تعد المحافظة على البقاء وحماية الأمن القومي، أحد الأهداف الإستراتيجية لأي دولة ولا سيما الدول الصغيرة، التي تجد نفسها دائماً تبحث عن تحقيق معادلة الأمن من خلال علاقاتها مع جيرانها ومع القوى الإقليمية والدولية، على حد سواء.وتعد دولة الكويت نموذجاً لهذه الدول التي سعت منذ اللحظة الأولى بعد حصولها على الاستقلال، في اتباع سياسة خارجية قائمة على هدف أساسي، وهو البقاء والمحافظة على تواجدها على الخريطة السياسية، خصوصاً في ظل التهديدات المتوالية لها من قبل جارتها العراق.لم تقتصر التهديدات التي تواجه الكويت على العراق فحسب، بل كانت رغبة الدول الكبرى في السيطرة على منطقة الخليج، بما فيها الكويت، بسبب النفط وثورة التصنيع واعتماد الاقتصاد العالمي على هذا المورد، تهديداً آخر يضاف إلى التحديات التي تجابه دولة الكويت من خلال محاولة جعلها تدور في فلك القوى العالمية.في المقابل، اتبعت الكويت سياسة خارجية قائمة على المحافظة على بقائها على الساحة، والمحافظة على أمنها من خلال: الانخراط مع دول الخليج الأخرى بتأسيس مجلس التعاون الخليجي الذي نشأ بالأساس لاعتبارات أمنية (داخلية وإقليمية ودولية)، وذلك للتصدي للأزمات والمشاكل السياسية التي تواجه منطقة الخليج العربي. إضافة إلى توثيق الكويت علاقاتها مع جيرانها وتعزيز التعاون العربي والإقليمي بالتوازي مع الاعتماد على آلية المساعدات الاقتصادية في الدول المختلفة.وعليه ظلت سياسة الكويت قائمة على هذه المبادئ منذ الاستقلال، ولكن في ضوء تطور التحديات السياسية والإستراتيجية، سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي أو الدولي، بات على الكويت أن تعيد هيكلة سياساتها الخارجية وتقوم بمراجعة خططها الإستراتيجية لمواجهة هذه التحديات وبناء سياسة قادرة على التعاطي والتعامل معها.ونجد أن هذا الأمر لن يحدث إلا من خلال استقراء التحديات الداخلية والإقليمية والدولية ووضع خطة إستراتيجية قائمة على مواجهتها والتعامل معها بمنتهى الجدية من أجل بناء سياسة قادرة على التعامل مع هذه التحديات وتطويعها بما يخدم المصالح الكويتية.فعلى الصعيد الداخلي، هناك العديد من التحديات، ومنها «مسألة البدون»، التي لم تضع الحكومة آليات جدية لحلها رغم ما نسمعه عن حلول من حين لآخر، إضافة إلى «ضعف المعارضة السياسية». فرغم وجود معارضة في الكويت، إلا أنها تعاني العديد من المشكلات، مثل سوء التنظيم والتخطيط وغياب رؤية واضحة للتعامل مع القضايا السياسية المختلفة، والتمحور حول شخصيات محددة من دون تحقيق الأهداف المأمولة، فضلا عن «غياب دور بعض منظمات المجتمع المدني» والتي تعاني هي الأخرى من عدم القدرة على التأثير بسبب الطموحات الشخصية والوقتية للقائمين عليها ما أدى إلى ضعفها وازدواجية في عملها وعدم قدرتها على القيام بالدور المنوط بها بالشكل المطلوب، حيث من المفترض أن هذه المنظمات هي القوى المدنية الأساسية التي يقع عليها عبء قيادة قاطرة التغيير في المجتمع. ليس هذا فحسب بل أيضاً «طبيعة النظام الاقتصادي» القائم في شكل كامل على عائدات الثروة النفطية ما جعله يعاني من عدم التنوع، وهو الأمر الذي يتطلب وضع خطة قائمة على التنويع من خلال الاعتماد على التصنيع والتجارة وتحقيق التكامل الاقتصادي والانخراط في استثمارات جديدة داخل الكويت وخارجها.وإضافة إلى ما سبق، هناك مسألة كيفية «تعيين القيادات» وكفاءتها، ما تسبب في تأخر عجلة التنمية، وذلك لعدم قدرة هذه القيادات على مواكبة التطور وضعف قدراتها العلمية والعملية ما انعكس على إيجاد طرق وآليات لتطوير العمل. فمن المفترض أن تكون التعيينات عموماً بناء على معايير الكفاءة والقدرة على العطاء والابتكار والإبداع، وليس بناء على اعتبارات النسب والمصاهرة والانتماء. وبالتالي يجب وضع آليات محددة لاختيار القيادات المؤثرة في عمل الدولة قائمة على الكفاءة لا المحسوبية.وعلى الصعيد الإقليمي، من الجدير بالذكر أن الكويت تعيش في إقليم ساخن وملتهب جداً من خلال كم التحديات التي تواجه المنطقة الخليجية والعربية خصوصاً في الفترة الأخيرة والتي بدأت منذ ثورات «الربيع العربي» وقادت إلى حالة من عدم الاستقرار، وانتشار الإرهاب المتمثل في بروز تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في بعض الدول العربية، والتطرف الديني الناتج عن سوء الفهم لأبعاد الدين الإسلامي والقراءة الخاطئة للتراث الإسلامي، وهي تحديات أثرت على الداخل، حيث طال الارهاب الساحة الكويتية، من خلال تفجير مسجد الصادق في يونيو العام 2015، فضلا عن ضبط «خلية إرهابية» في أغسطس في العام نفسه، وضبط خلية اخرى قبل ايام.وهناك الانتشار النووي وأسلحة الدمار الشامل، في كل من إيران وإسرائيل وشبه القارة الهندية، وثمة مخاوف من انتشار نووي في منطقة الشرق الأوسط... وما يزيد الأمر تعقيداً هو الاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة (5+1)، ما يضع الأمن الخليجي والكويتي في مرمى نيران التهديدات الإيرانية، وهي أمور تحتاج إلى تغيير في العقيدة الأمنية والمخططات الإستراتيجية للكويت والخليج ككل.كما تواجه الكويت العديد من التحديات الناتجة من البيئة الدولية، مثل انخفاض أسعار النفط ما حمل معه تأثيرات على الاقتصاد الذي يقوم في شكل أساسي على هذا المنتج، وهو الأمر الذي يحتم ضرورة تعديل النظام الاقتصادي من خلال التنويع وليس الاعتماد على منتج واحد بعينه!وعليه، فإن الكويت محاطة بالعديد من التحديات الداخلية والإقليمية والدولية، ما يتطلب مراجعة مرتكزات سياستها. فقد حافظت البلاد على مدى تاريخها، على سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وكانت في مقدم الدول التي قامت بتوثيق علاقاتها مع معظم بلدان العالم. ولم تقم بإحداث توتر في علاقاتها، بل في المقابل، حسّنتها مع جيرانها مثل العراق، متخطية بذلك مرحلة صدام حسين، فهي اعتمدت على المعادلة الصفرية في تكوين علاقاتها من خلال عدم القيام بأي مشكلات أو توترات أو نزاعات. لكن نظراً لتغير الخريطة السياسية ولا سيما في ظل ما تموج به المنطقة العربية من العديد من التحديات السياسية والإستراتيجية، فان هذا الأمر يجب أن يصاحبه تغير في كيفية التعامل مع هذه التحديات... ولكن كيف؟.وهنا يتبلور لدي تساؤل في غاية الأهمية، وهو كيف تتعامل الكويت مع هذه التحديات؟ فإذا كانت استطاعت من خلال سياساتها الحالية المحافظة على علاقات جيدة ومتوازنة مع دول العالم، لكن يبقى الآن خطر التهديدات الأمنية والسياسية والإستراتيجية التي باتت تموج بها منطقة الخليج العربي بل ومنطقة الشرق الأوسط برمتها، فضلا عن أن الأزمة الاقتصادية لن تجعل الكويت بمنأى عن ما يحدث على الصعيدين الإقليمي والدولي.وهو الأمر الذي يستلزم مراجعة ثوابت السياسة ووضع خطط ورؤى إستراتيجية بديلة، نظراً لما تشهده المنطقة من تحديات سياسية وإستراتيجية، ولعل في مقدم هذا الأمر المعضلة الأمنية، فضلاً عن تدويل قضية الأمن في منطقة الخليج بسبب تشابك المصالح الدولية، والمأزق الأمني الحالي بعد الاتفاق النووي الإيراني - الأميركي.أيضاً لا بد من مواجهة التحديات الاقتصادية من خلال تنويع الاقتصاد، وبالتالي تصبح أزمة انخفاض أسعار البترول إيذاناً ببدء عصر جديد في الاقتصاد الكويتي، يقوم بالاعتماد على الدول الصديقة لنقل التكنولوجيا ومواكبة التقدم التكنولوجي، ولعل تجربة «النمور الآسيوية» مثل كوريا الجنوبية، والتي استطاعت أن تحقق طفرة اقتصادية، تكون نموذجاً مثالياً لدولة الكويت.الأمن الوطني ايضاً، يتطلب خلال الفترة المقبلة تكاتف الجهود أكثر مع مجلس التعاون الخليجي لبناء إستراتيجية أمنية للتعامل مع التهديدات الإقليمية وردع أي قوى إقليمية تحاول تهديد الأمن من خلال وضع آليات لنظام أمن جماعي قائم على التعاون والتنسيق العسكري الإقليمي، وتطوير أنظمة الدفاع الإقليمية والتنسيق المرن بين القطاعات المختلفة، أي تشكيل إطار أمني خليجي. ليس هذا فحسب، بل يجب على الإستراتيجية الأمنية الخليجية أن تكون مرنة وذات قدرة على التجاوب مع كل التطورات التي تموج بها المنطقة العربية ولا سيما في ضوء التهديدات المتلاحقة بين الوقت والآخر والتي باتت تهدد الأمن القومي العربي برمته. وقد شاءت الأقدار أن دول الخليج حالياً أصبحت هي من يقود العالم العربي في الوقت الراهن، فيجب عليها أن تتحلى بصفة القيادة وذلك بنظرة ثاقبة ومتعددة الأبعاد!.على أن يصاحب الإطار الأمني تحقيق التكامل الاقتصادي وتعزيز مفهوم المصالح المتبادلة وتقوية العلاقات التجارية بين الدول الخليجية لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية على حد سواء. إن التكاتف الخليجي ثم التكاتف مع بعض الدول العربية الرئيسية، سيجعل من الحوار مع القوى الكبرى خصوصاً الولايات المتحدة، له وضع مختلف في آليات التفاوض والحوار حول القضايا المختلفة وليس التعامل مع كل دولة على حدة كما يجري حالياً.* باحث دكتوراه في العلاقات الدولية
متفرقات - قضايا
السياسة الكويتية في مواجهة التحديات الإستراتيجية
03:04 م