ستمرّ لبنان كأنه «مستودع أزمات» داخلية وإقليمية، يختلط فيها السياسي والأمني والدستوري والاجتماعي، ما يجعل البلاد امام تحديات من النوع الـ «ما فوق عادي»، خصوصاً في اللحظة التي يشتعل الإقليم بتحوّلات هائلة ربما لم يشهد مثيلاً لها منذ نحو قرن من الزمن.فالجمهورية التي تعيش بلا رأس منذ اكثر من أربعة أشهر نتيجة العجز عن انتخاب رئيس جديد، تتجه الى تجرُّع الكأس المُرة عبر التمديد لبرلمانها للمرة الثانية على التوالي، متكئة على حكومة «ربْط نزاع» لإدارة «الستاتيكو الملغوم» بأٌقلّ الخسائر، وتتحوّط لـ «كرة النار» المتدحرجة من الجوار السوري.في جلسة مع «المسيحي رقم واحد» في الدولة التي تعاند الانحلال، يتحدث نائب رئيس البرلمان «الأرثوذكسي» فريد مكاري بـ «براغماتيته» المعهودة عن شجون الساعة التي تؤشر عقاربها الى قرب التمديد لمجلس النواب، وسط كلام كثير عن «دينامية جديدة»، لانتخاب «المسيحي الأول» في سدة رئاسة الجمهورية.لم يترشح مكاري «الزاهد بالمناصب» للانتخابات النيابية «المحتملة» لا هو ولا احد افراد عائلته، وعلى عكس غالبية القادة المسيحيين، يؤيد التمديد للبرلمان، ونسأله: التمديد يتم برافعة إسلامية وبتغطية مسيحية ناقصة، فلماذا تؤيده؟لم يتردد «دولته» في الرد قائلاً: «اكثر الذين يمكن ان يعبّروا عن حقيقة الموقف من التمديد لمجلس النواب هو انا كوني لم أؤيد التمديد في المرة السابقة، أما الآن فاقتناعي انه امر ضروري، وعلينا كمسيحيين ان نعي انه مصلحة مسيحية، فنحن نعاني فراغاً رئاسياً وشغوراً في الموقع المسيحي الأول، وأي انتخابات نيابية يمكن ان تجرى اليوم ستضيف مشكلات للمسيحيين اكثر من المشكلات التي يمكن ان تصيب سواهم».اضاف مكاري: «لن اتحدث عن صعوبة إجراء الانتخابات النيابية من الناحية الامنية، فهذه المسألة تحددها وزارة الداخلية، اضافة الى انني لم أترشح للانتخابات»، موضحاً انه «لنفترض انني ترشحت وفزتُ كنائب مسيحي عن احد المقاعد في منطقة الكورة فسأجد نفسي امام الوقائع الآتية:اولاً: العمل الاول الذي سيضطلع به البرلمان المنتخب هو الدعوة لانتخاب رئيسه ونائب الرئيس وهيئة مكتب المجلس، عندها كيف يمكن ان أسمح لنفسي بانتخاب رئيس المجلس وهو المركز الاول للطائفية الشيعية الكريمة في لبنان في الوقت الذي يكون مرّ نحو ستة اشهر على الفراغ في الموقع المسيحي الاول بسبب عدم تجاوب جزء من الطائفة الشيعية ومساهمتها في تعطيل هذا الاستحقاق؟ انا لن اسمح لنفسي بالذهاب لانتخاب الرئيس الشيعي للبرلمان، مع احترامي لصاحب الموقع وللموقع، لأنه عليّ النظر الى الأولويات التي تجعل من انتخاب رئيس الجمهورية الأولوية المطلقة، خصوصاً انه الاستحقاق الذي مرّ عليه زمن اكثر من غيره.ثانياً: حكومة ما بعد الانتخابات ستصبح حكماً حكومة تصريف أعمال، وهذا يعني انني سأدعى للمشاركة في استشارات التكليف، فلمن أذهب في هذه الاستشارات المنوطة برئيس الجمهورية بحسب الدستور؟ هل اذهب الى الكرسي الفارغ في قصر بعبدا؟ ... وفي النتيجة سنصبح جمهورية بلا رئيس وأمام حكومة تصريف اعمال في تطور يشل مؤسسة تلو أخرى.ثالثاً: مَن قال انه في حال انتخاب برلمان جديد سيصبح إمكان انتخاب رئيس جمهورية اكثر مما هي عليه حظوظ هذا الاستحقاق في البرلمان الحالي؟ الطبقة السياسية منقسمة على نفسها وقد تتغير بعض الوجوه نتيجة الانتخابات لكن من الصعب تبدُّل التوازنات إلا في شكل ضئيل، ما يعني اننا سنتقدم لكن الى الخلف نحو مشكلات أعمق».ولفت مكاري الى ان «الكلام الذي قاله الرئيس سعد الحريري من روما بعد لقائه البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي كان واضحاً لجهة التأكيد ان من واجبات مجلس النواب انتخاب رئيس للجمهورية كأولوية،و من ثم إقرار قانون جديد للانتخابات النيابية في أسرع ما يمكن والذهاب الى الانتخابات، وتالياً فإن التمديد للبرلمان لا يهدف الى كسب فترة زمنية اطول للنواب بل هو لتجنُّب خطر انزلاق جميع المؤسسات الى الفراغ».وما سرّ معارضة القادة المسيحيين في تحالف «14 اذار» لهذا التمديد؟ ... يجيب نائب رئيس البرلمان، أحد اقطاب هذا الفريق وحليف «تيار المستقبل»، قائلاً: «لا يمكن لي ان اعبّر عن موقف الزعماء المسيحيين من حلفائنا حيال هذه المسألة، لكن أعتقد ان عليهم الا يختبئوا خلف أصابعهم. أدرك ان التمديد امر غير مستحب عند الناس لكن في المواقف الوطنية هناك ما هو أهمّ من الاعتبارات الشعبوية».وهل تطلب الشيء عينه من مسيحيي «8 اذار»؟ يرد مكاري: «المسألة مختلفة بالنسبة الى القسم الأكبر من مسيحيي «8 اذار»، فهم مَن تسببوا بالأزمة الرئاسية ودفعوا البلاد الى المأزق الحالي، وتالياً لم أكن أنتظر من هؤلاء اي مقاربة واقعية لما نحن عليه».ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فأي دينامية سيتم اعتمادها لإنهاء الفراغ في سدة الرئاسة، في ضوء المواقف التي أعلنها الحريري بعد لقائه الراعي في روما؟ ... لم يشأ مكاري الاستفاضة في الكلام عن الآليات او التفاصيل، لكنه رأى ان «هذه الدينامية ستأخذ مداها بعد التمديد للبرلمان، بحسب ما عبّر عنه الرئيس الحريري، وأعتقد ان 14 اذار ستكون على موعد مع اجتماعات للتداول في هذا الأمر، وسط رغبة بالتواصل مع 8 اذار للوقوف على مدى رغبتها في إنقاذ البلاد عبر التفاهم على مرشح يحظى بموافقة الجميع».هل يمكن تشكيل غالبية سياسية تتجاوز الانقسام الحاد وتشكل قوة ضاغطة لانتخاب الرئيس؟ يجيب نائب رئيس البرلمان: «رغم ان الأشهر الماضية لم تنتج رئيساً، لكن قراءة معطياتها تؤشر الى انه رغم الانقسام فإن المواقف السياسية لم تكن هي نفسها على المقلبيْن، إضافة الى ان النائب جنبلاط وكتلته (جبهة النضال الوطني) يتحركان في كل اتجاه في إطار التواصل بحثاً عن حل للأزمة الرئاسية، والرئيس نبيه بري لم يقفل الأبواب، لكن هذه القوى لا يمكنها مجتمعة تأمين النصاب اللازم لانتخاب الرئيس الذي يحتاج الى مروحة أوسع يمكن ان تساعد الظروف الاقليمية في بلورتها ويمكن الا تساعد ايضاً».وعما اذا كان في الإمكان «زحزحة» تحالف «حزب الله» وزعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون عن موقف التعطيل الذي يحول دون الإفراج عن الرئيس الجديد، قال مكاري: «موقف حزب الله مرتبط بالتأكيد بموقف العماد عون في الموضوع الرئاسي. نحن نعرف الظروف التي يمر بها حزب الله الذي صار مشتت القوى بين لبنان وسورية والعراق، فهو بحاجة الى حليفه الاستراتيجي المسيحي، اي العماد عون، وتالياً فإنه غير وارد لدى حزب الله عدم إرضائه»، معرباً عن اعتقاده بان «حزب الله لا يريد ان يكون الوضع في لبنان غير مستقر ويدرك ان انتخاب رئيس جديد من شأنه تحصين هذا الاستقرار وحمايته، لكن الحزب ينتظر خطوة في هذا الشأن من العماد عون وليس من اي طرف آخر».وهل طويت صفحة الحوار بين الحريري وعون، والذي جرى في ظل محاولة زعيم «التيار الوطني الحر» تقديم نفسه على انه «مرشح وفاقي» للرئاسة؟ يجيب مكاري: «العلاقة بين تيار المستقبل والعماد عون وتكتله مستمرة، فالتواصل قائم لتبادل الآراء في شأن القضايا المطروحة في البلاد وفي إطار المشاركة في القرار الداخلي. اما موضوع الرئاسة فمسألة لها حساباتها الداخلية والإقليمية، والطرفان مقتنعان بهذا الأمر وأعتقد أنهما يفهمان بعضهما، وتالياً فإن العلاقة بين التيارين مقبولة وما زالت في إطار المصلحة العامة».