على غرار كل الأمم والدول الناشئة، يقدم لبنان عدداً من الأساطير المؤسسة التي استند إليها المفكرون والأحزاب السياسية، ولا سيما المسيحية منها، لتحديد هويتهم السياسية والثقافية والتي أسست لفكرة لبنان الملتقى بين الشرق والغرب. فتلك الأساطير باختلاف أنواعها تؤكد في نهاية المطاف اختلاف لبنان عن محيطه الإقليمي أو في شكل أوضح «عدم إسلاميته».وقد ابتدع الآباء المؤسسون للأسطورة اللبنانية أيضاً، فكرة «لبنان الملجأ» الذي صمد على مر التاريخ أمام كل محاولات الدولة الإسلامية، ومن قبلها الإمبراطوريات المتعاقبة التي فشلت في تذويب لبنان وإخضاعه لسيطرتها. وحسب زعمهم، قدم هذا الملجأ إلى كل المجموعات المضطهدة ملاذاً آمناً بحيث استطاعت هذه المجموعات ممارسة شعائرها بحرية تامة بعيداً عن طغيان الحكم المركزي. ووفق المنطق السائد، صمد هذا الملجأ بسبب الموقع الجغرافي لجبل لبنان والتحصينات الطبيعية والوديان التي استغلها اللبنانيون أو جيشهم المعروف بـ «المردة» لدفع الغزوات المتعددة.تلك الأسطورة شكلت صميم العقيدة لما سمي بالمارونية السياسية، وهي للمفارقة حركة ضمت شلة من السياسيين والمفكرين من مختلف المجموعات المسلمة والمسيحية التي سيطرت على مفاصل السلطة السياسية والثقافية اللبنانية منذ الاستقلال سنة 1943 ولغاية سقوط المنظومة القائمة مع اتفاق الطائف وانتهاء الحرب الأهلية.تلك الأسطورة «الركيكة» تاريخياً فُكّت خيوطها سابقاً في أعمال العديد من المؤرخين المرموقين الذين قدموا الحجج والبراهين العلمية بأن لبنان لم يكن في أي زمان خارج السيطرة المركزية لأن موقعه لم يكن يشكل أي أهمية عسكرية وسياسية على خلاف السائد.ستبقى تلك الأسطورة عرضة للمناقشة من قبل المشككين بها والداعمين لها، لكن ما هو مؤكد أن المارونية السياسية فشلت في بناء وطن، بل أنها أوصدت الباب أمام العديد من الجماعات التي تبحث عن ملجأ في هذا الشرق المضطرب، ولعل آخرهم اللاجئون السوريون. وعلى عكس ما يروج له، الملجأ اللبناني يبقى نادياً خاصاً لا يستطيع أحد الولوج إليه، باستثناء حفنة من البشر التي تستطيع تقديم اعتمادات دينية واضحة، مسيحية في أغلب الأحيان، أو إثبات مطابقة حمضها النووي للخريطة الجينية للشعب اللبناني المفترض.المارونية السياسية الحالية أو «النيو- مارونية»، والتي تدّعي حماية المسيحيين واستعادة حقوقهم، ارتأت أخيراً أن تلك التجربة العنصرية البائدة والتي برهنت عن قدرتها التدميرية، ما زالت صالحة كخطة حالية بحيث يسوَّق لبنان كملجأ ومنارة للحرية والتحرر، ولكن مع تحريض الرأي العام وتجييشه ضد السوريين، ليصبح هذا الملجأ بسوء جحيم نظام الأسد وحلفائه وأهوال الحرب المستعرة في سورية. ويضاف إلى ذلك، أن «النيو- مارونية» في وجهها الجديد الأقل ذكاء وحنكة، قد نسيت مبادئ المارونية السياسية وأربابها من كميل شمعون إلى بيار الجميل وشارل مالك، والتي قد تضحي بكل شي من أجل السلطة والمراكز باستثناء الدولة، التي تبقى الملجأ الحقيقي والوحيد لجميع اللبنانيين بكل طوائفهم.أما «النيو- مارونية» المستنسخة، فقد تنازلت عن فكرة الدولة لشريكها الإقليمي المتمثل بـ«حزب الله» والذي أوصد باب الملجأ وباب الدولة معا، وفرض على اللبنانيين أُطراً حديدية لحرية التعبير والحركة السياسية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. معركة جرود عرسال الأخيرة والعراضة الإعلامية لـ «حزب الله» من جهة، وتهليل «المُتَمَوْرِنين» لانتصار ميليشيا من خارج الدولة من جهة أخرى، كل ذلك هو في نهاية المطاف تدمير للبنان الملجأ، بحيث يصبح اللبنانيون أنفسهم عرضة للطرد من مساحتهم الفكرية والجغرافية من قبل منظومة فكرية دينية غريبة عن أساطيرنا المحلية.في حين أن مقاربتي لا تعفي أخصام المارونية السياسية أو المشروع اليساري من أخطائهم السابقة. نحن الآن أمام مشروع عنصري متجدد، يفتقر هذه المرة إلى ذكاء أسلافه بحيث يصبح الملجأ سجنا كبيرا يحوي طوائف متناحرة في لعبة العروش القاتلة.يحكى بأن سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي سنة 1925، وبعد أن عاد إلى منزله ووجد أن سلطات الانتداب قد اعتقلت الثائر اللبناني أدهم خنجر الذي كان «لاجئاً» في داره، أمر النساء بإخلاء المنزل ثم بادر إلى إشعال النار فيه. حجة الباشا المزعومة أن «أي بيت لا يستطيع أن يحمي ضيفاً هو ليس ببيت يستحق الحفاظ عليه».على اللبنانيين، ولا سيما أنصار «الملجأ» من «النيو- مارونية»، أخذ العبرة من قائد الثورة السورية والتخلي عن موقفهم الأخلاقي المزعوم الذي يدّعي تأمين الملجأ في حين أن منزلهم - كما هو واقع الحال - لا يصلح لحمايتهم من أنفسهم ومن جنوحهم المتمادي في استغلال السلطة والفساد، والذي يوصد الأبواب في نهاية المطاف أمام وطن قابل للحياة.