تدور الأرض حول الشمس، فينتج عن هذا الدوران الفصول الأربعة، وتدور حول ذاتها، فينتج عن ذلك الليل والنهار، وبسبب هذه الحركة المستمرة تتجدد الحياة في كل يوم، وتتجدد التفاعلات بين بني البشر، فتصعد أسهم البورصة في سوق ما، وتنخفض في سوق آخر، وينجح أحدهم في ابتكار اختراع جديد يفيد الإنسانية، وآخر يتمكن من تحطيم رقم قياسي في مجال ما، وأحدهم للتو انتهى من وضع لمساته الأخيرة على روايته الجديدة التي استغرق أكثر من عام على كتابتها، وهو بتلهفٍ ينتظر بفارغ الصبر لحظة الكشف عنها وإصدارها في دور النشر. في المقابل، ورغم كل هذه الحركة المستمرة والنبض المتدفق في شريان الحياة، في الأرض، وفي الكائنات الحية التي تعيش على الأرض، بل في هذا الكون كله، فإنك تجد من هو يجلس في البيت، مدمناً التحديق والتغريد في وسائل التواصل الإجتماعي ويأتي ويقول بملء الفم… «الوضع ملل»!تلك الحالة من الملل المزمن التي تصيب الكثير من أفراد المجتمع، خصوصاً شريحة الشباب، حالة مثيرة للانتباه، أولاً لأسبابها، وثانياً لنتائجها وتأثيراتها الوخيمة. فعند النظر إلى الأسباب نجد أن تلك الحالة ناتجة بشكل رئيسي من عدم وجود هدف ومشروع حقيقي لدى أصحابها، فالإنسان الذي لا يهتم بالسعي إلى مشروع أو هدف، والذي اعتاد على الفراغ والكسل وإضاعة الوقت، تجد أن حياته تعج بالفوضى والاضطراب فتراه يتخبط يميناً ويساراً، يشغل وقته في أمور تافهة فارغة لا تعود عليه بالنفع، وتأكيدنا على كلمة مشروع في قولنا تأتي كون حياة الإنسان في هذا الكون لم تأت عبثاً، بل جاءت لمشروع أراده الله، وهو أن يكون هذا الإنسان خليفة في الأرض، يعمرها ويجدد الحياة فيها، بالعمل والعلم وعبادة الله.إن حياة الإنسان الناجح لا يمكن أن تخلو من مشروع، بل مشاريع كثيرة يسعى إلى تحقيقها، كلها تجري في جدول المشروع الذي أراده الله، ومن المؤلم أن تجد مثل هذه الكلمة «ملل» من الكلمات الأكثر تداولاً على ألسن شريحة كبيرة من الشباب، تلك الفئة العمرية التي تشكل أكثر من 60 في المئة من المجتمع، فتحول هذه الكلمة بينهم وبين تحقيق انجاز يفيدهم ويفيد المجتمع.في الحقيقة، لو أننا تعمقنا في هذه المسألة لوجدنا أن شيئاً من هذا الملل ليس سوى إيهام للذات وهروب من الواقع، فلو أن هذا الشاب نظر إلى نفسه نظرة حقيقية، بوعي وبصيرة، لوجد أن حجم المسؤوليات التي تقع على كاهله، وحجم الأعمال التي يجب أن يقوم بها في هذه المرحلة المهمة من حياته أكبر مما عودتنا عليه ثقافة المجتمع، التي غرست فينا روح الاتكالية والكسل، لكن يبدو أن من يردد مثل هذه الكلمة «ملل» ليس أمراً نابعاً من فراغ فحسب، بل أيضاً من قلة وعي ونظرة ضيقة نحو الحياة. لو نظر الشاب اليوم إلى ما يمكن أن يفعله في ظل هذا الانفجار المعلوماتي الهائل وتلك السهولة التي توفرها لنا الوسائل التقنية، لوجد في الحقيقة أنه لن تكفيه 24 ساعة يقضيها في العمل أو التعلم أو القراءة لتحقيق التميز والتفوق المرجو، وسيطلب المزيد من الوقت، لاسيّما وأن النفس البشرية قد غرست فيها روح الفضول والشغف لمعرفة كل ما هو مجهول عنها، وأيضاً تعلم المهارات التي باتت تتطلب من الإنسان متابعة لكل ما هو جديد على مختلف المستويات العلمية. ليست حالة الملل التي استقصدها هي الحالة الطبيعية التي تصيب كل نفس، فهذه الحال نتيجة طبيعية كوننا نتعامل مع جسد ونفس قد يفتران لفترة مؤقتة طلباً للراحة والتغيير، لكن حالة الملل التي أعنيها هي تلك الحالة المزمنة التي يتسبب بها الفراغ الموهوم، والتي من شأنها أن تهدر طاقات الإنسان وتقتل فيه الإبداع، بل إن هذا الفراغ سبب رئيسي لانزلاق الشباب نحو مفاسد قد تقضي على مستقبلهم وتحطمهم وانحرافهم الأخلاقي، والشواهد على ذلك غنية عن البيان، لذا يجب على الشباب، ذكوراً وإناثاً أن ينظروا لأنفسهم ولحجم ما قدموه في حياتهم قبل أن يقولوا «ملل»، وأن ينتهزوا فرصة هذه الفترة الذهبية من حياتهم قبل أن يفوت الأوان وعندها يصعب تصحيح الأخطاء وتعويض ما فات.حكمةيقول الإمام علي عليه السلام: «إن يكن الشغل مجهدة فاتصال الفراغ مفسدة».