«إن حق الآخرين بالتعبير عن رأيهم هو جزء لا يتجزأ من حقي... حتى هذه اللحظة لم أجد أو أعرف شخصاً يصلح لأن يحدد لي مسبقاً ما أقول أو ما أقرأ».بهذه العبارة يضع المفكر الراحل والمثير للجدل البريطاني - الأميركي كريستوفر هيتشنز، الصراع الأزلي حول مفهوم الحرية وحق الأفراد بالتعبير عن رأيهم من دون قيد أو رقيب. حسب هيتشنز الذي صادقته في زيارته إلى بيروت ولاحقاً خلال إقامتي في واشنطن، إن الفاشيين بمختلف أشكالهم توّاقون إلى تقييدنا بمجتمع شبيه بالذي انتقده المفكر جورج أورويل في روايته «1984» حيث ترى عيون «الأخ الأكبر» الجميع.ورغم أن اللبنانيين لا يفوتوا الفرصة لتذكيرنا بأن بلدهم منارة للحريات وواحة فكرية في صحراء قاحلة، «فالأشقاء» أو «الإخوان اللبنانيون» بمختلف أعمارهم وتوجهاتهم، يمارسون في شكل ممنهج رياضة الرقابة الفكرية على المنتجات الثقافية المحلية والمستوردة غالباً.وتحت ذريعة التطبيع مع الدولة الإسرائيلية، يُساق المتهمون إلى محاكم افتراضية تتطابق مع محاكم التفتيش الكنسية في القرون الوسطى التي أعدمت الآلاف من الأشخاص لممارستهم الشعوذة والسحر. من آخر المشعوذين والسحرة الذين اقتيدوا إلى محاكم التفتيش اللبنانية، المخرج اللبناني العالمي زياد الدويري الذي تم توقيفه من قبل الأمن العام لدى عودته إلى بيروت لافتتاح فيلمه الجديد «القضية رقم 23».توقيف الدويري الذي يتردد إلى العاصمة اللبنانية ويقيم فيها بشكل متقطع أتى نتيجة وشاية وحملة من قبل بعض «المفكرين» الذين وصموا الدويري، بالصهيوني والمتطبع، نتيجة قيام الأخير بتصوير فيلمه «الصدمة» في فلسطين المحتلة، ما يشكل خرقاً للقانون اللبناني الذي يعاقب أياً من مواطنيه إذا ما دخل الأراضي الإسرائيلية. تباعاً، ورغم ذنبه، رضخ الدويري للإجراءات القانونية ومَثل أمام المحكمة العسكرية التي برأته، خلال ساعات قليلة فقط من اعتقاله، من جريمةٍ سقطت بمرور الزمن الثلاثي، ما خيب آمال معارضيه.«الصدمة» الذي منع عرضه آنذاك في لبنان، لم يعرّض الدويري للملاحقة القانونية، بل اكتفى معارضوه «بحرق قلب» المخرج الذي فشل آنذاك بإقناع مهاجميه بأن مصداقية فيلمه - المعادي للصهيونية للمصادفة - أجبرته على تصوير بعض المقاطع في تل أبيب، على عكس فيلمه الحالي الذي صور بكامله في لبنان وبمساعدة من الأجهزة الأمنية اللبنانية.«القضية رقم 23» تطرح إشكالاً بين طوني، وهو مواطن لبناني مسيحي مناصر لـ «القوات اللبنانية» فقد والدته في إحدى مجازر الحرب الأهلية، وياسر وهو مهندس فلسطيني متزوج من لبنانية ويعمل - كما معظم اللاجئين من دون إجازة عمل - في تأهيل شارع في المنطقة المسيحية من بيروت. رفْض طوني مبادرة ياسر بإصلاح مزراب شرفته يؤدي إلى تلاسن بين الرجلين وتبادل شتائم عنصرية، تدفع طوني إلى اللجوء للقضاء لإجبار خصمه على تقديم اعتذار علني، يتطور في سياق سينمائي درامي شيّق يطرح ولو بشكل سطحي معاناة الفلسطينيين ومسألة المصالحة بين اللبنانيين والفلسطينيين الذين حرموا من حقهم بالذاكرة.جوهر الخلاف كمزراب طوني وياسر، يتعدى جنحة الدويري الذي تحدى فيلمه الحالي أنصار محاكم التفتيش الذين أملوا بحجب الفيلم الحالي كما فعلوا سابقاً منعاً للتالي. الدويري، عن قصد أو غير قصد، طرح موضوعاً هو في العادة حكراً على بعض «المتفلسفين» الذين امتهنوا القضية الفلسطينية وجعلوا منها مصدر قوتهم. المفارقة هنا، أن معظم عاشقي فلسطين لا يعشقون الفلسطينيين، فمحاربو الصهيونية الفاشية لم يمانعوا قصف نظام الأسد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سورية، كون هذا النوع من القتل وهدر دماء الأطفال في مخيم اليرموك والرمل هو ضريبة لا بد أن تدفع لتحرير القدس.ولعلّ خطيئة الدويري الكبرى، هي كسر النمط التقليدي وإزالة قناع «الشيطنة» عن «القوات اللبنانية» أو اليمين المسيحي الذي، ورغم تحالفه مع إسرائيل، يقدم طوني كممثل لمجتمع مُنع من المصالحة مع ماضيه. يضاف إلى ذلك، نجاح الدويري في تقديم شخصية ياسر الفلسطيني المثقف الغاضب بطريقة راقية بعيدة كل البعد عن النمطية العنصرية التي تعودنا عليها في أقلام مماثلة، قاطعاً الطريق على منتقديه، الذين عادة ما يستعملون حجج العنصرية للنيل من أي سرديّة تحاول انتزاع حقهم الحصري بفلسطين.إضافة الى ذلك، فإن إحدى الركائز الأساسية لفيلم الدويري هي تسليمه لحكم القانون ولعدالة المحاكم التي تشكل ظاهرة «غير لبنانية» ساذجة بنظر الكثيرين. زياد الدويري كما شخصية بطل فيلمه، سلم لحكم القضاء ورفض تدخل زوجته أو السياسيين أو حتى رئيس الجمهورية، مؤمناً بأن كرامته مصانة بالدستور وهو ليس قضية يضحى بها من أجل وأد الفتنة.بعض المطالبين بإحقاق الحق، وبعد خسارتهم أمام القضاء، ذهب بهم غلوّهم وفاشيتهم حدّ المطالبة بسفك دم الدويري ليكون عبرة لأي شخص تراوده نفسه بأن يتحدى كبار كهنة محاكم التفتيش الفكرية الذين يفضلون المحاكم الميدانية على قوس العدالة. وفي آخر المطاف، يبقى الحكم النهائي لعقول الناس الذين يعون تماماً أن مزاريب القمع الفكري لن تقف عند زياد الدويري بل قد تطول أي شخص يرفض الانصياع لمنطق الممناعة الذي يساوي بين الجلاد والضحية. وعاجلا أم آجلاً، فإن مصير مزاريب أنظمتهم القمعية ومحاكمهم ومشعوذيهم كمصير غيرها... بائدة في مجارير الطغاة.