كانت سيرة الروائي العالمي نجيب محفوظ محفوفة بالإبهار والتألق... عبر احتفالية أقامها المكتب الثقافي في السفارة المصرية الكائنة في الجابرية، استذكارا واستشرافا لهذه السيرة التي انجزها في سنوات عديدة صاحب الثلاثية نجيب محفوظ.وتحت رعاية وحضور السفير المصري لدى الكويت عبد الكريم سليمان، وبإشراف وتنظيم المستشار الثقافي المصري الدكتور نبيل بهجت، دارت مراسم هذه الاحتفالية، التي شهدت على هامشها افتتاح ديوانية القراءة، وشهادات نقدية في أدب نجيب محفوظ، للكتاب الدكتور أيمن بكر وفهد الهندال وهديل الحساوي، بإدارة الكاتب أشرف عبد الكريم.... وتكريم لشخصيات ثقافية وإعلامية... وغيرها.وبدت الصورة في هذه الاحتفالية متوهجة بالتقدير تجاه شخصية جعلت من الرواية العربية وجهة عالمية، تحققت فيها كل سبل التميز والحضور.هذه الشخصية المحفوظية... عبرت في أكثر من شكل عن المهمشين كتابة وحلما وتحليلا واستشرافا، ومن ثم تمكنت من تأصيل مفاهيم إنسانية عدة، عبر روايات إبداعية، اتسمت بالقدرة على الوصف والتحليل، عبر لغة روائية تتحرك في أكثر من اتجاه، ومن ثم فقد تأصلت التفاصيل في وجدان المتلقي، تلك التفاصيل اختفت بالحارة المصرية، والإنسان البسيط، الذي يتشكل بصعوبة بين جوانب الشر والخير معا، وعليه فإن المعالجة الأدبية المحفوظية، تناسقت في أكثر من شكل مع الحياة... مدا وجزا، قوة وضعفا، طيبة وشرا.كي تأتي هذه احتفالية المكتب الثقافي المصري في الكويت، لتسليط الضوء على جوانب إبداعية عدة من خلال الكتاب والنقاد المشاركين في الندوة المصاحبة، ومن ثم فإن أفكار ورؤى عديدة تم استخلاصها من أوراق البحث المطروحة.وفي السياق نفسه قدم الزميل الكاتب الدكتور ايمن بكر ورقة بحثية حملت عنوانا لافتا «زيف نجيب محفوظ»... متحدثا فيها عن مفهوم نجيب محفوظ الخاص عن الزيف الإنساني، وهو مفهوم ينتثر في منعطفات سروده. ويمكن لمن أراد استكشاف معنى الزيف لديه أن يتأوله في الروايات التي تعد ميدانا خصيبا لطرح الرؤى الفلسفية متشحة بسرد محفوظ المحكم. وقال: «الطريف أن لمحفوظ قصة قصيرة تحمل عنوان«الزيفهي» القصة الثانية ضمن مجموعته القصصية الأولى»همس الجنون/1983«. الزيف أو لنقل فضح الزيف يبدو إذاً هما مطروحا منذ البدايات الأولى لمحفوظ».وأضاف: «يبدو الزيف مكونا رئيسا في الوجود البشري أينما كانت الشريحة التي ستلقي عليها ضوء تحليلك. المشهد السابق يمنح للزيف نصف الحضور: محبي الظهور ومدعي الفن. على أن الوصف السابق ـ كما أشرت ـ سطحي تعميمي لا يتحرى ما تحت السطح، لكنه إلى جوار عنوان القصة يعدان بمزيد من العمق في استعراض الزيف الإنساني وما يمكن أن يقود إليه... بين الحضور يجلس علي أفندي جبر الذي ظن أن مسرحية موليير هي كوميديا على نمط الريحاني والكسار، لكنه سرعان ما يكتشف أنها أمر مختلف، فيصيبه الضجر ويكاد يغلبه النعاس. لكن حدثا غريبا يقع، حين يأتي أحد العاملين بالمسرح ليطلب من الأستاذ علي المترجم بوزارة الزراعة أن يستجيب لدعوة إحدى السيدات المحتجبات في بنوار مغلق».ومن ثم قدم بكر تحليلا نقديا عن مسألة الزيف في كتابات محفوظ، وقدرته الفذة على استشعارها واستكشاف تفاصيلها في شخصيات أعماله الأدبية.«تدعوه السيدة للجلوس وتعامله باحترام يليق بنجم مجتمع. وسرعان ما نكتشف أنها تخلط بين علي أفندي الموظف البسيط وأكبر شاعر في مصر الذي أعطاه محفوظ اسم محمد نور الدين. سبب الخلط هو الشبه العجيب بين الشخصين، وهو الشبه الذي يعرفه علي أفندي ويتندر به مع أصحابه. هنا نحن أمام مفترق طرق بين زيف شهي مرصع بأنثى فاخرة هي أرملة أحد الباشوات، وبين حقيقة جافة كان بإمكانها أن تنهي المشهد والسرد سريعا:»... وهمّ أن يقدم لها شخصه العزيز، واستدلت السيدة من لهجته على ذلك فأشارت إليه بيدها البضة وقالت بسرعة وهي تبسم عن در نضيد:ـ وهل أنت في حاجة إلى تعريف يا أستاذ... تفضلوجلس كما أرادت. ولكن عبارتها الأخيرة قلبت ما بنفسه رأسا على عقب... إنه يكاد يهتدي إلى وجه الحق... فهل تظن السيدة أنه شاعر مصر الأكبر بل شاعر الشرق العربي جميعا الأستاذ محمد نور الدين؟ والحق أن المشابهة التي بينه وبين سيد الشعراء معروفة مشهورة يعلم بها جميع أصحابه... وا أسفاه، ذاق حلاوة الفوز ومرارة الهزيمة في لحظة واحدة، فهل يتراجع ويرضى من الغنيمة بالإياب؟«.«نجيب محفوظ... ثروة وثورة روائية»... إنها الورقة البحثية التي قدمها الكاتب والناقد الزميل فهد توفيق الهندال... قال في مستهلها: أن تقرأ لنجيب محفوظ، فهذا يعني أن تقرأ تاريخ وطن تجسد في إنسان، يمتد بقامته الطويلة من حضارة عريقة وارفة الظلال على من حولها، ثقافة، معرفة، فنا وموقفا. فالحياة من دون مواقف وتحولات منعطفة في مراحلها، غير جديرة بالتأمل فيها، لكونها لا تملك ما يغير من نمطيتها أو يثير فيها ما يشعل حماس من فيها، لتكون مستحقة للعيش معها. ولهذا، فإن الإنسان ثائر في أصله، على كل ما هو سائد وثابت من دون تحول في المفاهيم والوعي.وأضاف:إن المتأمل في أعمال الكاتب الكبير، ليقف أمام معجم ضخم من المفردات سواء الجامعـة أو الشاملـة أو ذات الخصوصيـة في حياة المواطن العربي- المصري خاصة، في ظل فضاء غير مؤطر بأية أيديولوجية أو ذهنية محصورة مغلقة. بل تعدى بفضائها الواسع كل الحدود و وسائل الحجر، بما يفيضه من سماحة البيئة التي نهل منها أولى أفكاره و حروفه الإنسانية قبل الأدبية. فمن يصادق طوال عمره ضفاف النيل، ويفنيها ذهابا وإيابا بين حي الحسين و الأزهر والقاهرة الجديدة، لابد وأن يشع في قلبه و عقله ذلك النفس الصافي وقد تطهّر من كل شوائب العصر الحالي وما نعانيه اليوم من صدام فكري بين أبناء الجيل الواحد.وكشف «ان رواية واحدة من روايات محفوظ، كفيلة بأن تمهد الطريق لكل متلق يبحث عن الحرفية في الكتابة والروعة في تشكيل الصورة الأدبية، مهما حاولت الحداثة وما بعدها من تغيير ميول الكتّاب ومزاجية المتلقي، لنوقن أننا أمام تيار وعي غير مرتبط بأية إدعاءات أو لافتات مستعارة من الثقافة الغربية، يقحمها البعض تحت مسميات وهمية لا تمت بصلة إلى واقع الثقافة العربية، أو على الأقل لا تنسجم من خصوصيتها اللغوية والبلاغية، وهي من كانت فريدة من نوعها بين ثقافات اللغات الأخرى».وأن «المتأمل في أدب نجيب محفوظ، يرصد عدة ظواهر أدبية تجعل الكاتب ظاهرة غير متكررة بين عموم أجيال الكتّاب العرب وغيرهم، فإضافة لما ذكرناه آنفا، يعتمد أدب محفوظ على خطاب يتفرع في لغته إلى أكثر من جادة فكرية تشير إلى أكثر من جهة مكانية وحقبة زمانية.ففي أدب محفوظ الواقعي، نجد تلك المقابلة الاجتماعية/ الفكرية بين مراحل مختلفة من عمر المكان، فالقاهرة الجديدة هي النقيض للسابقة القديمة، في ما حمله العصر من متغيرات أطاحت بالعديد من القيم والمفاهيم، وسط مقاومة شرسة للحفاظ على مقومات الهوية المصرية. فالمكان الذي شهد ولادة الحضارات وحروب الأمم والغزاة، شهد كذلك انقسامات أفراد مجتمعه بين مغريات الحياة وضغوطاتها، الأمر الذي دفع محفوظ وهو الذي شهد في طفولته ثورة 1919، وفي منتصف عمره ثورة 1952 لأن يعبر عن تلك التحولات في الكثر من أعماله، لا يدين بها تاريخ الحدث، بقدر ما يدين تحولها عن الخط المفترض الذي خطه الإنسان المصري بدمه وفكره.لقد شكل نجيب محفوظ وعيا مهما في كتابته الروائية، التي تفرعت مداركها الفلسفية واختلفت قوالبها السردية، ولو أن عنصري الصراع الأساسي فيها: الإنسان والمكان».وختم بقوله:«إن ما حاوله نجيب محفوظ في هذه الرواية، هو أن يصدم المجتمع بواقعه وحاضره، حتى يكون مستعدا لغده الذي يحمل إليه التغيير في كل شيء. وبالفعل فإن الرواية طبعت أول مرة عام 1945 في ذروة ما يشهده الزمن من احتقان قابل للانفجار في أي لحظة حتى كانت ثورة 1952، ومن ثم تأتي فصول روائية أخرى تكمل ما سارت عليه ثورة محفوظ الروائية في رصد المجتمع وتحولاته، في أعماله المتلاحقة».