أحيا الشاعر البحريني قاسم حداد أمسية شعرية، اتسمت بالشفافية والحكمة، والقدرة على استلهام الصور الشعرية، من رموز تراثية وإنسانية عدة، وذلك في سياق فعاليات مؤتمر القراءة الوطني في دورته الأولى.والأمسية أدارتها باقتدار الزميلة الشاعرة سعدية مفرح، والتي تداخلت في تقديمها مع السيرة الذاتية للشاعر وهمومه الشعرية، التي كان يقتنصها من مدلولات إنسانية عدة... لتقول: «قاسم المختلف ككل شاعر يتوسد القصيدة المستحيلة، المأخوذ بشهوة القول الى حيث البئر الأولى يمتح منها ما يشاء من القصائد. يتشظى في حديقة التجربة، ولا يخضع لسطوة المألوف ولا لراحة السائد ولا لمتعة الاستقرار... فالشعر عكس ذلك. والقصيدة كسر»!وأضافت: «في واحدة من محاولاته لوصف ذاته كتب: أضع المرآة على الطاولة. أحملق، وأتساءل: من يكون هذا الشخص ؟ أكاد لا أعرفه. أستعين بالمزيد من المرايا. وإذا بالشخص ذاته يتعدد أمامي ويتكاثر مثل الصدى في كاتدرائية الجبال، فأتخيل أنني قادر على وصفه: إنه قاسم حداد... تقريبا». وحضر الأمسية الفنان مارسيل خليفة.وأنشد الشاعر قاسم حداد- في ما أنشد- قصائده، تلك التي انتبذت حيزا من الحياة، تبث فيها المشاعر والرؤى، وتتفاعل مع الكلمة بأكبر قدر من التكثيف والإيحاء.وقرأ الشاعر قصائد- كان في معظمها- من ديوان «النهايات تنأى»، ومنها «الغريب»، «قل هو الحب»، «الوقت»، «ظلام عليك أيها الجبل»، «خطاطون»، وغيرها.ليقول حداد في قصيدة «قل هو الجب»:هواء سيد، وزجاج يفضح الروح وترتيل يمامقل هو الحبولا تصغي لغير القلب،لا تأخذك الغفلة،لا ينتابك الخوف على ماء الكلاموبدت المشاعر متفاعلة مع الكلمات في قصيدة «الغريب»، ومن ثم فإن الرؤى جاءت متحركة في اتجاهات إنسانية عدة، وبتفاعل حسي مع الغربة والوحشة، والتشرد... ليقول:أيها الغريبتلك الصخرة المشتعلة في الأعاليمنذورةٌ لكتفٍ ماشخصٌ للوحشة شخصٌ لقرينها.جسارة الحلم لك ولك احتضان الصخرةأيها الشاحب المشرد الوحيد.وفي قصيد «وقت الحلم الأول»... تدفقت المدلولات في إنشاد شعري مفعم بالحيوية والحركة، والتدفق الوجداني المتضامن مع توهج الكلمات، وتنوع معانيها في متن النص ليقول:قولوامن منكم لا يلمح صورته في قاع الكأسمن منكم لا يتذكر تاريخ ولادتهوطول أصابعهوملامحه منذ الصحوة حتى الرأسفي كل خيوط الثوب أراه يلوح لي جرحاًوأراه ملوحة هذا الكون المائلأنتم يا أبناء الحلم الأول خلف البابوأنا في حلمي الآخر منذور دون جوابوأنا السائلإن كان النوم، الراحة، حبل السرةأطراف الفعل البارد، غفلتكموفي قصيدة «القلعة»... حرص الشاعر قاسم حداد على التواصل مع حزمة من المشاعر، تلك التي يبدو فيها المضمون أكثر توهجا وحضورا، والمفردات متكئة على رؤى جمالية عدة ليقول:أبني القلعة من حوليأشيّدها حجرا حجراوأستنفر الجيوشَ لتبدأ الهجوموحديأستعدي شهية القتال في شجاعة الأعداءأهيئ لهم كي يبدأوا شحذ الأسلحةويحسنوا التصويبأبعث بكتب التحديات وأنتظر في القلعةوحديوبدى الفعل الرمزي متوهجا في قصيدة «مرارات»... وهو توهجت أظهرته الصور الجمالية التي ساقها حداد في نسيج قصيدته، بقدر من الحضور الذهني، الذي يحتاج إلى التفكير والتأمل:مررنا بهميشخصون إلينا بأحداق تطلع منها طيورٌ عمياءنكسر في وجوههم الشمس بالمرايافلا يرفُّ لهم جفنٌ ولا تتهدّل أهدابهميتفصّد الرخام من مقلهموينبثق كأنه الحممكلما ظننا لهم شكلاًطاحَ قناعٌ لندرك قناعاً آخر خلفهثم استخلص الشاعر مضامينه في «ظلامٌ عليك أيها الجبل»، من خلال تشابيه حسية، تتمادى في عنفوانه، عبر أنساق شعرية متوهجة:كان الجبل في أحداقناينقل أقدامه الزجاجية من حلم في هيبة البحرإلى حلم في أبّهة النخيلذهبنا لشحذ أعضاءنا بأسنانهبصلافة صخوره وغدر نتوءاتهفيما هو منشغل بصقل شظاياهمباهياً بهيبة مراثيه وبراثنه الباسلةفي ما اتسمت قصيدة «خطاطون»... بالقدرة على الدخول إلى أعماق المتلقي، وذلك بفضل ما تحمله من مشاعر ساقها الشاعر في رؤى إنسانية، تحتاج إلى التركيز في مضامينها، لتحقيق الفهم الرمزي لها:يهب الخطاطونيلوبون بتسع مرايا موغلةٍ في السر،يفضون الختم عن الأبواب التسعةفي أشلاءٍ خائفةٍ،وكلام الله يزين بالأسماء زجاج المشكاة ويحرسها.تسعة خطاطينيذوبون لفرط الشطحومجد الجسد الذاهب في الشطرنج وزهر النوم.وقبل أن ينهي الشاعر قاسم حداد الأمسية، طلبت منه الزميلة الشاعرة سعدية مفرح أن يتلو قصيدة جديدة لم ينشرها، فقرأ من كتاب «تعديل في موسيقى الجحر، والتي تجول عبرها في ألوان شعرية، امتزج فيها الخاص بالعام... الحديث بالقديم، الواقع بالخيال:«طفق الخزافون يحفرون الاختام وينحتون الرقوم ويرسمون الرقش في زندها لئلا يخطئها الطوفان ولا تقصر التجارة، يهندس سدنة العمل الأفلاج لها، فلا يتأخر الماء عن مكانه ولا الزرع عن أوانه».