يمضي لبنان في ترتيب أوضاعه الداخلية عبر السعي الى استكمال تجديد مؤسساته الدستورية التي أصيبت بتشوهات نجمت عن «زمن الفراغ»، الذي كان حال دون انتخاب رئيس للجمهورية وقامت مقامه حكومة عاجزة وجرى التمديد مرتين للبرلمان، وبدت يومها «الدولة» محتجزة بقرار إقليمي «علّق» الحياة السياسية في لبنان في انتظار ما ستؤول إليه المواجهة الكبرى في المنطقة، لا سيما في سورية.ورغم أن الحراك السياسي الداخلي على وهج التحولات في المنطقة أفضى الى تسوية قضت بـ «رفع حظر» إقليمي متبادل عن انتخاب العماد ميشال عون، الحليف المسيحي لـ «حزب الله» رئيساً للجمهورية وعودة «خصم» الحزب الرئيس سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، فإن المساعي الجارية الآن لوضع قانون انتخاب يعيد إنتاج السلطة وتوازناتها تحظى باهتمام بالغ... الأهمية.فمن الصعب عزل مجريات «ترتيب» السلطة في لبنان عن مجريات الواقع الإقليمي اللاهب، المرشح لبلوغ منعطفات لا يمكن تقدير إتجاهاتها في ضوء ثلاثة تطورات «ما فوق عادية» في سورية هي:* ملامح اتساع الهوة بين أدوار روسيا وإيران حيال إدارة الحرب ومقاربة الحل السياسي. فموسكو التي كانت أعلنت صراحة بأنها صاحبة الفضل في إنقاذ دمشق، لا إيران و«حزب الله»، أطلقت ما يكفي من إشارات إلى عزمها على الانتقال الى الحل السياسي مع ما يمليه ذلك من اداء كـ «وسيط» واستعداد لتسويات قد لا يكون مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد بمعزل عنها.غير أن إيران والميليشيات التابعة لها لا تشاطر الروس هذه المقاربة وموجباتها، فرغم موافقتها في الأستانة – الكازاخستانية على وقف إطلاق النار، تعتبر أنه من السابق لأوانه الانتقال الى الحل السياسي مع وجود غالبية الجماعات العسكرية المناوئة للأسد خارج اتفاق وقف إطلاق النار، إضافة الى رفضها الحاسم التخلي عن الأسد في أي تسوية محتملة.وثمة من يعتقد أن التباينات المكتومة بين موسكو وطهران حيال مجريات الوضع في سورية انتقلت من التكتيكي الى الإستراتيجي، خصوصاً في الجانب المتصل بما قد تفضي إليه أي تسوية، لا سيما حيال مصير الأسد الذي ترسم حوله إيران خطاً أحمر، إضافة الى أن طهران لن تفرط بما حققته عبر «حزب الله» وتموضعاته الجيو-إستراتيجية فوق «حبل السرة» الذي يربط بيروت بطهران.* بدء تحويل الرئيس الأميركي دونالد ترامب أقواله الى أفعال... من إمهال القادة العسكريين 30 يوماً لوضع خطط لإقامة مناطق عازلة في سورية، إلى توقيعه أمراً تنفيذياً للجيش لإعداد إستراتيجية جديدة في غضون 30 يوماً لهزم «داعش»، مروراً بمنع رعايا سبع دول ذات غالبية إسلامية من السفر الى الولايات المتحدة، بينها إيران وسورية والعراق.هذا الاستعجال «الترامبي» في اقتحام الملف السوري في لحظة استعداد روسي – أميركي متبادل للتعاون سيضع إيران ومعها «حزب الله» أمام تحديات لا يستهان بها، رغم اعتقاد الدوائر القريبة من طهران أنه لن يكون في وسع ترامب المضي في سلوكه أو في خياراته.* ما يشبه «الانقلاب العسكري» في الشمال السوري عبر اندماج مجموعة من الجماعات الجهادية في تنظيم واحد أطلق عليه «هيئة تحرير الشام»، إذ جاء الإعلان عنه في لحظة انتقال المسعى الروسي من ارساء وقف إطلاق النار الى التحضير لمفاوضات سياسية تعقد في جنيف، وهو الأمر الذي يفرض تحديات جديدة أمام اللاعبين الإقليميين والدوليين، يصعب تقدير اتجاهاتها أو تداعياتها على مجمل المشهد السوري العسكري والديبلوماسي.هذا المناخ الإقليمي – الدولي المتحرك في سورية وحولها يلفح لبنان، الذي يجتاز مرحلة انتقالية يعيد معها إنتاج سلطاته في ضوء توازنات تعكس وهج المتغيرات من حوله لا سيما في ظل تقاطع الدورين الإقليمي والداخلي لـ «حزب الله»، الذي يشكل بـ «فائض القوة» التي يتمتع بها، اللاعب الأهم والإستراتيجي في لبنان.والسؤال «الضمني» الذي يتردد صداه مع كل استحقاق في بيروت هو هل يربح «حزب الله» أم يخسر؟... هذا ما أثير يوم انتخاب العماد عون وعودة الحريري، وهذا ما يثار الآن في ضوء الإعداد لقانون انتخاب يعيد إنتاج التوازنات في السلطة عبر برلمان جديد.يصعب في بيروت الخروج بجواب واحد على هذا السؤال، الذي يعكس رغبة في معرفة «القرار لمن» سيكون في الداخل وأي وجهة إقليمية ستكون للبنان. إذ ثمة من يعتقد أن خريطة جديدة من التحالفات الداخلية أفضت الى حشر «حزب الله» في الزاوية، فذهب مضطراً الى انتخاب العماد عون ويتجه الآن للتسليم بأي توازنات تنتج عن ترسيم الأحجام في البرلمان الجديد.رغم هذه التقديرات التي تلاقي رواجاً في أوساط تبدي ميلاً لإظهار «محاسن» التسوية التي جرت، فإن دوائر سياسية ونخباً ترى أن ما يجري يشكل انتصاراً لـ «حزب الله» الذي انتزع اعترافاً من خصومه بـ «إمرته» في المسائل الإستراتيجية التي تخص لبنان، ويحقق مكاسب من خلال «اطمئنانه» الى تحالفه مع رئيس الجمهورية، الذي تلاحظ تلك الدوائر «صوته العالي» مقابل خفوت صوت الآخرين، على غرار ما حصل عندما لوّح الرئيس عون بأنه يفضل الفراغ في السلطة التشريعية على إجراء انتخابات وفق القانون النافذ، على سبيل المثال.هذا التلويح، الذي لم يرق للآخرين، أفضى الى تزخيم المساعي للوصول الى قانون انتخاب جديد عبر لجنة رباعية تمضي في البحث في تقنيات من شأنها حسم نتائج الانتخابات، في مجملها، قبل أن تجري، وسط توقعات بإنجاز قريب لقانون يشتمل على ارجاء «تقني» للانتخابات على أن تجري في سبتمبر المقبل.ورغم ان رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع «زفّ» الى اللبنانيين إمكان تحقيق حلم طال انتظاره بالاتفاق على قانون الانتخاب العتيد، فإن رئيس البرلمان نبيه بري كان أكثر حذراً عندما أشار الى أنه «بعد ما صار شي، بدنا ناكل عنب... حتى الآن لا يمكننا القول ان ثمة نتائج تحققت».أما الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي شبّه في تغريدة على «تويتر» دونالد ترامب بـ «كاليغولا»، الإمبراطور الروماني الذي كان رمزاً للشر وجنون العظمة، أمل في تغريدة أخرى «أن تخرج اللجنة الرباعية الانتخابية (في لبنان) بحصان incitatus»، وهو الحصان الذي كان مفضلاً لـ «كاليغولا» ويستعمله لإغضاب مجلس الشيوخ.
خارجيات
وسط الرمال السورية المتحركة على وقع أدوار بوتين ومفاجآت ترامب
لبنان يُرسي توازناته الجديدة على وهج التحولات الإقليمية
08:58 م