«تأملات على الدانوب»... قصيدة كتبها الشاعر المصري الدكتور حسن فتح الباب ونشرها في مجلة «إبداع» في عام 1986، حينما كانت هذه المجلة تختص بنشر أروع وأجمل القصائد العربية، ما جعلها تساهم بشكل كبير في تشكيل ذائقة شعرية مهمة في ذاك الوقت.والقصيدة تعد من أجمل ما كتب فتح الباب، بفضل ما تحتويه من صور شعرية مفعمة بالحيوية والقدرة على التقاط المشاهد والمضامين، بروح شعرية خالصة ومتواصلة مع الحياة والطبيعة، بأكبر قدر من التكثيف والإيحاء.وتتواصل الرؤى والخيالات تلك التي يبثها الشاعر على سبيل الإسهاب في وصف نهر الدانوب، هذا الوصف الناتج من دفقات شعرية وشعورية ملتحمة بعضها ببعض في سياق متوازٍ مع رشاقة المفردات وتزاحمها بالكثير من المعاني الجذابة.يقول الشاعر حسن فتح الباب في قصيدته:ليل لا يسرينجم مغلول الفجروالصلبان الجدران الرطبةتتدانى الأسقفويطل الكهفيمسي الدونا أطياف شراعمنديل وداعإنها الصور التعبيرية، التي من السهولة بمكان رسمها في لوحة تعبيرية نستشرف من خلالها الحالة النفسية للشاعر وهو يصف هذه الأجواء الضبابية، مستسلما لهمومه وأوجاعه:يا قلبا كلله الموج الأبيضلا تعشقلا تبغضفالكون سديموالعالم ذكرى تنبضبالفردوس الموهومصدر يتهدجرؤيا تتوهجوغمامات... وطنهكذا استرسال الشاعر في توصيف حالته من خلال رصد مشاعر متداخلة توحي بالحزن والحنين إلى الوطن، غير أن المسألة لا تتوقف عند هذا الحد فالصدر رغم تهدجه إلا أن الرؤيا تتوهج بالكثير من الومضات التي تشعر بالارتياح، أو أن حدثا مفرحا سيتحقق:الصبح على بودابستوجنات الورد، الأطفال، الشرفاتبوابات الأنفاق السحريةوهدير الشلالاتتحت الشمس الحرىبالأيدي المشرعة الصلبةسر القطرات الفضيةفي قاع المنجمإنها صور متلاحقة... يتهيأ المتلقي من خلالها لاستقبال مشاهد ومضامين شعرية مختلفة، يحاول الشاعر رصدها، والتحدث عنها شعرا، ومن ثم تتحقق هذه التوقعات، حينما يطفق الشاعر في ترتيل جوانب حسية من مشاعره، تتعانق مع الفكرة في سياق شعري متوهج بالحيوية:وعلى أهداب الدانوب انطفأت شمعةرجفت ساقان... ذراعانفي ثوب حان عانغجريجفن يتهرأللام الحافية القدمينويد مدت للسارينهو ذا التاريخ... الذكريات وهج الماضي، يتواصل في سياق ما يصفه الشاعر من مشاهد، وها هو الزمن في ذهن الشاعر يتوهج بالحضور، يستنطقه، كي يحكي صفحاته القديمة، ويسترسل في الوصف والمناجات:الليل الساجي في بودابستصلوات للزيناتأيقونات... أنداء نغممرحى يا سمار الأسحارالساحة أنفاس وسنىملك يحلمأقمار خضراء شلال سناأنها الومضات التصويرية، تلك التي تتدفق فيها المشاعر مصحوبة بالكثير من الاستشراق، والرؤى الجمالية للأشياء والأماكن والصور والخيالات، ومن ثم بدت الرؤية متوهجة بالحضور ومتناسقة مع ما يود الشاعر البوح به، عبر قصيدته:ويراودني موالمسكون بالنجم الساريوالفجر النائيمضفور بالثّاج الشوّاكدام بالعشقناي نيلييستخفي فيه الحب وينفجر القلبلقد وصل الشاعر في مشاعره... وهو واقف على نهر الدانوب، إلى نهر النيل، كي يذكره بحب وإجلال، ومن ثم فقد اتمت هذه الرؤية بالحنين إلى الوطن، وبالتالي تداخلت الرؤى وتواصلت في نسق فني مفعم بالتطلع والحلم.إنها قصيدة «تأملات على نهر الدانوب»، للشاعر الدكتور حسن فتح الباب، تلك التي تتناغم فيها المفردات ويتداخل فيها الماضي مع الخاضر مع المستقبل، ويختلط فيها الحزن مع الحنين، ويتواصل فيها الجمال عبر لوحات تشكيلية رسمها الشاعر عبر مفردات متوهجة، وذات إيقاعات موسيقية متسارعة في بعض الأحيان وبطيئة في أحيان أخرى.