لم تكن حياة الشاعر والباحث اللبناني الراحل جورج جرداق...عابرة بقدر ما كانت مزدحمة بالمنجزات والأعمال الإنسانية المبدعة، وان وجوده الثقافي العربي ظل على مدى عمره حافلة بالإنتاج والإبداع والتفكير، والبحث والدراسة.ولعل الصورة التي رسمتها لجرداق في مخيلتي، لسنوات طويلة لم تختلف بأي حال من الأحوال، عن الصورة التي رأيته فيها...بعد مقابلتي الأولى والأخيرة له...وذلك في عام 2000 في إيران، اثناء عقد مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، لدورة سعدي الشيرازي في طهران، فلقد وجدته إنسانا هادئا، شغوفا لمعرفة المزيد من الأخبار عن المجتمعات، محملا بهموم إنسانية بالغة الشفافية.وبالتالي جلست معه في حديث كان يبدو سريعا، غير أنه كان حديثا يحمل في مضامينه رؤية إنسانية خالصة تنظر إلى الواقع، من خلال رحلة عمرية اتسمت بالحب والسلام، إنه كان يتحدث عن المجتمعات العربية، في نسق جماعي لا يقبل التفرقة، ولا ينظر إلى المصلحة أو الانتماء الطائفي، وهذه الرؤية - التي استشرفتها من حديثه، كانت تتمحور حول الإنسان العربي وما يمكن أن يفعله لو امتلك القدرة على التوحد في الرؤية ونبذ العنصرية، والانصهار في كيان واحد لا يقبل التجزئة بأي حال من الأحوال.وحينما كان الحديث يتجه في مساره إلى العالم، فإنه كان يضع الإنسان في بوتقة واحدة مع اخيه الإنسان، حالما بأن تسود المودة والمحبة بين كل أصناف البشرية، وأن تظل الحياة عامرة بالسلام، الذي لا يقبل الحروب والمنازعات الضيقة.هكذا كانت الرؤية التي شكلها وجداني وأنا استمع بشغف لحديث جرداق - السريع - عن أحلامه الإنسانية، ولم يفصلنا عن هذا الحديث إلا تدفق المثقفين الإيرانيين، الذين تزاحموا حوله ودعوه بأن يمكث في طهران بضعة أيام أخرى ليتسنى لهم تنظيم بعض الندوات له، ولكن جرداق اعتذر لأنه يحس بالتعب والإرهاق، ويريد العودة إلى بلده، وكان من بين المثقفين الشيخ التسخيري.وقتها تأكدت أنني لم اتعرف بالقدر الكافي على جرداق...صاحب رائعة «هذه ليلتي» التي شدت بها أم كلثوم فألهبت مشاعرنا بالحب والحلم. وصاحب أجمل موسوعة شاملة عن الأمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، والذي وضعها في منظومة إنسانية يصعب تكرارها.وبفعل الموت...عاد الشاعر اللبناني جورج جرداق إلى بلدته مرجعيون الجنوبية، ولكن هذه المرة جثمانا نقيا، بعد 93 عاما من العطاء المتواصل في دروب الأدب والبحث والفكر.عاد إلى مرجعيون الجنوبية في لبنان، تاركا لنا بين أيدينا وفي اذهاننا ومشاعرنا...أحلامه وتطلعاته وكتاباته التي ستظل خالدة، إنه شاعر الرقة والجمال الذي استطاع أن يسخر الكلمة في سياقها الجمالي البديع:هذه ليلتـي وحلم حياتي بيـن ماض مـن الزمان وآتالهوى أنت كله والأمانـي فاملأ الكأس بالغـرام وهاتبعد حين يبدل الحب دارا والعصافير تهجـر الأوكاروديار كانـت قديمـا ديارا ستـرانا كمـا نراهــا قفاراسوف تلهـو بنا الحياة وتسخر فتعالـى أحبك الآن أكثروتستمر الرؤية الشعرية في جمالها الأخاذ عبر قصيدة «هذه ليلتي»، والتي لحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب، في ابداع جعل حنجرة أم كلثوم تصدح وتسحر الألباب، وتستنطق الكلمات بأعذب الجمل الشعرية:سهر الشوق في العيون الجميلة حلـم آثر الهوى أن يطيلهوحديث في الحب إن لم نقلـه أوشك الصمت حولنا أن يقولهيا حبيبي وأنت خمري وكأسي ومنى خاطـري وبهجة أنسيفيك صمتي وفيك نطقي وهمسي وغدي في هواك يسبق أمسيوفي لحظات جمالية أخرى نقرأ قصيدة «سمراء النيل»، أو «سـمـراء كلَـيْـل السهــران» التي أنشدتها غناءً ماجدة الرومى ولحنتها ايلي شويري وتقول كلماتها:سمراءُ كليلِ السهرانِ وكطلّة بنت السلطانضحكتها كالفرح المنصوب شراعاً فوق الخلجانِكصباحٍ تمرح فيه الشمس كرقصِ الريحِ بفستانِمن فرحة أرض أزلية من رنة عود شرقيةلفتتها الخفةُّ...خطوتها الرقصةلهجتها المصريةأوراق زهور برية...أجنحة طيور بحريةليلٌ وحرير وتكيةوتقول الشفة الخمرية: أنا مصريةكالأرض حميمة وبهيةكالشمس قديمة وصبيةوفي قصيدة «وجهي يسأل فجر الكون»...يستلهم جرداق رؤيته من قناعت إنسانية خالص، مؤمنة بالحياة والحلم والجمال وامتزاج الكون في سلة واحدة لا يمكن أن تتجزأ أو تتمزق:ألم تكوني ذات يوم شجرهْأو نجمةً، أو غيمةً، أو مَطَرَهْألم تكوني مَرّة عصفورةصغيرة، أو قطة، أو نمرهألم تكوني مَشْقَة الريح إذاهبّت ووجه النسمة المخدَّرهوكل ألوان البساتين، وكلْـلَ الهَمَسات الليِّنات العطرهألم تكوني موجةً لاهيةزرقاء مدّتْ شعرها للقمرهوعن السبب الذي دفعه للكتابة عن أمير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب كرم الله وجهه، أجاب في أحد حواراته بأن الإمام علي ابن ابي طالب،? وهو يؤسس دولته كان نموذجا في العدالة، كما كان استاذ عصره وجيله في الحكمة والفلسفة، بل استاذ الاجيال التي تعاقبت من بعده. ?هكذا عاش الشاعر اللبناني جورج جرداق...متفهما للحياة في أجمل صورها، مقتربا كثيرا من ضميره، مبتهجا بنفسه التي عزفت عن كل ما يتعلق بالشر، لدرجة أنه أصبح نباتيا، لا يأكل اللحوم، قناعة منه بأن ذلك فيه شفقة على الحيوانات والطيور.