| علي الرز |
في المرحلة الابتدائية درسنا مقررا اسمه «اصدقائي الستة»، كمدخل لابد منه لزيادة المعرفة وتوسيع المدارك. والاصدقاء هم: من؟ ماذا؟ لماذا؟ كيف؟ متى؟ أين؟. في المرحلة السياسية، وخصوصا العربية، توارى «الاصدقاء» وصارت «القناعات» لا الوقائع هي التي تحدد الحقائق. اعود الى هذا الموضوع في وقت لاحق.
عملت مع «الصديق» الاستاذ غسان شربل لسنوات واقتربت في احيان كثيرة من صندوقه الاسود الذي يسجل فيه بيانات عمله واحداثيات مساره وخريطة طريقه الاعلامية.
رجل لا ينتظر حدثا بحجم معركة او اغتيال او كارثة لينضم لاحقا الى فريق المنقذين والباحثين أملا في اكتشاف دليل يبني عليه قصة، بل كان في احيان كثيرة يعطي مؤشرات الى حصول الحدث. يفخخ سؤالا على الورق لتفجير حقل ألغام في السياسة، ويستدرج محاوره الذي «يتذكر» الى حافة «يتوقع». يسأله مباشرة عن الخوف من التصفية بيد اعداء او «اصدقاء» استنادا الى تاريخ يموج بالتطورات، اختلطت فيه معايير الوطنية والانتماء والصحوة بمعايير الخيانة والغدر ونقل البندقية من كتف الى اخرى. يضعك صاحب «الصندوق الاسود» في نهاية الحوار امام شرفة مفتوحة على افق اسود. تتوقع الاسوأ. تتوقع الاسهل. هنا ينتهي دوره ويبدأ دورك، وما عليك سوى العودة الى الشريط لـ «تتذكر» من امسى قتيلا ومن صار شهيدا.
... وصاحب «الصندوق الاسود» مهني محترف يكره «التبصير» والتنجيم ورمي الكرات يمينا بهدف التصويب يسارا. يبعد آراءه الشخصية التي تضمها افتتاحياته في «الحياة» عن عمله في سلسلة «يتذكر». همه تأريخ اللحظة او المشهد او الصورة او المرحلة بلسان اصحابها وبأسلوب مباشر. لا يدّعي انه كان حاضرا في اجتماع مصيري تقررت فيه حروب واغتيالات. لم يختبىء «وراء ستارة» ليسمع. لا ينسب اخبارا لمصدر «قريب» من «قريب» لشخصية مهمة «قريبة» من صاحب القرار. يجلس مع محاوره في اي مكان بجلد وصبر وتركيز يحسد عليها. يتركه يتحدث كما لو كان يراجع شريط حياة. يتركه مسترسلا حتى النهاية ثم ينقض متدخلا في المحطات التي يرى انها اساسية، فيحصرها في دائرة معلومة ليرفع الحصار عن دوائر مجهولة.
والاهم من ذلك كله، ان غسان شربل لا يعتبر نفسه «صاحب رسالة» او قضية غير تعميم المعرفة والمعلومة والانحياز للخبر والحقيقة، فلا يؤدلج ولا يغمز ويلمز ولا يمرر أو يسرب. يحترم عقل القارئ وذكاءه ويعرف ان عهد الاعلام الموجه او الحزبي انتهى بمجرد تحريك «الفأرة» او كبس زر الريموت كونترول او تغيير محطة الراديو.
في كتاب غسان الجديد ، كما في سلسلة «يتذكر»، ينتقل القارئ من التلقي الى الشراكة... اقله في مراجعة النتائج وربط الاحداث ببعضها. تستحضر «اصدقاءك الستة» فورا عند متابعة اول قراءة موثقة مسؤولة عن لغز الالغاز وديع حداد... «مَن» كان العقل المدبر وصاحب فكرة خطف الطائرات ونقل القضية الفلسطينية من ملفات اللاجئين والادارات السياسية الى الناس والعقول والضمائر؟ و«مَن» اشترك معه في التخطيط والتنفيذ؟، «مَن» بقي وفيا ومن تنكر؟ «ماذا» كانت نتيجة اعماله وهل خدمت الاهداف التي رسمت لها؟ و«ماذا» فعل رفاقه في «الجبهة الشعبية» امام ضغوط العالم والانظمة العربية وانقسامات الداخل؟ و«ماذا» يقول عنه ابنه الذي فتح دفاتره الانسانية والسياسية والفكرية لمؤلف الكتاب؟ «لماذا» تغيرت الخطط والاهداف وغيرت مسارها في اللحظات الاخيرة؟ و«لماذا» كان حداد مصرا على اسلوب عمل واحد لم يحد عنه؟ «كيف» تصرف في اصعب الظروف واقساها؟ و«كيف» تعامل ورفاقه مع ردود الفعل؟ و«كيف» كان يعيش و«كيف» مات؟ «متى» خطط للعمليات و«أين»؟ و«أين» تم التنفيذ؟
اسئلة كثيرة لم يترك غسان شربل «صديقا» الا واستعان به من اجل تغطية كل اجاباتها. اصدقاء فعليون وغير وهميين. بعضهم شارك في التخطيط وبعضهم في التنفيذ. اصدقاء قساة وانقياء، كما وصفهم، طالبا من الله ان يسامحه لانه احب بعضهم، رغم ان على ايادي هؤلاء بعضا من دماء ابرياء انقياء ايضا.
ومثلما استعان بجميع اصدقائه ترك لك خيارات الاستعانة بمن ترى انه مفيد لوقت التفسير. ففي حالة وديع حداد كان لا بد من استحضار الجميع بما في ذلك الارواح لكشف لغز استعصى على العرب والعالم فك طلاسمه. كان «الصندوق الاسود» اول من اماط اللثام عن رجل ومرحلة وقضية. كان جهدا «تأسيسيا» لعصر اراده اصحابه عصر نضال وكفاح ثم ضاعت اهدافه بفعل جملة «انحرافات» شارك فيها رفاق حداد انفسهم... «سقطوا بعد رحيله. ربما بسبب غياب المظلة وربما ايضا لانهم وقعوا في ما كان يحميهم منه: نسج علاقات مع دول واجهزة فضلا عن الوقوع في النجومية».
واذا كان وديع حداد هو العمود الفقري لـ «لصندوق الاسود» بل الصندوق نفسه، فان ما في الصندوق لا يقل اهمية وتشويقا. «الرفيق» كارلوس في عملية فيينا يجيب للمرة الاولى عن سؤال الصديق «من»؟ فالعقل المدبر لخطف وزراء النفط كان الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي؟ وعند الوصول الى الصديق «كيف»؟ تستدرج الردود ردودا اخرى من اناس شاركوا في العملية ولم تعجبهم رواية كارلوس. يدخل انيس نقاش بكل اسلحته ووثائقه ليرد على «كيف»؟ و«لماذا»؟ و«ماذا»؟ بحكم ان الصديقين «أين» و«متى» واضحان في الزمان والمكان... ثم يغلق غسان شربل صندوقه بلقاء كبير مع جورج حبش، نشره سابقا، لكن وضعه في سياق تلك المرحلة له مذاق آخر في القراءة والاستنتاج.
وكما حجارة الدومينو، تسقط المحاذير شيئا فشيئا وتتكشف القضايا باضطراد. لم يترك «الصندوق الاسود» قضية من ذلك الزمان الا وبحثها او تطرق اليها. تترك قناعاتك جانبا وتفرك عينيك احيانا وانت تقرأ كي تصدق ان ما «آمنت» به طويلا لم تكن مبرراته «بيضاء» كما تعتقد او يعتقد «المناضلون» سواء تعلق الامر بخطف شخصيات ورجال اعمال او بقرار اعدام وزراء عرب انقذتهم «لا مركزية» القيادة. ويمكنك طبعا ان تبني على ما في «الصندوق» لتعيد النظر في حسابات اخرى تتعلق باغتيالات اخرى وعمليات اخرى لم يذكرها الكاتب. هناك «مجال خارجي»، وهناك عناصر متعددة الدين والانتماء والجنسية تنضوي تحت جناحيه. وهناك اجهزة ودول وقيادات ما زالت في مواقعها. اقرأوا الاسماء بدقة. اعيدوا القراءة. راقبوا الانتماءات الحزبية لغالبيتها. استعينوا بـ « اصدقائكم الستة» لتربطوا بينها وبين الاسماء المحلقة فوق اغتيالات وعمليات غامضة. تخلوا عن جانب من القناعات لحساب فرضية ان اعضاء «المجال الخارجي» يؤمنون فعلا بقضية ويرفضون القهر والظلم... لكنهم يمكن ان يكونوا ايضا رصاصات في بنادق آخرين.
عملت مع غسان شربل لسنوات واقتربت في احيان كثيرة من صندوقه الاسود الذي يسجل فيه بيانات عمله واحداثيات مساره وخريطة طريقه الاعلامية. يبقى ان اقول، من باب الامانة والخيانة، انه لم يخرج من خزنة الاسرار سوى ما يريد اخراجه لتسليط الضوء على رجل ورجال وقضية ومرحلة وعصر، وان ما في جعبته كفيل بملء الكثير، لكنه يؤثر الالتزام دائما بشروط الامن والسلامة والدقة والتحقق والتحفظ والتوقيت الصحيح قبل عملية الهبوط... كي لا تتناثر اجزاء الصندوق في الوجهات الخطأ.
alirooz@hotmail.com
في المرحلة الابتدائية درسنا مقررا اسمه «اصدقائي الستة»، كمدخل لابد منه لزيادة المعرفة وتوسيع المدارك. والاصدقاء هم: من؟ ماذا؟ لماذا؟ كيف؟ متى؟ أين؟. في المرحلة السياسية، وخصوصا العربية، توارى «الاصدقاء» وصارت «القناعات» لا الوقائع هي التي تحدد الحقائق. اعود الى هذا الموضوع في وقت لاحق.
عملت مع «الصديق» الاستاذ غسان شربل لسنوات واقتربت في احيان كثيرة من صندوقه الاسود الذي يسجل فيه بيانات عمله واحداثيات مساره وخريطة طريقه الاعلامية.
رجل لا ينتظر حدثا بحجم معركة او اغتيال او كارثة لينضم لاحقا الى فريق المنقذين والباحثين أملا في اكتشاف دليل يبني عليه قصة، بل كان في احيان كثيرة يعطي مؤشرات الى حصول الحدث. يفخخ سؤالا على الورق لتفجير حقل ألغام في السياسة، ويستدرج محاوره الذي «يتذكر» الى حافة «يتوقع». يسأله مباشرة عن الخوف من التصفية بيد اعداء او «اصدقاء» استنادا الى تاريخ يموج بالتطورات، اختلطت فيه معايير الوطنية والانتماء والصحوة بمعايير الخيانة والغدر ونقل البندقية من كتف الى اخرى. يضعك صاحب «الصندوق الاسود» في نهاية الحوار امام شرفة مفتوحة على افق اسود. تتوقع الاسوأ. تتوقع الاسهل. هنا ينتهي دوره ويبدأ دورك، وما عليك سوى العودة الى الشريط لـ «تتذكر» من امسى قتيلا ومن صار شهيدا.
... وصاحب «الصندوق الاسود» مهني محترف يكره «التبصير» والتنجيم ورمي الكرات يمينا بهدف التصويب يسارا. يبعد آراءه الشخصية التي تضمها افتتاحياته في «الحياة» عن عمله في سلسلة «يتذكر». همه تأريخ اللحظة او المشهد او الصورة او المرحلة بلسان اصحابها وبأسلوب مباشر. لا يدّعي انه كان حاضرا في اجتماع مصيري تقررت فيه حروب واغتيالات. لم يختبىء «وراء ستارة» ليسمع. لا ينسب اخبارا لمصدر «قريب» من «قريب» لشخصية مهمة «قريبة» من صاحب القرار. يجلس مع محاوره في اي مكان بجلد وصبر وتركيز يحسد عليها. يتركه يتحدث كما لو كان يراجع شريط حياة. يتركه مسترسلا حتى النهاية ثم ينقض متدخلا في المحطات التي يرى انها اساسية، فيحصرها في دائرة معلومة ليرفع الحصار عن دوائر مجهولة.
والاهم من ذلك كله، ان غسان شربل لا يعتبر نفسه «صاحب رسالة» او قضية غير تعميم المعرفة والمعلومة والانحياز للخبر والحقيقة، فلا يؤدلج ولا يغمز ويلمز ولا يمرر أو يسرب. يحترم عقل القارئ وذكاءه ويعرف ان عهد الاعلام الموجه او الحزبي انتهى بمجرد تحريك «الفأرة» او كبس زر الريموت كونترول او تغيير محطة الراديو.
في كتاب غسان الجديد ، كما في سلسلة «يتذكر»، ينتقل القارئ من التلقي الى الشراكة... اقله في مراجعة النتائج وربط الاحداث ببعضها. تستحضر «اصدقاءك الستة» فورا عند متابعة اول قراءة موثقة مسؤولة عن لغز الالغاز وديع حداد... «مَن» كان العقل المدبر وصاحب فكرة خطف الطائرات ونقل القضية الفلسطينية من ملفات اللاجئين والادارات السياسية الى الناس والعقول والضمائر؟ و«مَن» اشترك معه في التخطيط والتنفيذ؟، «مَن» بقي وفيا ومن تنكر؟ «ماذا» كانت نتيجة اعماله وهل خدمت الاهداف التي رسمت لها؟ و«ماذا» فعل رفاقه في «الجبهة الشعبية» امام ضغوط العالم والانظمة العربية وانقسامات الداخل؟ و«ماذا» يقول عنه ابنه الذي فتح دفاتره الانسانية والسياسية والفكرية لمؤلف الكتاب؟ «لماذا» تغيرت الخطط والاهداف وغيرت مسارها في اللحظات الاخيرة؟ و«لماذا» كان حداد مصرا على اسلوب عمل واحد لم يحد عنه؟ «كيف» تصرف في اصعب الظروف واقساها؟ و«كيف» تعامل ورفاقه مع ردود الفعل؟ و«كيف» كان يعيش و«كيف» مات؟ «متى» خطط للعمليات و«أين»؟ و«أين» تم التنفيذ؟
اسئلة كثيرة لم يترك غسان شربل «صديقا» الا واستعان به من اجل تغطية كل اجاباتها. اصدقاء فعليون وغير وهميين. بعضهم شارك في التخطيط وبعضهم في التنفيذ. اصدقاء قساة وانقياء، كما وصفهم، طالبا من الله ان يسامحه لانه احب بعضهم، رغم ان على ايادي هؤلاء بعضا من دماء ابرياء انقياء ايضا.
ومثلما استعان بجميع اصدقائه ترك لك خيارات الاستعانة بمن ترى انه مفيد لوقت التفسير. ففي حالة وديع حداد كان لا بد من استحضار الجميع بما في ذلك الارواح لكشف لغز استعصى على العرب والعالم فك طلاسمه. كان «الصندوق الاسود» اول من اماط اللثام عن رجل ومرحلة وقضية. كان جهدا «تأسيسيا» لعصر اراده اصحابه عصر نضال وكفاح ثم ضاعت اهدافه بفعل جملة «انحرافات» شارك فيها رفاق حداد انفسهم... «سقطوا بعد رحيله. ربما بسبب غياب المظلة وربما ايضا لانهم وقعوا في ما كان يحميهم منه: نسج علاقات مع دول واجهزة فضلا عن الوقوع في النجومية».
واذا كان وديع حداد هو العمود الفقري لـ «لصندوق الاسود» بل الصندوق نفسه، فان ما في الصندوق لا يقل اهمية وتشويقا. «الرفيق» كارلوس في عملية فيينا يجيب للمرة الاولى عن سؤال الصديق «من»؟ فالعقل المدبر لخطف وزراء النفط كان الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي؟ وعند الوصول الى الصديق «كيف»؟ تستدرج الردود ردودا اخرى من اناس شاركوا في العملية ولم تعجبهم رواية كارلوس. يدخل انيس نقاش بكل اسلحته ووثائقه ليرد على «كيف»؟ و«لماذا»؟ و«ماذا»؟ بحكم ان الصديقين «أين» و«متى» واضحان في الزمان والمكان... ثم يغلق غسان شربل صندوقه بلقاء كبير مع جورج حبش، نشره سابقا، لكن وضعه في سياق تلك المرحلة له مذاق آخر في القراءة والاستنتاج.
وكما حجارة الدومينو، تسقط المحاذير شيئا فشيئا وتتكشف القضايا باضطراد. لم يترك «الصندوق الاسود» قضية من ذلك الزمان الا وبحثها او تطرق اليها. تترك قناعاتك جانبا وتفرك عينيك احيانا وانت تقرأ كي تصدق ان ما «آمنت» به طويلا لم تكن مبرراته «بيضاء» كما تعتقد او يعتقد «المناضلون» سواء تعلق الامر بخطف شخصيات ورجال اعمال او بقرار اعدام وزراء عرب انقذتهم «لا مركزية» القيادة. ويمكنك طبعا ان تبني على ما في «الصندوق» لتعيد النظر في حسابات اخرى تتعلق باغتيالات اخرى وعمليات اخرى لم يذكرها الكاتب. هناك «مجال خارجي»، وهناك عناصر متعددة الدين والانتماء والجنسية تنضوي تحت جناحيه. وهناك اجهزة ودول وقيادات ما زالت في مواقعها. اقرأوا الاسماء بدقة. اعيدوا القراءة. راقبوا الانتماءات الحزبية لغالبيتها. استعينوا بـ « اصدقائكم الستة» لتربطوا بينها وبين الاسماء المحلقة فوق اغتيالات وعمليات غامضة. تخلوا عن جانب من القناعات لحساب فرضية ان اعضاء «المجال الخارجي» يؤمنون فعلا بقضية ويرفضون القهر والظلم... لكنهم يمكن ان يكونوا ايضا رصاصات في بنادق آخرين.
عملت مع غسان شربل لسنوات واقتربت في احيان كثيرة من صندوقه الاسود الذي يسجل فيه بيانات عمله واحداثيات مساره وخريطة طريقه الاعلامية. يبقى ان اقول، من باب الامانة والخيانة، انه لم يخرج من خزنة الاسرار سوى ما يريد اخراجه لتسليط الضوء على رجل ورجال وقضية ومرحلة وعصر، وان ما في جعبته كفيل بملء الكثير، لكنه يؤثر الالتزام دائما بشروط الامن والسلامة والدقة والتحقق والتحفظ والتوقيت الصحيح قبل عملية الهبوط... كي لا تتناثر اجزاء الصندوق في الوجهات الخطأ.
alirooz@hotmail.com