تقترب الأزمة الليبية التي إندلعت مطلع العام 2011 من إطفاء شمعتها الثالثة وسط «ظلام» يحوط مصيرها مع إنسداد الأفق السياسي لترتيب بيت الدولة والحكم وإشتداد الصراع العسكري المتعدّد القوى وذات الطبيعة السياسية والدينية والقبَلية والجهوية.وعلى غرار أزمات المنطقة وحروبها، يختلط في ليبيا الداخلي بالخارجي في صراعٍ يدور بلا هوادة على إمتداد البلاد التي شهدت تدخلاً عسكرياً غربياً «عابراً»، لكنه كان حاسماً عبر الإطاحة بنظام معمر القذافي، فإنهار القديم من دون ان تستقرّ المرحلة الجديدة.وكان مثيراً للإنتباه ما تحدّثت عنه تقارير قبل ايام عن عزم السعودية والإمارات ومصر والكويت على تشكيل قوة مشتركة تكون قادرة على التدخل في ليبيا، وان إجتماعات ذات طابع عسكري عُقدت بين الدول الأربع لهذه الغاية.ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثتها السابق الى ليبيا اللبناني طارق متري شكّك في إمكان إنخراط الكويت في محور إقليمي ما، وقال لـ «الراي» ان الكويت اكثر حكمة في مقاربة قضايا من هذا النوع.وكان متري قد أمضى نحو عامين على رأس البعثة الدولية في ليبيا، الموضوعة تحت «الفصل السابع»، وعاد أخيراً الى بيروت مديراً لمعهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية.وفي اللقاء معه في بيروت سألنا هذا الديبلوماسي، عن أنه في لبنان لم يكن متاحاً إنهاء الحرب من دون وجود مظلة إقليمية - دولية تجلت في إتفاق الطائف، فلماذا لا ينسحب الأمر عينه على ليبيا؟ فأجاب متري: «لديّ سببان دفعاني لتغليب خيار الحوار الداخلي:- الاول هو ليبي ولكنه عربي ايضاً، لأننا مصابون بميل دائم في لبنان وفي العالم العربي ايضاً الى اعتبار ان العالم مشغول بنا او متآمر علينا، وهو غير مشغول بنا، وفي ظني ايضاً انه غير متآمر علينا. طبعاً للدول مصالح في بلادنا وقد تتدخل أحياناً وقد لا تتدخل أحياناً، لكن وعلى وجه الإجمال فإن العالم، بدءاً من الولايات المتحدة، منكفىء عنا، ما يجعلني أحرص على تغليب الداخلي على الخارجي. وفي ليبيا، كما هو الحال ايضاً في لبنان، إذا أراد المرء المساهمة في حل بعض المشكلات عليه ان يبدأ من الداخل لأن القوى معروفة ولها عناوين، اما المؤامرة فلا عنوان لها ولا رقم هاتف للتحدث اليها، بعكس القوى المحلية السياسية او المسلحة التي نعرف مطالبها ومشكلاتها. وحتى لو كان هناك تأثير خارجي، فهو محدود في رأيي، وتالياً لم أكن أقارب الأزمة كمحلل سياسي، فدوري كان المساعدة على بناء الدولة الليبية، فليبيا بلاد تحت الفصل السابع بقرار من مجلس الأمن الدولي، ونحن مكلفون مساعدة الليبيين على بناء دولتهم، وشرط بناء الدولة هو تأمين حد أدنى من الوفاق الوطني حول مشروع بناء الدولة، ولو كانت هناك تأثيرات خارجية، فما يعنيني في الدرجة الاولى هو الواقع الداخلي.- الامر الثاني المهمّ يتمثل في ما يشبه المواجهة الإقليمية في ليبيا بين معسكريْن غير متكافئين، واحد جعل من محاربة الاخوان المسلمين على وجه الخصوص، إضافة الى التيارات الإسلامية الراديكالية الأخرى قضيته الأولى. وربما من خلال رؤيته لهذه القضية يقارب مسائل العالم العربي، ويكاد هذا المعسكر ان يغضّ النظر عما يجري في اليمن ليس حباً بالحوثيين بل كرهاً للإخوان المسلمين (التجمع الوطني للإصلاح). اما المعسكر الآخر فيدعم الأخوان المسلمين.وفي تقديري ان المعسكرين أسيران لمنظور ضيق في التعاطي مع مشكلة كل بلد عربي بما في ذلك ليبيا، اذ يصعب تفسير اي شيء او كل شيء إنطلاقاً من العداء للاخوان المسلمين او عبر دعمهم لأن في ليبيا قبائل ومناطق وقوى ومصالح، وتالياً لا يمكن إختزال الصراع على قاعدة مع»الاخوان«او ضدهم، إضافة الى ان هذا الامر من شأنه تأجيج الصراعات الداخلية في كل بلد، وها هي التجربة المصرية ماثلة أمامنا، فهل حُلت المشكلة من خلال الإطاحة بالإخوان المسلمين ومطاردتهم؟».ورأى متري في تجربة تونس ما يعزز اقتناعه بأهمية الحراك الداخلي للخروج من المأزق واستيلاد الحلول، وقال انه «بغض النظر عما ينتظر تونس بعد الانتخابات النيابية الاخيرة، ففي البلاد تياران كبيران، واحد وطني غير اسلامي وآخر إسلامي دفعهما المجتمع التونسي دفعاً في اتجاه البحث عن تسوية سياسية سمحت بإنتاج دستورٍ تقدمي وحديث. فالتونسيون أدركوا انه في مرحلة الخروج من الثورة لا بد من الائتلاف والتسوية والالتقاء على مبدأ قيام الدولة لان هذه المسألة أهمّ من تصفية الحسابات السياسية»، موضحاً ان «من الصعب مقارنة التجربتين التونسية والليبية، فليبيا خارجة من ثورة بعد 43 عاماً من الطغيان، مجتمعها منهك ومن دون مؤسسات ولا جيش ولا شرطة ولا دولة، وتالياً فان المطلوب هو لملمة الوضع لا تعميق الانقسامات فيها عبر التدخلات الاقليمية».ويقرّ متري بان «الخيار الذي اعتمْدتُه يوم ذهبتُ الى ليبيا تبيّن لاحقاً ان من الصعب تحقيقه، وهو كان يرمي الى تشكيل توافُق على بناء الدولة، ليس بحِراك داخل ليبيا فحسب بل عبر توافُق عربي ودولي حول هذه المهمة الأساسية»، ويقول: «غالباً ما كنت اقول للمسوؤلين العرب الذين ألتقيهم: أيهما أفضل لكم ان تدعموا فريقاً بعينه وتساهموا في المزيد من التشتت في المجتمع الليبي وتسرّعوا تالياً في ان تصبح ليبيا دولة فاشلة، ام ان تساعدوا في بناء الدولة الليبية؟ قلتُ هذا الكلام لكل الناس وجبتُ العالم حاملاً هذه الرؤية. ورغم التأييد العلني لهذا المنطق، فان الخارج الحاضر في الصراع الليبي استمر في أدواره غير المفهومة والتي تعبّر غالباً عن حسابات صغيرة قائمة على النكايات بين بعض الدول».وروى انه: «ايام القذافي كان الجيش صوَرياً، والجيش الفعلي كان كتائب القذافي التي يديرها اولاده، وعندما انتصرتْ الثورة تفككتْ الكتائب وهرب عناصرها، لكن الجيش الرسمي بقي وهو غير مسلّح وغير منظّم ولا يملك اي حوافز وضباطه في بيوتهم، وتالياً فانه غير قادر على ممارسة اي دور»، لافتاً الى ان «المجلس الوطني الانتقالي والحكومة الليبية التي انبثقت عنه قبل انتخابات الـ 2012 اختارا ملء الفراغ الامني في البلاد بسبب عدم وجود جيش وشرطة عبر جمع كتائب الثوار في كيان شبه عكسري أُطلق عليه اسم دروع ليبيا، وجرت الاستعانة بها كما هي بقياداتها وسلاحها مما يعني انه جرت عملية شرْعنة للمسلحين وإلحاقهم بوزارة الدفاع في اطار درع ليبيا - 1 ودرع ليبيا - 2 ودرع ليبيا كذا وكذا، لان المجلس الوطني في حينه كان يعتزم تكليفهم بالمهام التي تقوم بها الجيوش عادة، ثم كلف مجموعة اخرى من المسلحين عبر إطار اسمه اللجنة الامنية العليا وتم إلحاقها بوزارة الداخلية في سياق مهام تشبه مهام الشرطة. وتالياً ما جرى هو انشاء كيانين، شبه جيش وشبه شرطة، من المسلحين، والمجلس الوطني يدافع عن هذا التوجه الذي اعتمده بقوله انه لم يكن امامه خيار آخر، لكن هذا الامر أعاق، من حيث يدرون او لا يدرون، قيام الجيش عبر تشكيل سلطة رديفة صار لها مصالحها ونفوذها، وخصوصاً بعد انتفاخ عدد المسلحين الثوار من 30 الفاً الى 300 الف. وفي اعتقادي انه لو تم التوافق منذ اليوم الاول، وهو امر كان صعباً، على تشكيل جيش وشرطة عبر دمْج كتائب الثوار فيها، لأمكن تفادي ما هو عليه الوضع الآن، لكن حصل ما حصل، وتعاظَم دور المسلحين وتعثّرت عملية انشاء الجيش رغم محاولاتنا المساعدة في إعادة بنائه».وعندما تسأله عن امكان تكرار التدخل الدولي في ليبيا في ضوء التحول المتمثل بالعودة الاميركية الى المنطقة عبر تحالف محاربة «داعش» يقول متري: «أعتقد ان ما من تحوّل في الموقف الدولي، اولاً لان التدخل العسكري في ليبيا تمّ في غفلة من الزمن ولن يتكرر بعدما اعتبر الروس انهم خُدعوا وهم أعلنوا أكثر من مرة ومع الصين انهم لن يوافقوا على اي تدخل لا في سورية ولا في سواها. وكنت اقول لليبيين دائماً ان التدخل الدولي صفحة وطويت وعليكم ان تنسوا الامر، جرى التدخل لحماية المدنيين في بنغازي ثم أطاحوا بالقذافي قبل ان يغادروا ولن يعود التدخل الدولي بالتأكيد. اما لماذا تدخلوا؟ فهناك أسباب كثيرة وأعتقد ان الفرنسيين استدرجوا الاخرين، ومن الواضح من خلال مذكرات هيلاري كلينتون وروبرت غيتس ان الاميركيين تم جرهم من ارجلهم وهو ما تم التعبير عنه من خلال نظرية القيادة من الخلف».ويعتقد متري ان «الولايات المتحدة منكفئة عن المنطقة، والدول الاوروبية غير قادرة على فعل اي شيء بمفردها، وتالياً فان قدرة الغرب على التدخل في ليبيا محدودة، ورغبته محدودة أكثر، وهي رغبة تنسحب على الموقف من كل المنطقة، في مصر وتونس واليمن، ولذا فان الخيار يكون بتكليف الامم المتحدة في إطار التهدئة والمساعدة على بناء المؤسسات».ويخلص متري الى القول: «كنتُ قبل مدة في الولايات المتحدة ولمستُ عن قرب عدم وجود اي رغبة في التدخل في المنطقة، لكنه بعد إعدام داعش لاميركييْن اثنين عمد اليمين الى تجييش الاميركيين مما اضطر اوباما الى القيام بشيء ما، فاختار ما يوصف بالتحالف الذي لا خطة سياسية او عسكرية له، وها هو يكتفي بالقصف من الجو بين الحين والآخر وسط كلام واضح وحاسم بعدم إرسال اي قوة على الارض رغم ان الكبير والصغير يدرك ان حرباً من هذا النوع لا يمكن ربحها الا عبر حزم على الارض».