إن الحديث عن النحت إنما هو في الحقيقة حديث عن مجموعة مفردات متجانسة مكملة بعضها لبعض، صحيحة التركيب في مبناها، واضحة المفهوم في معناها، أخذت حيزا مكانيا كبيرا، وحيزا من الزمان طويلا، وصيغة في كلمة واحدة اختصارا وإيجازا، وقديما قالوا (الإعجاز في الإيجاز). ولربما اليوم أصبح الاقتصاد حتى في الكلمات سمة للخطاب العلمي والتقني والتكنولوجي والسياسي، فلم يعد الإسهاب في الحديث والإطناب في السرد مستحبا في زمن يتسم بالإيقاع اليومي السريع المطـّرد والمتنامي والمتطور في أدواته، لذا لابد من لغة وجيزة مختصرة ومباشرة تتواءم مع ما نحن عليه يوميا من إيقاع سريع؛ فما الضير من وجود كلمة ترمز إلى كلمتين أو أكثر، إذا كانت هذه الكلمة قد نجحت في اختزال المعنى المراد؛ فهي بذلك توفر لنا حيزا مكانيا في الكتابة، وتقتصر علينا المسافة الزمنية. لا شك أن نطق كلمتين وما فوق يختلف في مدته الزمنية عن نطق كلمة واحدة، واليوم نرى حتى اللهجات المحلية والدارجة تستخدم النحت لسرعة الإنجاز في العمل، فعلى سبيل المثال في العراق والأردن يقولون (هسّة) منحوتة من (هذه الساعة) بمعنى في هذه الساعة أو في هذا الوقت، وفي تونس يقولون (فيسع) منحوتة من (في السرعة) بمعنى بسرعة، وفي تونس أيضا يقال (ميسالش) وهي بمعنى لا ضير أو لا تقلق أو لا تنزعج؛ ولعلها منحوتة من (ما تسأل عن شيء).لا شك بأن اللغة العربية اليوم بأمس الحاجة إلى تحريك مياهها الراكدة، وإعادة النظر في مدى قدرتها على استيعاب ألفاظ جديدة، وتراكيب مستحدثة. ونحن نعلم جد العلم أن كل ما هو جديد يطرأ على اللغة العربية يكون مثار جدل ونقاش بين معارضين ومؤيدين وبينَ بينَ، وهذه ظاهرة لغوية صحية لا تغض من مكانة وقدرة اللغة العربية؛ ففي هذا المقال سوف نناقش ضربا من ضروب اللغة العربية ألا وهو (النحت) الذي شكل مذهبا ونظرية وظاهرة عند بعض العلماء؛ فهناك من رفضه خشية تشويه اللغة العربية، وهناك من قبله على مضض، وهناك من قبله أيضا إنما على استحياء لإيمانه بالحاجة الملحة له في العصر الحديث، وهناك من أوجس في نفسه خيفة من إحلال مصطلحات هجينة تزعزع فصاحة اللغة العربية، وتشوه بيانها، وهناك من قبله وفق معايير ومقاييس وضوابط.يرمي هذا المقال إلى تسليط الضوء على التركيب بقسميه (التركيب المزجي والتركيب المزجي المختصر: النحت) لغة واصطلاحا، ويناقش قرارات مجمع اللغة العربية بالقاهرة حول النحت موضوع المقال ويبسط الجدل الدائر حول ما جاء في هذه القرارات، كما يتناول وجه الاعتراض على النحت ووجه قبوله.أولا: التركيب: يعد التركيب من المصطلحات التي فرضت نفسها بقوة على الحقل اللغوي عامة وعلى حقلي التعريب والترجمة خاصة. و«التركيب في اللغة» هو جمع كلمتين أو أكثر، في تكوين واحد جديد له معنى خاص به، مثلا: «آلة كاتبة». ثانيا: التركيب المزجي مثل: (يومئذٍ) من (يوم وإذ). ومن الكلمات المركبة التي ذكرها العرب هي: حبذا (من حبّ وذا الإشارية) ومن الكلمات الحديثة: رأسمالية (رأس ومال)». ثالثا: التركيب المزجي المختصر (النحت) الكلمة: أخذها وركبها من كلمتيْن أو كلمات. يقال: بَسْمَلَ إذا قال: «بسم الله الرحمن الرحيم» و«حَوْقـَلَ» أو «حوْلـَق َ» إذا قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله». يـُعرّف الخليل بن أحمد الفراهيدي، (النحت) على انه «أخذ كلمة من كلمتين متعاقبتين، واشتقاق فعل منها». هل بالضرورة اشتقاق فعل منها؛ فمن الممكن نحت كلمتين بكلمة واحدة تكون اسما، وهل من الضرورة كلمتين؟ وإذا كان الأمر كذلك فبماذا نفسر (حيعل) وهي منحوتة من (حي على الصلاة) علما بأنه لا توجد إشارة إلى الصلاة هنا، وكذلك (حي على الفلاح) فلا توجد إشارة إلى الفلاح هنا. ومقولة الخليل (الحيعلة؛ أي من قولك: حيّ على) دلالة على أن (حي على) ليست منحوتة من (حي على الصلاة أو حي على الفلاح) إنما مثل ما ذكر فهي منحوتة من (حي على) التي تتكون من خمسة حروف شكلا، في الوقت التي تتكون (حيعل) من أربعة حروف؛ فهل اختصار حرف واحد يستحق النحت؟ فهذه كلمة جمعت من (حيّ) ومن (على). ونقول منه (حيعل، يحيعل، حيعل)». يرى سيبويه أن (حيعل) إنما هي منحوتة من (حي على الصلاة) ولم يذكر أنها تشمل أيضا (حي على الفلاح). كما نرى أيضا أن الكلمات المنحوتة قد أخذت حرفا على أقل تقدير من الجملة المنحوتة منها، عدا (حيعل) فمثلما أشرنا لا وجود لمعنى الصلاة فيها، بدليل أن (البسملة) نحتت من (بسم الله) ولم تنحت من (بسم الله الرحمن الرحيم). لعل نحت (حيفل) أقرب للمنحوت منه (حي على الفلاح) لأنها أخذت من كلمات الجملة قاطبة، فلو قلنا (حيصل) لـ (حي على الصلاة) لكان أقرب للنحت وأصح. ولكن دعونا نقف عند بعض الكلمات المنحوتة من مثل (حنفلتي: حنيفة والمعتزلة) و (شفعتني: الشافعي وأبي حنيفة)، ونتساءل ما الغاية من نحت حنفلتي، وما هي علاقة الإمام أبي حنيفة النعمان بمذهب المعتزلة، وكذلك نحت شفعتني، ما علاقة الإمام الشافعي بالإمام أبي حنيفة النعمان، وكلنا يعلم بأن الإمام أبا حنيفة النعمان أسبق من الإمام الشافعي، ويدخل الإمام مالك بينهما في فترة زمنية، فالإمام مالك أقرب للإمام أبي حنيفة والشافعي أقرب للإمام مالك، فهل هناك مسائل فقهية متشابهة أو حتى متباينة بين الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي؟ ولماذا لم نقدم أبا حنيفة على الشافعي في النحت؟يأخذ بعض الباحثين على اللغة الفرنسية أنها لغة فقيرة في مصطلحاتها وجذورها، ويستشهد ببعض الكلمات على سبيل المثل (المطب) وهو ما يوضع في الشارع لتخفيف سرعة السيارات – ولاسيما – أما المدارس والمؤسسات وغيرها، ويدعي أن اللغة الفرنسية جاءت بكلمتين (دو دان- Dos d'ane) وهو ظهر الحمار، وكذلك في بعض ألفاظ العقود (80 – Quatre Vingt كاترو فن)، و(كاتر) هو العدد (4) وينطق (كاتغ) و(فن) هو العدد (20) أي: 4 x 20 = 80، وكذلك العدد (90 -Quatre Vingt Dix كاترو فن ديس) و(ديس) هو العدد (10) أي: 4 x 20 = 80 +10 = 90، لعجزها، وهذا الادعاء فيه تجن على اللغة الفرنسية وغيرها، لأن لكل لغة خصائصها ومميزاتها، فنحن في اللغة العربية نفسر (الأكسجين) بـ (الهواء النقي)، وكذلك (الإيميل) بـ (البريد الإلكتروني)، فهل معنى هذا أن اللغة العربية عاجزة؟ هذا كلام غير منطقي، فهم ابتكروا وصنعوا؛ فبالتالي من حقهم تسمية ما ابتكروا وما صنعوا، ونحن لو اجتهدنا وابتكرنا وصنعنا بريدا إلكترونيا عربيا وأطلقنا عليه مصطلحا واحدا وهو (بركل) من (برق – ركل)، واستفدنا من تقليبات الخليل بن أحمد الفراهيدي العالم العربي الفذ، وجمعنا كل التقليبات المهملة من مثل كلمة (ذهب) وتقليباتها هي (ذهب، ذبه، هذب، هبذ، بذه، بهذ)، وكل ابتكار أو صناعة قريبة من التقليبات المهملة فعـّلناها ووظـّفنا لخدمة المعجم العربي.وللبحث بقية...* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com