في عام 2006 تجرأت - بعد تردد طويل - على كتابة دراسة نقدية عن نجيب محفوظ بطلب من مجلة فصول المصرية. انتهيت من الدراسة عن رواية قصيرة بديعة لمحفوظ عنوانها: «حكاية بلا بداية ولا نهاية». أرسلت الدراسة للدكتورة هدى وصفي ـ رئيس تحرير فصول آنذاك ـ وكلي فرح وأمل أن يقرأها أحد من المحيطين بنجيب محفوظ ويهمس له في أذنه بأن هناك دراسة لا بأس بها كتبها عنه شاب اسمه كذا.لكن ما بين إرسال الدراسة للمجلة وصدور العدد توفي نجيب محفوظ آخذا معه حلمي الطفولي في أن يُذكر اسمي أمامه. صدر عدد فصول بعدها تذكاريا تاريخيا بمناسبة رحيل محفوظ.وفي ذكرى وفاة نجيب محفوظ أجدني أعود لروايته القصيرة التي قمت بتحليلها، وأتساءل: هل كان نجيب محفوظ نفسه مؤمنا بأن نجيب محفوظ لن يتكرر كما آمن ويؤمن معاصروه ومن تلاهم؟ من يرجع لرواية «حكاية بلا بداية ولا نهاية» يكتشف أن نجيبا كان على وعي عميق بحركة الزمن، وبعدم وجود ثوابت سوى الحركة نفسها؛ فلا بنية الثقافة ثابتة ولا وعي الناس ثابت ولا القيمة التي نخلعها على الأشياء والأشخاص ثابتة. الرواية تحكي عن شيخ طريقة يهيمن على إحدى الحارات، ويؤمن أهل الحارة بقدراته وكراماته، باستثناء مجموعة من الشباب المناوئ من طلاب الجامعة. تدور أحداث الرواية القصيرة بحنكة شديدة وتمكن فلسفي عميق مستعرضة الصراع بين «علي عوض» زعيم الطلاب وبين شيخ الطريقة الذي يسعى للقضاء على هذا الشاب تحديدا، لكن مفاجآت نجيب محفوظ المقصودة تجعلنا نكتشف أن الشاب المناوئ هو ابن الشيخ الذي يحاربه دون أن يكون لدى الشيخ أي علم بذلك. التغيير أت من قلب الثبات المتوهم، التطور قائم في خلايانا حتى إن لم نع ذلك وأنكرناه بتشنج الجاهل.ومع قدوم ذكرى وفاة نجيب محفوظ تعود للذهن الحيرة حول فكرة غياب الهامات الكبيرة في الثقافة العربية غنائيا وأدبيا وفكريا. لكن هل هي حقا غائبة؟ أم أن الارتباك الثقافي العام الذي تعيشه الثقافات العربية قد غيبها؟ هل يتعذر وجود من يوازي نجيب محفوظ قيمة؟ أم أن الأزمة في اكتشاف من يملكون مواهب وقدرات مبشرة وتبنيهم والعمل على تطوير إمكاناتهم؟ هل نحن ثقافة تشجع شبابها المبدع وتحيطه بالحماية والرعاية كي يزهر؟ أم ترانا احترفنا اجتثاث المواهب الصغيرة بروح الكهنة ملاك الحقيقة الذين ملأهم اليأس والكره واستعبدتهم المصالح دون أن يشعروا؟ من الواضح أن الأسئلة السابقة تحمل إجاباتها بداخلها، وتفضح عن قصد تحيزات كاتب المقال لعصره ولمبدعيه الشباب الذين يواجهون حربا ضروسا خلت من التشجيع والاحتضان والتوجيه.في هذا السياق أتذكر تصريحا للكاتب الصحافي المصري محمد حسنين هيكل ألقاه علينا كمن يلقي خبرا أكيدا مفجعا قال هيكل ببساطة مخيفة: إن النخبة العربية تتآكل. يشير هذا التصريح وما تلاه من كلام إلى عدم وجود إمكانية لاكتشاف أم كلثوم أخرى أو نجيب محفوظ جديد. التقريرية والأسى المصاحبان للتصريح يرتبطان بثقة كبيرة في تفوق النخبة العربية التي صعدت في النصف الأول من القرن العشرين عن كل ما يمكن أن يعقبها، وكنتيجة لذلك تصبح الأجيال الجديدة أكثر فقرا إبداعيا من أسلافها بالضرورة. يعبر تقرير هيكل الحزين عن فكرة سائدة تحت جلد الثقافة العربية تنبض بالحنين للماضي وتضخيمه وتقديسه أحيانا، وهي فكرة ليست خاطئة في كل أحوالها، لكنها تتحول بسرعة إلى حالة من النواح والاستسلام الذي يضع على أعيننا سحابات يأس ثقيلة تمنعنا من رؤية واقعنا وتطويره.وبغض النظر عن السياقات التاريخية التي سمحت بتكون نخبة عظيمة مواكبة لفترات التحررالوطني وصياغة مشروعات قومية طموحة في منتصف القرن العشرين، وبغض النظر أيضا عن السياقات التاريخية الحالية التي تميل إلى محاربة الإبداع ودفع كل مبدع حقيقي باتجاه الهامش، يبقى السؤال المهم: هل حقا تآكلت النخبة العربية؟ أم أن منطق البحث عنها وتعريفها هو ما يجب أن يختلف حتى نكتشف ما يحويه عصرنا من طاقات؟ هل يجدر بنا الوقوف مع هيكل الذي يرى الإبداع العظيم قد توقف وأن العالم لن يجود بمثل نجيب محفوظ؟ أم الوقوف مع نجيب محفوظ نفسه الذي يرى أن القيم تتغير وأن التطور حتمي لا نهاية له وعلينا أن نفتح وعينا لنعي شفرته كي نستطيع اكتشاف نجيب محفوظ جديد؟