كنا نستقل لنشًا لكي نمر به في قناة السويس القديمة... وصولا إلى مكان بداية الحفر للقناة الجديدة، وكانت بداية الحفر يومها في انتظار لحظة الإذن والبدء فيها. وهي اللحظة التي داس فيها الرئيس عبدالفتاح السيسي على زرٍ لكي يبدأ التفجير ومن بعده عمليات الحفر.حرص السيسي على أن يكون أكبر عدد من الأطفال والشباب حوله في هذه اللحظة، وأن يضعوا أصابعهم على الزر معه.كان معنا وزير الثقافة المصري جابر عصفور، الذي فضَّل أن يكون معنا نحن المثقفين بدلا من أن يكون مع زملائه من الوزراء، رغم أن الجلوس في القاعة التي خطب فيها السيسي كان مقسًما: «الوزراء، رجال الأعمال، قيادات القوات المسلحة، أركان الدولة، ثم أهل الفن والثقافة»، وأخيرا وجهاء الإسماعيلية الذين حضروا المناسبة.فوق اللنش الذي أخذناه من استراحة هيئة قناة السويس إلى مكان التفجير، كان معنا جابر عصفور، وهو واحد منا سواء قبل الوزارة أو خلالها أو بعدها. عندما تكلمنا عن نجيب محفوظ - كنا نتحدث يوم السبت 5/ 8/ 2014 - قلت له هل تعرف أنه في اليوم الثلاثين من هذا الشهر تمر ثماني سنوات على رحيل محفوظ؟ وأنني في لجنة القصة بالمجلس باعتباري مقررها، سنقيم احتفالية بهذه المناسبة، ويمكن أن تكون معنا باعتبارك من نقاد نجيب محفوظ، وليس بصفتك كوزير للثقافة.وافق الرجل فورا. وطلب مني التنسيق مع حسام شكيب، مدير مكتب الوزير، وقال لي إن حسام هو الذي يحدد مواعيدي ويحركني ويوجهني، فالأوراق التي معه أدق من الذاكرة ألف مرة.كنت أعرف أننا في عز الصيف... والنشاط متوقف في المجلس الأعلى للثقافة، وأن يوم 30 أغسطس وهو نفس يوم رحيل الأستاذ قبل 8 سنوات. يعني مناسبة الرحيل. ومن المفترض أن يقام النشاط في هذا اليوم ليس قبله وليس بعده. ولكن ثقتي في الدكتور محمد عفيفي، المؤرخ وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة، كانت بلا حدود. وأنه يمكن أن يذلل أي عقبات تحول دون إقامة المناسبة. بصرف النظر أن المتحدث فيها هو الوزير أم لا؟.وجهنا الدعوات عن ندوة تقام في يوم رحيل نجيب محفوظ، بعد 8 سنوات تحت عنوان: «نجيب محفوظ حضور متجدد». وأن المتحدث الوحيد فيها الدكتور جابر عصفور. اختلفت مع محمد عفيفي، كان يريد أن يكتب وزير الثقافة، وأنا أريد أن أكتب الناقد الأدبي، وقد وافقني محمد عفيفي. ويبدو أنه تردد في البداية لتصوره أنني لم أحصل على موافقة جابر على الصفة التي سيتكلم بها.عندما دخلت إلى قاعة المحاضرات الكبرى في المجلس، لم يكن هناك موضع لقدم. وكانت بعض الفضائيات، قد اتصلت من أجل عرض اللقاء بكل ما سيدور فيه، وهذا من أجل نجيب محفوظ وليس من أجل أي إنسان آخر حتى ولو كان وزير الثقافة ذات نفسه.حكيت في بداية اللقاء عن المرتين اللتين قابل جابر عصفور فيهما نجيب محفوظ معي، وكانت حكاياتي من الذاكرة مرتجلة، فأنا لا أحب القراءة من الأوراق مادام أنني أتكلم أمام جمهور. لأن الأوراق تصبح حائلا وحاجزا بيني وبين الجمهور.ثم إن الارتجال يقيم علاقة إنسانية بين من يرتجل ومن يسمعه، وأهم من كل هذا أن الارتجال أقرب إلى السرد «والفضفضة» ذات الطابع الإنساني. في حين أن القراءة أقرب إلى إلقاء المحاضرات.في المرة الأولى، التي ذهبنا فيها إلى نجيب محفوظ. كان جابر عصفور يفكر. وكان وقتها أمينًا عامّا للمجلس الأعلى للثقافة في إقامة ملتقى القاهرة الدولي للرواية. ذهب يعرض على نجيب محفوظ تصوره للمؤتمر وما يمكن أن يقوم به. استمع إليه نجيب محفوظ في جلسة الثلاثاء التي كانت تعقد في مركب راسية على النيل تُسمى فرح بوت. وكان نجيب محفوظ منصتا جيدا لما يقال له.تحدث جابر عن أهمية مثل هذا الملتقى. فكما أطلق قبل سنوات عبارة زمن الرواية، فقد ثبت أن ما قاله كان دقيقا. والرواية أكثر الفنون الأدبية كتابة ونشرا وقراءة. تحدث عن المحاور والتكريمات وإطلاق اسم روائي على كل دورة من الدورات. وأن تكون هناك جائزة قدرها مئة ألف جنيه في كل دورة لروائي على مجمل نتاجه الروائي. سأله محفوظ للروائيين المصريين فقط؟ أم للمصريين والعرب؟ قال جابر إن الجائزة مفتوحة أمام الأشقاء العرب. عاد يسأل: مناصفة؟قال جابر: لا. يمكن أن يحصل عليها في عام روائي مصري، وفي الدورة التالية روائي عربي، أما المناصفة، فهي تقلل من قيمة الجائزة، ثم إن معيار الجودة والإخلاص للكتابة الروائية سيسبق أي معيار آخر.قال جابر يومها، إن المشاركة في المؤتمر ستكون عربية وعالمية، علاوة على المصريين بالطبع، والبعد العالمي لن يقل أهمية عن البعد العربي، ثم إن لجنة تحكيم الجائزة ستكون مصرية وعربية، ويا حبذا لو كانت هناك أسماء لنقاد أجانب لديهم فكرة عن الأدب الروائي المصري والعربي، في هذه الحالة سيشاركون معنا فورا.كانت المرة الثانية، عندما فكَّر جابر أن يوجه لأستاذ نجيب محفوظ كلمة في افتتاح الدورة الجديدة من المؤتمر. كان المؤتمر قد استقر وأصبح علامة ثقافية بارزة. لم يكن الوقت المتبقي على عقد المؤتمر طويلا.. لذلك فاتحني جابر عصفور في الأمر، وطلب مني أن نذهب في نفس اليوم إلى نجيب محفوظ، حتى لو دون موعد مسبق. كان اليوم أربعاء. وأنا أعرف أن نجيب محفوظ في يوم الأربعاء يذهب إلى فندق في المعادي مع مجموعة أخرى من الأصدقاء.نزلنا. اكتشف جابر عدم وجود سيارته.. فاستعار سيارة الدكتور عماد أبوغازي، الذي كان مسؤولا عن الشُّعب واللجان في المجلس الأعلى للثقافة، واتجهنا إلى المعادي، لاأزل أذكر أنه كان هناك رزاز خفيف من المطر ونحن في الطريق إلى المعادي.وصلنا إلى نجيب محفوظ.. رحَّب بنا. استغرب مجيئي له، مع أنني كنت معه أمس «الثلاثاء» في فرح بوت، قلت له الضرورات تبيح المحظورات، وكان لا بد من الحضور اليوم لأن الموضوع لا يحتمل التأجيل.شرح له جابر فكرته أنه لا يعقل أن يعقد ملتقى القاهرة للإبداع الروائي ولا يوجّه نجيب محفوظ كلمة له. صحيح أن الدورات السابقة لم تكن فيها كلمة لنجيب محفوظ، ولكن استمرار الخطأ هو المشكلة، وتصحيح الخطأ هو الصواب. وافق نجيب محفوظ فورا على توجيه كلمة للملتقى، وبدأ يملي علىَّ أركانها. باعتبار أنني أنا الذي سألقيها. هكذا قرر نجيب محفوظ وأعلن قراره دون استشارة أحد.سأل عن موضوع المؤتمر.. فقيل له عن: «الرواية والتاريخ». شرح لي العلاقة الوثيقة بين الكتابة الروائية والكتابة التاريخية، وأنه لا فرق بينهما، وأن الرواية هي تاريخ الحاضر، وأن رواية التاريخ لو تمت بشكل روائي جميل لدفعت الناس للقراءة أكثر من الذين يقبلون على قراءة كتب التاريخ المكتوبة بشكل علمي جامد. ربما لا يدفع الناس للإقدام على القراءة.طلب مني أن تتضمن كلمته دعوة منه للمسؤولين عن الثقافة في مصر، أن يكون لدينا مؤتمر دولي عن الشعر، لأنه لا يعقل أن يكون هناك ملتقى القاهرة للإبداع الروائي ولا يوجد ملتقى القاهرة للإبداع الشعري. ثم عاد يطلب بعد فترة من الصمت أن يكون هناك ملتقى للقصة القصيرة، فهذا الفن يحتضر والإقبال على كتابته يتراجع، ونشره يتم بالصدفة، وإقامة ملتقى له مسألة شديدة الأهمية.