في خضم الحروب الصغيرة والوهمية القائمة على الساحة اللبنانية للوصول إلى قانون انتخابي «عصري وعادل» يسود لدى البعض المنطق - أو في كثير من الأحيان اللا منطق - المتمثل بعقلية التيار الوطني الحر ورئيسه الحالي صهر رئيس الجمهورية الوزير جبران باسيل الذي يؤكد أن حزبه هو المدافع الأول عن حقوق المسيحيين وأن الرئيس العماد ميشال عون، هو المسيحي القوي.ومن هذا المنطلق، قام باسيل بتقديم حفنة من مشاريع القوانين التي في صميمها تهدف إلى نوع من التطهير العرقي الانتخابي بحيث ينحصر التصويت للمقاعد المسيحية في المناطق المختلطة طائفيا بالأصوات المسيحية (القانون الأرثوذكسي).ورغم عدم دستوريتها وميثاقيتها، ظهرت المقترحات المقدمة من قبل باسيل للرأي العام المسيحي بأنها استرداد لحقوقهم المسلوبة من قبل الشريك المسلم الذي احتكر التمثيل المسيحي في زمن الوصاية السورية على لبنان. ولكن في خضم حفلة الجنون المذهبية، برز عدد من الأصوات المسيحية المعترضة على هذا الفصل المذهبي وعلى رأسها النائب الماروني الشاب نديم بشير الجميل نجل رئيس الجمهورية الراحل والذي يعتبر أيقونة المسيحي المشرقي القوي.فبحسب الجميل «نقل المقاعد المسيحية والإسلامية من منطقة إلى أخرى هو دعوة للتقسيم وتبادل سكاني وتفريغ لبنان من مقوماته ورسالته» مذكرا بأن شعار والده الراحل 10452 كلم2 يتضمن لبنان بجناحيها المسيحي والمسلم.وفي حين تقوم أطراف لبنانية عدة بالتشبه ببشير وبشخصيته القوية والعدوانية، يكون من الأجدر بهم التدقيق بتجربة بشير من خلال قراءة موضوعية لكتاب الدكتور جورج فريحة «مع بشير، ذكريات ومذكّرات» الصادر حديثا عن دار سائر المشرق والذي يحسم مفهوم «المسيحي القوي» ويضع إطارا سليما للجدل القائم.فريحة الذي واكب الصعود المكوكي لبشير يعتبر من الحلقة المصغرة لقائد «القوات اللبنانية» في بداية الحرب وأحد أهم العناصر التي ساعدت بشير في تغيير صورته النمطية كأمير حرب، والتحول التدريجي نحو العمل السياسي الذي تكلل بانتخابه رئيسا للجمهورية اللبنانية، ولو على ظهر الدبابة الإسرائيلية بعد اجتياح لبنان سنة 1982.إلى جانب حفنة من المثقفين، لعب فريحة دورا محوريا في فك العزلة الدولية والعربية عن بشير الذي صنف في بادئ الأمر كشخص دموي يكن الكره والضغينة للمسلمين. فجورج فريحة، الأرثوذكسي ذو الثقافة الإنغلوسكسونية وأستاذ علم الطفيليات في الجامعة الأميركية وصهر عائلة الجميل، ساعد بشير في إقامة كيان مستقل عن حزب والده التقليدي «الكتائب اللبنانية» والذي يرى الكثيرون أنه كان أسير الميثاق الوطني و استقلال 1943 البائد بنظر جيل بشير.كشخصية فريحة الفريدة المتميزة بالصراحة و في كثير من الأحيان بالحدية، تضع المذكرات أمام العامة تفاصيل مرحلة دقيقة وحساسة من تاريخ لبنان الحديث تتضمن علاقة بشير مع إسرائيل والتي في نظر الكثيرين كانت خطيئتها الكبرى والتي لا مبرر لها اغتياله. مواكبة فريحة لبشير أتت كأمين سره الخاص ( Chief of Staff) و التي تضمنت لقاءات حساسة، من بينها اجتماع نهاريا الشهير الذي جمع في 2 سبتمبر 1982 الرئيس المنتخب مع رئيس مجلس الوزراء الأسرائيلي حينها مناحيم بيغن وأركان حكومته للاحتفال بانتخاب بشير رئيسا و للضغط عليه لإقرار اتفاقية السلام ما بين البلدين.اعتبر هذا الاجتماع السري، والذي سرب عبر السنين في كتب وتقارير عدة، مفصلي في علاقة الموارنة مع إسرائيل. وقد دفع جنوح البعض إلى اتهام إسرائيل باغتيال بشير بسبب مجريات هذا اللقاء الذي تميز بالبرودة والصدامية بين بيغن الذي كان تواقا الى الخروج من المستنقع اللبناني عبر إبرام اتفاقية سلام وبين بشير الذي أيقن بأن نصف شعبه، المسلم على الاقل، رافض لمثل هذا التطبيع الفوري. ينفرد فريحة بسرده لاجتماع نهاريا وكل اللقاءات الحساسة كونه هو الشخص المعني بتدوين محضر الجلسات وتقديم التقارير الى بشير وفريق عمله، مما جعله حارسا لذاكرة مجتمع بأسره اتهم بسعيه للتقسيم والعداء للمسلمين.فمذكرات فريحة لا تكترث الى تبرير خطوات بشير وفريق عمله وبالتحديد «خطيئة» الحلف مع اسرائيل، لكنها تستعرض المنطق الذي اتبعه بشير في طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان ولو اقتضى الأمر عقد «الصفقة الفاوستية» والتي أودت بحياته. ورغم قيام فريحة بتوثيق عملية نضوج بشير السياسي والإنجازات السياسية التي حققها وبالتحديد فتح قنوات اتصال مع الولايات المتحدة والدول الغربية وحتى العربية، لم يخفِ فريحة نزعة بشير العنفية والدموية في التعامل مع حلفائه من المسيحيين ومع أعدائه.يستذكر فريحة أحداثا عدة، منها مواقف طريفة كتهديد بشير أحيانا لبعض الشخصيات بوضعهم في صندوق السيارة في حال امتناعهم عن المثول لمشيئته السياسية. ويأتي تأكيد فريحة على شخصية بشير العنيدة مطابقة لوصف الأباتي بولس نعمان، رئيس الرهبنة المارونية السابق، الذي عرض سابقا في مذكراته «الإنسان الوطن الحريّة» لرحلته مع ما اسماه حلم لبنان.في أي حال تبقى مذكرات فريحة وثيقة إضافية قيمة ومفصلية للغوص في تاريخ الحرب الأهلية ومشروع بشير غير المكتمل، ولكن في الوقت نفسه هي إطار لحسم مطالبة الكثيرين في زمننا الراهن بحقوق المسيحيين.فبشير الذي دفعه طموحه إلى الهاوية أصر على الوصول إلى سدة الحكم عبر البرلمان وإن حصل هذا الانتخاب على هدير الدبابات الإسرائيلية. إضافة إلى ذلك فإن بشير الرجل المسيحي القوي ابن الأربعة وثلاثين عاما لم يكن ليطرح أي قانون انتخابي تأهيلي أو «الترانسفير» الطائفي الذي يضعف التركيبة اللبنانية وينهي الخصوصية التعددية للبنان. المشروع «البسماركي» لبشير وأقطابه ومسيرة الدم و الحديد يبقيان ضمن إطار الحفاظ على لبنان، الذي سقط الاف من الشهداء من كافة الأطراف للحفاظ عليه.لعله من الأجدر بأي سياسي طامح الى التشبه ببشير أو ادعاء احتكار حقوق أي طائفة من الطوائف الثماني عشرة المؤلفة للنسيج اللبناني التذكر بأن القوة تأتي مع الاعتدال و مع خلق مناخ من المشاركة في وطن قابل للحياة بعيدا عن المحاصصة و الحسابات الضيقة لأصحاب النفوس الضعيفة.