تسمعون وتقرأون وتتهامسون وتتحدثون عن بيان غير مألوف من أحد اقطاب الاسرة، وتصريح غير مسبوق من شخصية عامة، وموقف مفاجئ من طرف غير متوقع، وتصعيد حاد من جهة كانت الى زمن قليل مضى «أليفة»... تراقبون الشلل المخيف في الحياة العامة والانحدار المخيف في الحياة السياسية على ايقاع تبريرات لها اول وما لها آخر: الاسرة متنازعة وصراعات اقطابها تعطل مسيرة التنمية. الحكومة متهادنة متهاونة مرعوبة من أي مواجهة. نواب رؤوسهم حامية لا يأخذون مصالح البلد في الاعتبار. ادارات منهارة بسبب الفساد وحلول المحسوبية والواسطة والطائفية والقبلية والمناطقية محل الكفاءة في التعيينات. تحلل المجتمع المدني رويدا رويدا واتساع دائرة «الفداوية» الى كل الدوائر الاجتماعية، فهنا من يفدي الاسرة وهنا من يفدي القبيلة وهنا من يفدي الطائفة وهنا من يفدي «التيار» وهنا من يفدي «الحركة» وهنا من يفدي «التجمع».
بعض ما ذكر صحيح ان لم يكن كله... لكنه ليس سبب الازمة التي نعيشها بل نتيجة طبيعية لها.
السبب الحقيقي لما نعيشه اليوم عنوانه الرئيسي «أزمة النظام السياسي»، فهو نظام انسحب على مدى العقود السابقة من المشهد الوطني العام بكل تفاصيله تاركا الفراغ في كل منطقة انسحب منها، وعندما يسود الفراغ يمكن لأي كان أن يملأه.
في ستينات القرن الماضي، وتحديدا في مرحلة ولادة الدستور وما بعدها، كانت السلطتان التنفيذية والتشريعية قائمتين على طبقة سياسية من العقلاء والحكماء وأصحاب الرؤى والبصيرة. وحتى الذين اعتبروا من صقور المعارضة آنذاك كان حبل العلاقة المتحضرة يجمعهم بالقيادة والحكم والحكومة... كانت هناك معايير للعمل السياسي اتفق الجميع في العلن والسر على عدم تخطيها أو إضعافها ولو تعارضت مع مصلحة هذا الطرف أو ذاك.
المنطق يقول ان طبقة سياسية بهذا الوعي ما كان يجب ان تعبر الزمان من دون ان يحضر النظام السياسي القائم آنذاك آلية لتأهيل طبقة سياسية اخرى تتشبع من خبرة من سبقها وتستند عليها لاكتساب خبرات اخرى تتوافق مع المستجدات والتطورات ولغة العصر ومفرداته. لم يؤسس النظام لهذه الآلية وبالتالي عاشت الحياة السياسية في بعض جوانبها بالدفع الذاتي مستندة على رموز واسماء وقامات، وفي جوانبها الاخرى «على البركة» بحيث زحفت معايير اخرى على المعايير الوطنية التي تضعف وتتهاوى وملأت الفراغ الناجم عن انسحابها.
لم تكن هناك مساومة على هيبة الحكم ولم يكن مسموحا ان تحصل هذه المساومة. لم تكن هناك مساومة على مفهوم العدل في السلوك والقرار ولم يكن مسموحا ان تحصل هذه المساومة. لم تكن هناك مساومة على مفاهيم الوحدة الوطنية والعيش المشترك والهم المشترك ولم يكن مسموحا ان تحصل هذه المساومة. لم تكن هناك مساومة على الاعتصام بحبل الوطن وسيادته واستقرار المجتمع ونبذ السلوكيات الطائفية والقبلية ولم يكن مسموحا ان تحصل هذه المساومة. لم تكن هناك مساومة على انجاز المشاريع المفيدة للبلد ولو اختلفت الرؤى والمواقف ولم تكن هناك مساومة على الالتزام بلغة الحوار وثقافة الاختلاف... فمن التزم معايير العمل السياسي في السلطة والمعارضة كان يدرك ان اي تنازل عن هذه المعايير - في اي جانب من الجوانب - انما يعني فتح الباب لتنازلات اكبر.
استمر النظام السياسي في غياب «المصنع» الذي ينتج رجال دولة ويؤهلهم تدريجيا لخوض غمار المسؤوليات العامة. انعدمت للاسف الشديد آلية تأهيل الكوادر داخل النظام وبالتالي تحضيرهم لتسلم الادارات السياسية والاقتصادية والتنموية، وما ينطبق على السلطة ينطبق بدرجات على المعارضة، وفتح هذا الغياب الباب لكل انواع الحضور على حساب المعايير وآخرها ما افرزته الاستحقاقات التشريعية الاخيرة التي كانت طائفية وقبلية بامتياز وتشكيل الحكومات الذي جاء انعكاسا لمعيار المحاصصة وليس لمعيار الكفاءة... انتقل العمل السياسي الى ساحات اخرى غير التي عرفها تاريخ الكويت فيما بقيت ساحاتنا القديمة خاوية إلا من ذكرى نستعيدها بين فترة وأخرى.
«أزمة النظام السياسي» هي العنوان الرئيسي لما نعيشه اليوم والباقي تفاصيل، ويخطئ من يظن ان المؤسسات نظام يمكن ان يعيش بلا روح، والروح رجال الدولة، والبصمة التي يتركها هؤلاء في اسلوب الادارة هي الوقود الذي يكفل بقاءها وتقدمها وتطورها. ولنكن اكثر صراحة، فإذا قلنا ان عقلاء وحكماء كانوا وقود السلطتين التنفيذية والتشريعية قبل اكثر من ثلاثة عقود، فالمنطق يقضي بأن ينتج النظام السياسي كوادر متقدمة استفادت من تراكم خبرات القيادات والكوادر السابقة واضافت اليها ديناميكية الشباب وطاقات الشباب، وهذا الكلام ينطبق على الجيل الثاني الذي خبر ما سبقه والجيل الثالث الذي يفترض ان يكون استفاد من تجربتين والجيل الرابع الذي يفترض ان يكون استفاد من ثلاث... لكننا ندرك جميعا ان ذلك لم يحصل، وما يحصل ان المعايير الطائفية والمناطقية والوهن الاداري هي التي فرضت «خبراتها» على الاجيال اللاحقة.
كيف نعيد للنظام السياسي توازنه ونزرع في قلبه آلية تأهيل كوادر قيادية تعيد للمعايير الوطنية والتنموية اعتبارها؟ كيف نحقق «صدمة ايجابية» تعيد لهذا القلب قوة خفقانه كما حصل مع دستور 1962؟ كيف يطمئن ابناؤنا الى مستقبل القيادة ومستقبل الوطن؟... اسئلة صعبة جدا ولا ندعي ان اي طرف يمكنه الاجابة عنها بمفرده، بل نستطيع ان نجزم ان الاسئلة التي تتعلق بأزمة النظام اليوم ستكون أزمة وجود غدا.
حمى الله الكويت وشعبها من كل مكروه.

جاسم بودي