»، وضرورة إجراء حوار وطني لحلّ مشكلة سلاحه وبما يضمن عدم تدخله في حروب ونزاعات خارج لبنان.* اعتبار الانتخابات النيابة المقبلة في مايو 2018 محطة مفصلية في انتظام عمل المؤسسات، وسط إشارات الى ان الاستثمارات التي ستُرصد للبنان من المؤتمرات الثلاث ستتأثر ترجمتها تبعاً لنتائج تلك الانتخابات وما ستفرزه من أكثرية.* ان الحريري، الذي عقد لقاء ثنائياً مع تيلرسون، حرص على تأكيد دور السعودية كعنصر استقرار في الوضع اللبناني، نافياً وجود أي أزمة معها ومؤكداً ان العلاقة معها «ممتازة».وكان اجتماع مجموعة الدعم بدأ بكلمة لماكرون، الذي ذكرت تقارير انه سيزور بيروت في ابريل المقبل، أكد فيها «ان من المهمّ ان تلتزم كل القوى اللبنانية والاقليمية بالنأي بالنفس»، لافتاً الى ان كل مكونات الحكومة اللبنانية «بمن فيهم حزب الله» أعطوا التزامات في هذا الإطار، ومشدداً على «استقرار لبنان مهم للمنطقة بأكملها ومن الاساسي أن يُحترم مبدأ عدم تدخل المجموعات المسلحة اللبنانية في الأزمات».وقال: «لبنان يتمتع بدعم كامل من المجتمع الدولي وعليه تطبيق سياسة النأي بالنفس بشكل كامل (...) وسيادة لبنان وسلامة أراضيه هي من المبادئ التي يجب أن يحترمها الجميع، وعلى لبنان العمل على اعادة عمل المؤسسات وإطلاق عملية اصلاح»، ومضيفاً: «لبنان مر بفترة ارتباك وقد استعاد الحريري منصبه كرئيس حكومة وهذا القرار اتخذه بدعم من الرئيس ميشال عون»، داعياً «المجتمع الدولي إلى الوقوف إلى جانب لبنان»، ومعتبراً أن «الجيش اللبناني هو مفتاح السلام والامن في لبنان».بعدها تحدّث الحريري معلناً «ان لبنان عَبَر للتوّ أزمةً كان من شأنها أن ترتدّ على استقراره»، وموضحاً «ان هذه الأزمة سمحت بتأكيد تعلق كل المجتمع الدولي باستقرار لبنان، كما سمحت بقياس إرادة جميع اللبنانيين حماية بلدهم من النار الإقليمية التي تحيط بهم. وبالفعل قامت جميع التشكيلات السياسية اللبنانية بإعادة تأكيد التزامها احترام النأي بالنفس عن النزاعات الإقليمية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية». وأضاف: «وعلى أساس هذا الالتزام، قررت سحب عرضي الاستقالة وعلى حكومتي الآن أن تكرس نفسها لمهمة حفظ أفضل العلاقات مع الدول العربية ومع المجتمع الدولي على أساس احترام قرارات مجلس الأمن ولا سيما 1701».واذ اعتبر «ان استقرار لبنان قد يبدو بمثابة معجزة صغيرة نظراً للنزاعات العديدة التي تقوض استقرار المنطقة، وهو استقرار نحافظ عليه بالتضحيات والحوار والتسوية»، تطرق الى «تضحيات الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية» مؤكداً «ان القدرة على الحوار والتسوية تسمح بالحفاظ على السلم الأهلي في إطار احترام الدستور واتفاق الطائف»، ومعلناً «ان سياسة النأي بالنفس التي أعادت حكومتي التأكيد عليها ستسمح لنا بالحفاظ على وحدتنا الوطنية في إطار احترام الإجماع العربي». وفي المؤتمر الصحافي المشترك في ختام أعمال المؤتمر، أعلن لودريان ان «الشركاء في المجموعة الدولية لدعم لبنان ذكّروا بحرصهم الكامل وبالإجماع على سيادة لبنان»، مؤكداً «التزمنا بدعم لبنان والجيش والقوى الأمنية، وندعو مختلف الأحزاب اللبنانية ألا تنزلق أو تشارك بالنزاعات الخارجية وألا تجلب الى بلدها التوترات الإقليمية، وهذا ما نسميه النأي بالنفس».ثم أكد الحريري «ان هذا الاجتماع شهد إجماعاً على استقرار لبنان، والجميع ينتظرون أن يُطبق قرار الحكومة النأي بالنفس من كل المكونات السياسية، وأرى أن كل الأفرقاء السياسيين من خلال وجودي في الحكومة، يريدون تطبيق هذا القرار». ورداً على أسئلة الحاضرين، أكد وزير الخارجية الفرنسي «ان علاقات فرنسا مع السعودية هي علاقات ثقة وشفافية كبيرة جداً، في ما يتعلق بالقرارات والنيات ومبادرات الطرفين، وبالتالي فإن هذا الاجتماع حصل بعلم كل الأطراف والفعاليات، بما في ذلك السعودية»، قبل ان يوضح رئيس الوزراء اللبناني «ان مصلحة لبنان تقتضي أن يحترم الجميع قرار النأي بالنفس بشكل واضح وصريح. وأي خرق لهذا القرار يضع لبنان في دائرة الخطر في المنطقة. أنا سأكون جدياً جداً في هذا الموضوع».ولم يَحجب اجتماع مجموعة الدعم الأنظار عن «الهَبّة» اللبنانية دعماً للقدس بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بها عاصمة لاسرائيل ونقل سفارة بلاده اليها. وفي موازاة سلسلة تحركات في الشارع ستتوالى في الأيام المقبلة عقد البرلمان جلسة عامة استثنائية أكدت التنديد بخطوة الإدارة الأميركية.
خارجيات
افتتحه ماكرون بحضور الحريري ومشاركة تيلرسون
«تدويل» نأي لبنان بنفسه والنأي الإقليمي عنه في اجتماع باريس
02:31 ص