تحت عنوان «نرْد آينشتاين وقطة شرودنغر»، أصدرت دار «Basic Books» الأميركية أخيرا كتاباً جديداً للمؤلف العلمي الأميركي بول هالبيرن، وهو الكتاب الذي يسلط الضوء بأسلوب نثري أدبي على قصة الصراع العلمي المشهور الذي دار بين عالمي الفيزياء الشهيرين ألبرت آينشتاين و إيرفن شرودنغر من أجل وضع نظرية فيزيائية موحدة لتفسير كل ما في الكون من علاقات بين المكان والزمان والمادة والطاقة.وفي التالي ترجمة لمقال نقدي حول الكتاب نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»:في يوم بارد من أيام يناير في العام 1947، صعد عالم الفيزياء ايرفن شرودنغر إلى منصة الخطابة في الأكاديمية الملكية الايرلندية في دبلن، و أعلن بلهجة المنتصر أنه قد نجح حيث فشل ألبرت آينشتاين طوال السنوات الـ 30 الماضية. قال شرودنغر إنه قد صاغ نظرية موحدة لكل شيء، وهي النظرية التي وفقت بين النسبية العامة التي وضعها آينشتاين وبين نظرية ميكانيكا الكم. وقد تسبب إعلانه هذا في إحداث ضجة كبيرة آنذاك في الصحافة الدولية، والتي لعبت دون خجل على وتر الصراع بين المنتصر والمهزوم، وهو الأمر الذي تسبب في انزعاج شرودنغر وغضب آينشتاين. وكاد ذلك أن يتسبب في تدمير علاقة الصداقة التي كانت تجمع بين آينشتاين وشرودنغر منذ فترة طويلة. وعند نقطة معينة، أصبحت الأمور قاسية جدا في ظل ترويج شائعات عن دعاوى قضائية محتملة بين الطرفين، إلى درجة أن زميلا لهما، وهو عالم الفيزياء فولفغانغ باولي، تدخل للتوسط بينهما. ومرت ثلاث سنوات كاملة قبل أن يستأنف الصديقان المتخاصمان تبادل الرسائل مرة أخرى، ولكن بحذر شديد.والواقع أن هذه القصة التي حصلت بين عالمي الفيزياء البارزين آينشتاين وشرودنغر، وسعيهما التنافسي المشترك من أجل توحيد نظريات الفيزياء والضجة الاعلامية التي مزقت علاقتهما، هي محور أحدث كتاب للكاتب بول هالبيرن، وهو الكتاب الذي صدر حديثا عن دار «Basic Books» للنشر تحت عنوان«نرْد آينشتاين وقطة شرودنغر».كان الرجلان حليفين طبيعيين. فكل منهما كان حاصلا على جائزة نوبل في الفيزياء، وكان كل واحد منهما معترفاً به بفضل عمله التأسيسي خلال الأيام الأولى لميكانيكا الكم. وكانت لكل واحد منهما نزعة فلسفية قوية، وهي النزعة التي شكلت نظرته إزاء الكون ككل. وكان آينشتاين يفضل أعمال سبينوزا، في حين كان شرودنغر منجذبا إلى أعمال شوبنهاور كما أنه كان منخرطا في عالم التصوف الشرقي. وقد أسهمت تلك التأثيرات الفلسفية في كراهيتهما المشتركة للطبيعة الاحتمالية الخاصة بميكانيكا الكم، وذلك على الرغم من نجاحها التجريبي المذهل.كان آينشتاين لا يخجل من التعبير علنا عن اعتراضاته، وهو الأمر الذي دفع عالم الفيزياء الدنماركي نيلز بوهر إلى الرد عليه. ويقول هالبيرن في كتابه إن شرودنغر تردد بعض الشيء في موقفه - إذ ظل على موقفه الذي تمثل في «التراكب الكمي المؤلف من وجهات نظر متناقضة» - ولكنه اعترف بأسى قائلا: «هذا لا يروق لي، وأنا آسف لأنني في أي وقت مضى كانت لي أي علاقة به». ولتسليط الضوء على عبثية تفسير كوبنهاغن لميكانيكا الكم، فإنه اقترح مفارقته المشهورة التي عرفت لاحقا باسم «مفارقة القطة».وفي جوهره، فإن هذا الكتاب هو أيضا بمثابة حكاية معادلتين ألا وهما معادلة آينشتاين في النسبية العامة ومعادلة الموجة الخاصة بشرودنغر، وهما المعادلتان الفيزيائيتان اللتان تحكمان وتنظمان عوالم الأشياء الكبيرة جدا والصغيرة جدا. وقد قام الفيزيائي بول ديراك بالتوفيق بين معادلة الموجة ومعادلة النسبية الخاصة في العام 1928، وتقاسم بذلك جائزة نوبل مع شرودنغر تقديرا لجهوده. ولكن حتى ذلك الحين، قاومت نظرية النسبية العامة كل الجهود التي هدفت إلى استيعابها على نحو مماثل لتصبح نظرية متكاملة للجاذبية الكمومية. ولكي نفهم تماما لماذا، فإن الأمر يتطلب الخوض في بعض المواد الكثيفة والمعقدة رياضيا.مؤلف الكتاب، بول هالبيرن، باعتباره فيزيائيا في جامعة العلوم في فيلادلفيا، يبذل قصارى جهده من أجل تزويد القارئ العادي بتشبيهات إبداعية من خلال أسلوب نثري تتخلله ومضات من الطرافة. فعنصر «الزمكان» (الزمان-المكان) المنحني بشكل سلبي- والذي يوصف عادة بأنه على شكل سرج حصان- يشبهه المؤلف بـ «شريحة بطاطا متعرجة» وذلك ليقرب الصورة إلى أذهان من يمتلكون أذواقا أبيقورية أكثر من كونها أذواقا فروسية. أما فكرة الفيزيائي ماكس بلانك إزاء العناصر الكمية فإن هالبيرن يشبهها بـ «ملء حصالة نقود بكومة من القطع النقدية من مختلف الفئات»، وبالنسبة إلى معادلة الموجة الخاصة بشرودنغر فهي في نظر هالبيرن أقرب إلى «ماسحة ضوئية (سكانر) تعالج الوظائف الموجية وفي بعض الحالات تقرأ قيمة طاقتها وتحتفظ بالقراءات، بينما في حالات أخرى فإنها تتخلص من تلك القراءات».ولعل كثيرا من طالبات الدراسات العليا في الفيزياء قد أصبن بالإحباط بسبب تعقيد وصعوبة رياضيات النسبية العامة. ويقول هالبيرن إنه ربما يتعين على أمثال هؤلاء أن يحاولن أن يتخيلن الأمر على النحو التالي: صحراء منبسطة لا حدود لها، وفيها صخور من مختلف الأحجام منتشرة في أرجائها، وهي الصخور التي تتسبب كتلتها في خلق منخفضات ذات أعماق مختلفة في الرمال. وتخيم تعريشة قوية وكثيفة على تلك الصحراء، وهي التعريشة التي تمتد بإحكام على هيكل يتألف من أعمدة خيمة تربط بينها ألواح على نحو يتطابق مع الارتفاعات والانخفاضات في الرمال التي تحتها. والواقع أن الصحراء هي كل المادة والطاقة الموجودة في الكون، في حين أن المظلة هي هندسة الزمكان. أما الأعمدة والألواح فإنها معادلات النسبية العامة، وهي التي تربط بين الاشياء في الكون وبين شكل الكون. وكما يكتب هالبيرن فإن: «الكتلة الفيزيائية والطاقة يقوسان الزمكان، إذ إنهما يخبرانه أين وكيف ينحني. وفي المقابل، فإن شكل الزمكان يحكم الكيفية التي تتحرك بها الأشياء في داخله».لكن على الرغم من هذه الموهبة في الشرح الواضح من جانب مؤلف الكتاب، فإن مثل هذه اللحظات تسبقها غالبا كتل كبيرة من اللغة النثرية والصياغات الجافة حول أرض تاريخية طالما سافر الفيزيائيون في أرجائها. ويعاني النصف الأول من الكتاب على وجه الخصوص في هذا الصدد ؛ فليس هناك ما هو جديد لمفاجأة وإبهاج القارئ. والتطور المفاجئ الجديد الوحيد يتمثل في زاوية وسائل الإعلام، كما أن أسلوب كتابة هالبيرن يتوهج عندما يعود إلى هذا الموضوع، وعلى الأخص في الفصل المخصص لمخاطر التعامل مع علم الفيزياء من خلال بيان صحافي انطوى على رغبة جامحة في الإطاحة بآينشتاين آنذاك.وعلى الرغم من كل تلك الإثارة من جانب وسائل الاعلام بشأن محاولات آينشتاين في توحيد نظريات الفيزياء، ينوه المؤلف هالبيرن بحق إلى أن نظراء آينشتاين كانوا غير مبالين إلى حد كبير. كما أن التيار الرئيسي في علم الفيزياء تركه وراء ظهره في الوقت الذي شهد تبلور شكل النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، علاوة على أن النهج الرياضي الذي استكشفه آينشتاين وشرودنغر ذات مرة قد أفسح الطريق منذ فترة طويلة لنظرية الأوتار ولنظرية حلقة الثقالة الكمومية، وهما النظريتان الواعدتان في مجال الجاذبية الكمومية.ويبقى السؤال: هل يجب على الفيزيائيين في نهاية المطاف أن ينجحوا حيث فشلوا، وهل من شأن ذلك أن يكون كافيا لوصف الكون بشكل كامل وشامل؟الواقع أن مؤلف الكتاب يعتقد أن الإجابة عن ذلك السؤال هي بالنفي القاطع، وذلك لأنه ما زال هناك في رأيه الكثير من الأسئلة المفتوحة في مجال علم الفيزياء. ويستشهد المؤلف بالطبيعة الغامضة للمادة المظلمة والطاقة المظلمة كأمثلة. ومع ذلك فإنه يرى أن علماء الفيزياء سيواصلون المثابرة، تماما مثل آينشتاين الذي طلب قلم رصاص ودفتر ملاحظاته في اليوم الذي سبق وفاته مباشرة حتى يتمكن من مواصلة العمل على معادلاته الفيزيائية - مصارعا طواحين الهواء حتى النهاية المريرة في سعيه الدونكيشوتي نحو توحيد نظريات الفيزياء التي تفسر الكون .* عنوان الكتاب: «نرْد آينشتاين وقطة شرودنغر» (EINSTEIN’S DICE AND SCHR?DINGER’S CAT)- المؤلف: بول هالبيرن- عدد الصفحات: 271 صفحة مع صور- الناشر: دار «Basic Books»