رغم أن بيروت، التي تنخرط في مناقشاتٍ سياسية - تقنية لا تنتهي حول قانون انتخابٍ يعيد إنتاج السلطة بـ «توازناتها الحالية»، تبدو كأنها غير معنية بالتحولات الهائلة من حولها، فإنها لن تكون معزولة بطبيعة الحال، عن الانعكاسات العميقة لما جرى يوم الجمعة الماضي مع انتقال دونالد ترامب، الرئيس المثير للجدل، الى مركز القرار في الدولة الأهمّ في العالم وسط مؤشراتٍ أولية لم تبدّد الهواجس التي رافقتْ صعود نجمه، ولما يجري في «الاستانة» الكازاخستانية التي يلتقي على طاولتها حشدٌ من اللاعبين المتعددي الأجندة لمقاربة ملف سورية من البوابة العسكرية.عدم اكتراث بيروت لتحولاتٍ من هذا النوع لا يعني اطمئنانها الى بقائها في منأى عن التداعيات، في اللحظة التي يستعدّ ترامب لترجمة «فائق» دعمه لاسرائيل قبل ان تتّضح خياراته الحاسمة في شأن ايران وسورية، او في الوقت الذي ترعى روسيا أول اجتماع وجهاً لوجه بين النظام السوري ومعارضيه وما انطوتْ عليه هذه التجربة من تباينات لا يستهان بها بين موسكو وطهران في سياق تنافُسهما في سورية وعلى «الإمرة» فيها... فبيروت ورغم الاسترخاء السياسي «الطري العود» والمحروسِ باستقرارٍ أمني، ما زالت تقيم في عيْن العاصفة التي تزداد ضراوة في المنطقة.والانطباع بأن السلطة في لبنان «خارج السمع» في المسائل الكبرى في المنطقة والعالم، مردّه الى ان «التسوية السياسية» التي أعادت ضخ الحياة في المؤسسات الدستورية عبر انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية بعد نحو 30 شهراً من الفراغ في سدة الحكم وعودة الرئيس سعد الحريري الى رئاسة الحكومة بعد خمسة أعوام على إقصائه، تمّت عبر تسليم الجميع في لبنان بترْك المسائل الاستراتيجية بيد «حزب الله»، الذي يقبض بترسانته الصاروخية الهائلة على قرار الحرب والسلم ويقاتل كـ «جيشٍ نقال» في ساحات المنطقة ولا سيما في سورية.وما من أحد في بيروت يتنكر لطبيعة التسوية السياسية التي قامت على فك الارتباط بين ما يتصل بـ «السلطة المحلية» وبين ما هو على علاقة بالإمرة الاستراتيجية، بدليل انه حتى رئيس الجمهورية لم يتردد في القول على هامش زيارته للمملكة العربية السعودية ودولة قطر ان لا كلمة للبنان في شأن مشاركة «حزب الله» في أعمال عسكرية في المنطقة وان هذه المسألة باتت جزءاً من المشكلة الاقليمية، وهو الاعتقاد الذي تحول اقتناعاً لدى خصوم الحزب الذي نجح بفرض أجندته حتى على القوى الاقليمية والدولية، خصوصاً بعدما أظهر تماهيه مع المشروع الايراني في المنطقة وتحوّل رأس حربته.وثمة مَن يعتقد في بيروت انه رغم حملة «العلاقات العامة» التي تقوم بها دوائر الحكم في لبنان لتطبيع علاقات بيروت بالعواصم العربية ولا سيما الخليجية، فان لبنان مقبل على مرحلة بالغة الحساسية ربطاً بالوقائع الجديدة التي تَظهر تباعاً مع تَسلُّم ترامب الرئاسة الاميركية وما قد ينجلي عنه الصراع في سورية، حيث يشكل «حزب الله» في أدواره ما يشبه «ربْط نزاع» لبنانياً مع المنطقة والعالم.وبهذا المعنى تتزايد الأسئلة حول ما سيكون عليه موقف «حزب الله» والموقف منه في حال حظيت اسرائيل بجرعات دعم اضافية من ترامب الذي بكّر في إطلاق إشارات مناهضة لايران وكوريا الشمالية في «اول يوم عمل» له في البيت الابيض، اضافة الى أسئلة مماثلة عن المدى الذي سيبلغه التباين بين الأجندتين الايرانية والروسية في سورية في ضوء ارتياب طهران من حصول تفاهُم بين واشنطن وموسكو في شأن الحل في سورية وعدم استبعاد تضحية الكرملين بالرئيس بشار الاسد في اي تسوية تنقذ النظام ووحدة البلاد.واذا كانت عناوين من هذا النوع هي من اختصاص «حزب الله»، فإن القوى السياسية الأخرى تسعى الى تكبير حجم حصتها في السلطة عبر المعركة الحامية حول طبيعة القانون الذي سيحكم الانتخابات النيابية في مايو المقبل، وسط سباقٍ محموم مع الوقت الذي لم يبق منه سوى شهر واحد للتفاهم على قانون الانتخاب وإلا الذهاب الى استحقاق يونيو في ظل القانون النافذ، المعروف بـ«قانون الستين»، المرفوض في شكل أساسي من الثنائية المسيحية، اي «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية».وإذ علمتْ «الراي» ان قراراً حاسماً اتُخذ من قوى مؤثرة بالحاجة الى صياغة قانون جديد للانتخاب، وإن على قاعدة إحداث تعديلات على القانون الحالي (الستين)، فان تدافُعاً خشناً يجري في كواليس الحياة السياسية اللبنانية بين مبادراتٍ من جهة ومناوراتٍ من جهة اخرى مع العدّ التنازلي للساعة صفر التي لا يعود في الإمكان معها إلا إجراء الانتخابات على قاعدة «الستين» او الذهاب الى تمديد ثالث للبرلمان الحالي، وكلاهما أمرٌ منبوذ.وفيما برز في هذا السياق اعلان رئيس البرلمان نبيه بري في تصريحات له أنه «لم نحقق أي تقدّم حول قانون الانتخابات حتى الآن»، لافتاً إلى أننا «لسنا معنيين بالاتفاقات الجانبية التي يعقدها البعض»، في إشارة إلى التفاهمات الجانبية بين الأطراف، ولا سيّما بين «القوات» و«التيار الحرّ»، فإن الأكثر إثارة جاء على لسان رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع وجّه رسالة تحذير من انه «اذا اعتقد البعض أنه كما في كل مرة سيقولون لنا: حان موعد الانتخابات النيابية وبالتالي لا يمكننا إقرار قانون انتخابي جديد، فهم مخطئون (...)»، آملاً من «كل الأفرقاء أن يتفهموا ما أقوله، فنحن غير راغبين باللجوء الى خطوات سياسية سلبية ولكن اذا كنا سنُزرك في الزاوية بمعنى إما تأجيل الانتخابات وإما إجراؤها وفق قانون الستين، سيُجبروننا لاتخاذ ما يجب من خطوات سياسية سلبية لمنع هذا الأمر»، طالباً من كل الأفرقاء «أن يأخذوا كلامنا على محمل الجد».
خارجيات
«المسائل» الاستراتيجية متروكة لـ «حزب الله»
تَدافُع خشن في لبنان على ترسيم الأحجام في البرلمان العتيد
08:26 م