رغم نشأتي في المدينة، اكتسبت، إن كان عبر تمضية موسم الصيف أو عبر «دردشات» مع الأصدقاء، العديد من المصطلحات التي يتداولها أبناء جبل لبنان بمختلف طوائفهم وأعمارهم.ومن تلك المصطلحات عبارة «المَحْرَكون»، وهو الشخص «الوضيع» الذي يضمر الشر لأبناء قريته أو حتى عائلته، ما يدفعه إلى اللجوء إلى النميمة والتحريض لخلق ونشر الفتنة. إن هذا المصطلح يعود أصلا الى «المحراك» وهو أنبوب من الحديد يستعمله أهل الجبل لتحريك «الوجاق» أو مدفأة الحطب، أي تقليب الجمر الذي عادة ما يكون راقداً تحت الرماد.تلك العبارة كانت أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ خطاب رئيس التيار الوطني الحر ووزير الخارجية جبران باسيل، الذي وخلال جولته على قرى جبل لبنان الأحد الفائت، نزع قناع التقية السياسية وأعلن على الملأ أن مصالحة الجبل بين الدروز والمسيحين غير مكتملة.باسيل الذي عود اللبنانيين على غياب الدماثة والتهذيب في خطابه السياسي، اعتبر أن «التيار» غير معني بالمصالحة التاريخية التي جرت في صيف العام 2000 بين البطريرك مار نصرالله بطرس صفير والزعيم الدرزي وليد جنبلاط والتي اختَتمت، ولو سياسيا، مسيرة عودة المسيحيين المهجرين إلى قراهم إثر حرب الجبل التي وقعت بين الطرفين والتي كان الحسم العسكري فيها للجانب الدرزي.وفق باسيل، إن المصالحة، التي كان أحد أهم أركانها الدكتور سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية المعتقل آنذاك، غير منجزة كون «التيار» لا يزال غير ممثل سياسياً في جبل لبنان. واقع، يطمح باسيل إلى تغييره في الانتخابات المقبلة ولو على حساب حرب جديدة على ما يبدو. بالنسبة للكثيرين، هذا الموقف «الباسيلي» ليس بجديد كون «التيار» ومنذ عودة رئيسه الجنرال عون من منفاه الباريسي سنة 2005 لم يفوت أي فرصة لتذكير المسيحيين بأن الدروز وزعيمهم سفكوا دماء أقاربهم ودمروا كنائسهم وسرقوا أجراسها.يضاف إلى خطاب التحريض، ظهور العديد من المناشير مجهولة المصدر في ذكرى مجازر حرب الجبل، والتي تُذكر البعض بالماضي الأليم وتحرض الأهالي على رفض المصالحة التي أتت على دماء الأبرياء وفق هؤلاء «الغيارى»على مسيحيي الشرق ولبنان.خطاب «مين سرق الجرس» طبع العلاقة بين التيار العوني والجنبلاطيين، إلى أن زار عون، جنبلاط في قصره في المختارة سنة 2010. وفي بادرة أو تقليد قبلي يعكس المصالحة بين الزعيمين، قام البيك - حفيد عامود السماء بشير جنبلاط - بقيادة سيارته الخاصة برفقة الجنرال في جولة في منطقة الشوف. ورغم رمزية الملحق التصالحي، يرفض باسيل الاعتراف بالالتزام الأخلاقي الذي أخذه على عاتقه عمه قبل ان يورِّثه «سلطة» التيار، ليصبح رئيساً.مصالحة الجبل والمصالحات الأخرى كافة والتي مهدت لعودة المسيحيين، طوت بمجملها صفحة الجرائم التي اقترفها الدروز والحزب التقدمي الاشتراكي من جهة والمسيحيين و»القوات» من جهة اخرى. ورغم انتقاد العديد من المتابعين لتلك المصالحة والتي كان يجب أن تحذو حذو النموذج الجنوب أفريقي (لجنة الحقيقة والمصالحة) تبقى هذه المصالحة خطوة شجاعة في الاتجاه الصحيح. فمن وجهة نظر قانونية وتحكيمية، «التيار» وكما يزعم رئيسه الحالي والسابق لم يشارك في الحرب الأهلية، بل أن عون وكقائد سابق للجيش اللبناني لم يكن في مركزه سنة 1983 وأن الدروز وجنبلاط لم يوصموا الجيش كعدو لقضيتهم رغم التصدي الفئوي له آنذاك. ومن هذا المنطلق فإن عون وعشيرته السياسية لا يُعتبران شركاء في الحرب ولا حتى في المصالحة، وهي حقيقة ساطعة يرفض أتباع باسيل قبولها.قد يبادر الكثيرون إلى وضع تصريح باسيل الشعبوي ضمن خانة الحملة الانتخابية للتيار، إذ يلاحظ أن باسيل الذي عادة ما يترشح عن قضاء البترون قد زار قضاءي الشوف وعاليه أكثر من مرة خلال السنة الفائتة، ما يشير إلى أهمية تلك المنطقة للعونيين. فإذا كان هذا التصريح الفتنوي يندرج في سياق لعبة العروش والتحضير لحلول باسيل مكان عمه في القصر الجمهوري، فاللبنانيون أمام جموح وعطش سلطوي لا مثيل له، ولن يقفوا حتما صامتين أمام التضحية بالبلاد والعباد.أما الأخطر في حفلة الجنون «الباسيلية»، فيكمن في كون الخطاب الفتنوي قناعا لطابور خامس يمهد لعودة مسار جبل لبنان السياسي إلى سورية وأعوانها، عبر غطاء سياسي انتخابي يؤمنه «التيار» الأسخريوطي الطامح إلى السلطة.باسيل، وخلال خطابه أمس، اعتبر أيضاً أن عودة المسيحيين لم تكتمل بسبب عوامل اقتصادية وغياب الخدمات والبنى التحتية في تلك القرى. والمفارقة أن هذا الشق في الخطاب هو محط إجماع كون العودة الحقيقية وحتى بقاء الدروز في أرضهم هو تحدٍ اقتصادي وليس سياسيا، كما يريد باسيل إقناع العامة.خلال أحداث الجبل الأليمة، تعرّف اللبنانيون وتحديدا أهل الجبل عن كثب على البارجة الأميركية «نيوجرسي» وقذائفها الجبارة التي أُرسلت إلى لبنان لمساندة «قوى الشرعية» أو الطرف المسيحي في حربه، وقد خلد الشاعر طليع حمدان البارجة «النيوجرسية» في زجليته المشهورة آنذاك. لكن أحدا لن يخلد بواخر الوزير باسيل الكهربائية الهائمة في عرض البحر كعائق سياسي أمام نهضة اقتصادية تسمح للبنانيين بمختلف طوائفهم بالعيش الرغيد بعيدا عن الضرائب والإجراءات الهمايونية لرجال الحكم العوني.قد تكون من السذاجة السياسية المراهنة على حكمة باسيل في سحب الخطاب المذهبي من سوق النخاسة السياسية، ولكن في حال تحقق ذلك يبقى على صهر الرئيس وسائر الطامحين إلى المصالحة التيقن جيدا بأن دماء الأبرياء ودموع الأمهات في أي صراع مقبل لا تكفي وقودا في محركات سفنهم ولا في حروبهم الواهية نحو السلطة.