... في الطبقة الثانية من إحدى مستشفيات بيروت، «ينام» السيّد هاني في مكان ما بين «طبقتيْن» إسمه الغيبوبة، كأنه في استراحة او إجازة او وقت مستقطع. مضى وقتٌ طويلٌ وثقيلٌ وحزينٌ على نومه الذي لم يتعوّده يوماً في حياةٍ كلها حياة ويقظة وصحوة وشقاء وعطاء. حياة كلها حربٌ وحبر وبحرُ اسئلةٍ وأحلام لا مكان فيها للنوم او المياه الراكدة او الأفكار الراكدة او العقول الراكدة.... في غرفة العناية الفائقة يرقد السيّد هاني كأنه في «الإقامة الجبرية»، فهذا الرجل المتعدّد الهويات والاهتمامات، يملّ المكان الواحد والصوت الواحد والفضاء الواحد والحزب الواحد. إنه الآن مجرّد «صمت إضطراري» لم يألفه على مدى حروبه الدائمة وثوراته الدائمة وحيويّته الدائمة منذ أسئلته الاولى في مسقطه في جبشيت الجنوبية حتى المقال الأخير الذي هوى فوق أضلعه.في صالون المستشفى، أحبّة يأتون وأحبّة يذهبون، وهواتف ترنّ وقلوب قلقة. إنتظارٌ يصارع الانتظار، وحزن جميل واستشعار بوطأة هذا الفراغ المفاجئ... الجميع مشتاقون لـ «سماحته»، وهم جمْعٌ لا يجتمع الا في حضرة السيّد... الاسلامي، المسيحي، اليساري، اليميني، اللبناني، الفلسطيني، العراقي، السوري، الايراني، المصري، المغاربي و... الانساني. سيّد من جيلٍ لم تهزمه هزائمه وهو الذي يقدّم كل يوم أوراق إنتساب الى جيل بعد جيل، من جدّته وجيرانها الى أحفاده وأٌقرانهم.قبل ان يهوي الى «النوم» بأيامٍ، كنت التقيت بـ «سيّد العمامة» مرّتيْن: واحدة في بيته على طريق المطار، والأشبه بـ «عمارة معرفة»، وثانية في كفيفان في اعالي البترون. وفي المرتيْن إنتابتني الدهشة وانا أكتشف المزيد من مزايا هذا المتواضع، المثقّف، المحاوِر، الديني، المدني، المتوهّج، الفرح، الجريء، الفقيه، القروي والمديني، والذي لا يكلّ ولا يملّ.على واحد من جدران منزله، علّق السيّد هاني سيرة حياته عبر صور فوتوغرافية تتراصف بصعوبة كأنه ضيق الزمن يضجّ بحياته الصاخبة والجميلة... صورٌ تجمعه بما يستحيل على سواه جمْعه، وهي «تؤرشف» بالأبيض والأسود وبكل الألوان الاخرى، لسيرة رجلٍ بعوالم كثيرة وبأمكنة لا حدود لها وبعلاقات يصعب حصْرها او تبويبها.غابةٌ من الصور، ولكلِ صورة حكاية، وفي كل حكاية قطعة من حياة هاني فحص او تجربته او رصيده المعرفي والانساني والنضالي والثقافي والسياسي... الإمام الخميني، البابا يوحنا بولس الثاني، ياسر عرفات، شخصياتٌ من كل حدب وصوب، من لبنان والعراق، من سورية والسودان، من تونس وايران، من مصر والخليج، من عالم العرب والعجم ومن فلسطين التي لها مكانة الروح في عقل هاني فحص وضميره.اما في كفيفان، فأمضينا سهرة مع السيّد المتوهّج. كنا في ضيافة جمعية «فرح العطاء» التي وجد فيها هاني فحص ما يشبه «فيوز» قابلاً لضخّ المزيد من الحيوية في عروق الجيل الجديد. بفائضٍ من الفرح والشغف والحب، جاء السيّد الى كفيفان للقاء شبان وشابات من العراق الجريح، حادثهم ولم «يؤسْتذ» عليهم، هم في مقتبل العمر وهو كان مثلهم او كأنه واحد منهم، يفهم هواجسهم ويحرّضهم على حبّ العراق وحبّ الحياة.على مرمى العين من الدير العتيق والجامع الأُثري، كان السيّد يجلس بـ «جلابيته» البيضاء مع صديقه ملحم خلف. إصطحب معه أحد أحفاده الصغار، فهو يَطْمئنّ عليه في هذه الجَمعة من التنوّع... مسلمون، مسيحيون، لبنانيون، عراقيون، أرمن، أكراد من أعمار مختلفة جمَعَهم الفرح والعطاء.بلهفة الأب، تحدّث السيد عن العراق وكأنه يروي حكاية على طريقة «الجدات». وبلهجة عراقية تزاوج بين الشجن والفرح، قال هذا «النجفي» الكثير عن العلامات المضيئة في تاريخ بلاد الرافدين. تحدّث عن أعلام الفكر والشعر والعلم والأدب والفن، من مسلمين ومسيحيين ويهود ومن عرب وأكراد أسسوا لحضارةٍ ولذاكرة لم يستطع قهرها صدام حسين ولا نوري المالكي.يعرف العراق أكثر من العراقيين، ويريد من هذه الجمْهرة من الشبان والشابات ان يعرفوا العراق أكثر مما يعرفون عنه الآن (تَمَذْهب وحقد ودم وكراهية وكآبة ويأس). وبالكثير من الثقافة والبساطة، حاول ترسيخ أمريْن في تلك الجلسة تحت جناح القمر: الذات التي لا تكتمل إلا بالآخر، والفرح كمرادف للحياة والعطاء والايمان.«مولانا» السيّد مركّب إنساني لا يشبه الا هاني فحص. بقدر ما هو عالِم هو بسيط، بقدر ما هو مهموم هو ممازِح، بقدر ما هو متمرّد هو متسامِح، لا يفاخر بشبكة علاقاته مع «الكبار» بقدر ما يصاب بالحبور في حواره مع العامة من الناس ومن كل «الأجناس» والأجيال والجينات.اواخر السبعينات، يوم كنت في مقتبل العمر، وقعتْ عيناي على سيّد معمّم يطلّ من بوابة فلسطين خطيباً في قرية اسمها الوردانية في اقليم الخروب، ثم تعرفتُ اليه صديقاً لـ «البيك الأحمر» سمير فرنجية في مشوارٍ من الحوار الدائم، قبل ان تجعلني مهنة المتاعب على تماس دائم لكن متقطّع مع هذه القامة المرموقة التي كلما اقتربتُ منها إزددتُ إكتشافاً لعمقها الإنساني.ناصر الثورة الفلسطينية في وقت مبكّر، وكان صديقاً لقادتها وصدوقاً في نقده لأدائها في لبنان واستحق اخيراً الجنسية الفلسطينية. «هنْدس» العلاقة بين الإمام الخميني وياسر عرفات، ورافق الاخير في الطائرة الى ايران بعد الثورة، وهو أقام فيها ردحاً من الزمان، وهناك اكتشف وطنيّته اللبنانية وعمق هويتها وعظمة النموذج الذي يمثّله الوطن الصغير.كلما كان يزداد حضور السيّد هاني في عوالم «الآخرين» كانت تَضيق عليه بيئته. لم يكن يقطع مع الذين يقاطعونه ويحرص دائماً على الحوار ولو بالواسطة او الحمام الزاجل او الرسائل التي غالباً ما إنطوت على مكاشفات فيها الكثير من النقد والكثير من الحب والكثير من العقل والكثير من التبصّر.لا ادري لماذا أكثرَ هاني فحص من الكتابة اخيراً... شعرتُ بأنه يكتب ويكتب ويكتب كمَن يسابق الفكرة. ربما لأنه أحس بأن ومضة ضوء تلوح من آخر النفق، فأراد تحويلها قوس قزح، فها هي الأسوار بين المذاهب والطوائف بلغت أوجها كأنها أبراج وحان إنهيارها... فآخر الليل نهار.كان هاني فحص يخص «الراي» بمقالات بين الحين والآخر لكنه إختار اخيراً «الراي» وصوتها المترامي منبراً لكتاباته، بعدما ضاقت صدور الآخرين وصفحاتهم بمقارباته النقدية في السياسة والفكر والوطنية، وهو الذي يحترف لغةً، مهما قست فلا تجْرح. يجادل بجرأة وحب، وعيْنه دائماً على المشتركات التي كافح دائماً من اجلها في منتديات الحوار وفي كتبه وكتاباته وعلاقاته.نجح هاني فحص في التحوّل نموذجاً لمشروع مصالحة بين العمامة والحداثة، بين رجل الدين وروح العصر، بين الاسلام والمسيحية، بين الشيعية والسنية، بين الفقه والشعر، بين حب الله وحب الحياة... بين المقاومة كفعلٍ تحرير وفعل تنوير... كان كل تلك الثنائيات المتعايشة في عباءة من اسئلة دائمة وقلق دائم وتسويات دائمة.ربما أدرك السيّد انه ذاهب الى إجازة فأوْدعنا مجموعة من مقالات عن حياته وتجربته، عن الشيعة والسنّة، عن الدين والتديّن، عن فلسطين الروح وعن وجع الحوار، عن سورية وايران، عن الكرامة الإنسانية. لم يكن مستعجلاً لنشرها، أرادها رويداً رويداً وكان دائم الحرص على تتبُّع أصدائها وصداها.نائمةٌ العمامة الآن تغفو فوق غمامة، كأنها في إستراحةٍ على الحافة، وحولها أطباء وأوراق وأصدقاء وحبر وأحبّة وكتب وأهل وأشعار... جميعهم ينادونها للعودة، فآن لهذا الصمت ان يضجّ من جديد، فالجميع إشتاقوا الى ضجيج جميل.
خارجيات
تقرير / الجميع مشتاق لـ «العمامة الشقية»
هاني فحص ينام بين حياة وحياة يكتب في سرّه عن... سرّه
09:57 م