قبل بضعة أيام، تداولت وسائل إعلام على نطاق واسع حول العالم تقريرا عن دراسة طبية حديثة أجريت في الهند وكشفت عن وجود علاقة ارتباطية بين ظهور الصلع والشيب في سن «مُبكرة» لدى الذكور تحديدا وبين احتمالات الإصابة بأمراض القلب، وهي الدراسة التي خلصت نتائجها إلى أن «الذكور الذين يظهر لديهم الصلع أو الشيب في سن مبكرة يكونون أكثر عرضة بخمسة أضعاف للإصابة بأمراض القلب مقارنة بنظرائهم الذين لا يعتريهم الشيب أو الصلع في المرحلة العمرية الـ «مبكرة» ذاتها».لكن السؤال الذي يطل علينا برأسه هنا هو: ما هي تحديدا السن التي يمكننا عندها أن نُطْلق صفة «مُبكر» على بدء غزو الشيب أو بدء زحف جحافل الصلع في الرأس؟ هل هي سن الصبا والمراهقة، أم العشرينات، أم الثلاثينات، أم الأربعينات؟الواقع أن الإجابة عن هذا السؤال لها جانبان، أحدهما شخصي نسبي يتفاوت وفقا لاعتبارات انطباعية نفسية وثقافية، أما الجانب الآخر فهو طبي بيولوجي.فعلى الجانب الأول، يمكن أن تكون المسألة نسبية إلى حد كبير، إذ إنها قد تتوقف لدى كثيرين على مدى رغبتهم في أن يظل مظهرهم «شابا وجاذبا» في نظر الجنس الآخر أو على تصوراتهم الذهنية النمطية التي استقوها من ثقافتهم المجتمعية حول بدء ظهور أعراض الشيخوخة الخارجية. ومن هذا المنظور، فإن صفة «مبكر» قد تتفاوت من شخص إلى آخر، بحيث إن البعض قد يعتبرونها في الثلاثينات من العمر، وقد يراها غيرهم في الأربعينات، بينما قد يراها آخرون في الخمسينات أو حتى في بدايات العقد السادس من العمر.أما من الجانب الطبي البيولوجي، فإن صفة «مُبكر» تأخذ تعريفا آخر يعتمد على اعتبارات أخرى تأتي على رأسها الاعتبارات الجينية (الوراثية)، وعلى هذا الأساس يتم تحديد إلى أي مدى يعتبر الشيب أو الصلع مبكرا أم لا.وانطلاقا من كون ظاهرتي الشيب والصلع تشكلان «شبحين» مقلقين لذكور وإناث كثيرين من فئات عمرية مختلفة، فإننا نسلط الضوء عليهما في هذه السلسلة المؤلفة من حلقتين، وذلك من جوانب تثقيفية عدة، مع التأكيد على أن الأطباء المختصين هم أصحاب القول الفصل في كل حالة على حدة.وحلقة اليوم عن الشيب عموما، مع التركيز بشكل خاص على الشيب المبكر الذي يمكننا أن نعتبره ضيفا يحلّ «على الراس»... لكنه يكون دائما «ضيفا ثقيلا»:

ضيف يغزو!

الشيب هو ذلك «الضيف» غير المرغوب الذي يأتي لا ليتلقى كرم الضيافة، بل ليغزو شعر الإنسان فيشعله بياضا.وبسبب غزوات ذلك الضيف «الثقيل» رغم كونه غير ملموس، يتغيّر لون شعر الشخص من لونه الأصلي الطبيعي الذي وُلد به (سواء كان أسود أو أشقر أو أصهب) إلى درجة من درجات اللون الرمادي أو الأبيض. وهو يعتبر أمرا طبيعيا لدى الأغلبية الساحقة من البشر إذا ظهر مع التقدم في العمر، وتحديدا ابتداء من منتصف أربعينات العمر أو قبل ذلك بقليل في معظم الحالات.ولأن الشيب مُبرمج جينياً؛ فإنه بعد بدء ظهوره، يبدأ زحفه في التزايد بوتيرة متفاوتة لدى كل شخص على حدة على مدار بقية سنوات عمره، ومع بلوغ الإنسان سن الـ 60 إلى 70 عاماً يشيب شعره كله تقريباً إلا في حالات استثنائية.

كيف يبدأ؟

كلما تقدم الإنسان في العمر، يقل لديه إفراز مادة الميلانين المسؤولة عن إكساب شعره لونه الطبيعي الأصلي. وعند مرحلة معينة مع مرور السنوات، تتوقف الخلايا الملونة الموجودة في بصيلات الشعر عن انتاج تلك المادة. وهكذا، تتناقص صبغة الشعر تدريجيا فينمو الشعر الجديد بلا لون، ولا يتبقى فيه إلا لون مادته الأساسية التي يتألف منها، ألا وهي مادة الكرياتين التي لا لون لها، فتكون نتيجة ذلك أن الشعر يبدو فضيا أو رماديا أو أبيض اللون.ومن بين المسببات أو العوامل المساعدة الأخرى أنه مع مرور العمر يزداد نشوء جيوب هوائية في داخل الشعر، ما يؤدي بدوره إلى تأكسد مادة الميلانين فتتحول إلى مادة شفافة عديمة اللون فتضفي على الشعر اللون الأبيض أو الفضي اللامع.

أنواعه

هناك نمطان أساسيان من الشيب الذي يغزو شعر جسم الإنسان عموما، وشعر الرأس والوجه على وجه الخصوص.• النمط الأول هو الشيب الطبيعي الذي يظهر تدريجيا نتيجة للتقدم بالعمر ابتداء من أوائل أربعينات العمر تقريبا.• أما النمط الثاني فهو الشيب المبكر الذي يبدأ «اشتعاله» قبل بلوغ الشخص سن الثلاثين. وينشأ هذا النمط الثاني كنتيجة لأسباب عدة محتملة سنشير إليها لاحقا في سياق هذا التقرير.

متى يُعتبر «مبكراً»؟

من شخص إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، هناك خلافات في الرأي والتقديرات حول متى وفي أي سن يمكن إطلاق صفة «مبكر» على الشيب، إذ إن هناك أشخاص (وبخاصة النساء) قد يرون أنه مبكر إذا ظهر في أربعينات أعمارهم، بينما في بعض الثقافات قد يكون ظهوره في أواخر الثلاثينات أمرا طبيعيا ومقبولا.لكن هذه الخلافات في التقديرات تتضاءل إلى حد بعيد عند النظر إلى الشيب من منظور طبي بحت، إذ إن لذلك المنظور موازين معيارية شبه ثابتة وتصنف كون الشيب مبكرا من عدمه على أساس اعتبارات بيولوجية ووراثية تضع في الاعتبار أيضا العوامل المساعدة الأخرى كنمط التغذية والأمراض العضوية التي تسهم في التعجيل بظهور الشيب قبل الأوان.

مسبباته

على الرغم من أن آليات حدوث الشيب عموما، والمبكر خصوصا، ما زالت غير محددة بشكل مؤكد، فإن هناك اتفاقا بين أهل الاختصاص على أن هناك مسببات رئيسية تقف وراء ظهور الشيب. ومن بين تلك المسببات نذكر ما يلي:• الوراثة الجينية:بالنسبة للشيب المبكر تحديدا، يلعب العامل الجيني (الوراثي) دورا أساسيا مهما في نشوئه. لذا، فإنه في حال كان الشيب المبكر قد ظهر على أحد والديك أو أجدادك فإن احتمالات ظهوره لديك تكون مرتفعة ومرجحة نسبيا.لكن حتى الآن، ما زالت الآلية الوراثية للشيب المبكر غير معروفة على وجه التحديد، لا سيما وأنه تتداخل معها مؤثرات وعوامل أخرى.• العوامل النفسية: فمن الثابت علميا وبحثيا أن هناك تأثير للانفعالات الوجدانية الحادة والمتكررة مثل الخوف والهموم والحزن والقلق والتوجس.• بعض الأمراض العضوية: هناك دور تلعبه الإصابات المزمنة ببعض الأمراض العضوية، وخصوصا أمراض الجهاز الهضمي وأمراض اختلال وظائف الغدة الدرقية. فمثل تلك الأمراض العضوية – ولا سيما إذا كانت متكررة – تسهم بأشكال متنوعة في التعجيل بظهور الشيب. وقد يكون من أسباب ذلك كون أن تلك الأمراض يصاحبها عادة ارتفاعات في درجة حرارة الجسم، وكلها عوامل إضافية تساعد على حدوث الشيب المبكر. وإلى جانب ذلك، هناك أدوار مساعدة أخرى قد تلعبها بعض الالتهابات المزمنة، كالتهابات اللثة والأسنان والتهابات فروة الرأس الدهنية.• سوء التغذية: يمكن لسوء التغذية أن يلعب دوراً مؤثراً في نشوء الشيب المبكر، وخصوصا في حالات النقص الشديد في بعض العناصر الغذائية الضرورية لإنتاج مادة الميلانين المسؤولة عن إكساب الشعر لونه الطبيعي.ومن أهم تلك العناصر: الحديد، والنحاس، وحمض الفوليك، وفيتامين (B) المركب بأنواعه.في الحلقة المقبلة:«ثعلبة» و«صحراء»... في فروة الرأس!