تتعرض المكتبات العامة في البلاد التي يبلغ عددها نحو 28 مكتبة في أنحاء الكويت إلى هجرة وقطيعة مستمرة من قبل أفراد المجتمع، لاسيما روادها من الباحثين والمطلعين والطلبة، حتى غدت اليوم مجرد مبانٍ مُقْفِرَة خاوية، متهالكة، كئيبة، يسكنها الصمت، تثير الشفقة لغربتها وعزلتها بين المباني الأخرى، وكأنها حاجة زائدة في حياتنا، حيث يندر أن تجد من يهتم في زيارتها قاصداً الاطلاع أو باحثاً عن معلومة.وعلى مستوى مباني المكتبات العامة، نجد أنها في الغالب لا تحظى باهتمام في صيانتها وتجديدها، فهي في شكلها الخارجي والداخلي لم تزل «على حطّة المرحوم» لم تتغير منذ ردح من الزمن، حيث يلحظ الناظر إلى العديد من مباني المكتبات قِدَمِها وتهالكها، بالإضافة إلى افتقار العديد من المرافق الداخلية فيها إلى التنظيم والترتيب، فقد تجد صالة مخصصة لقراءة الدوريات والمجلات العلمية وهي ترزح تحت العشوائية وسوء التنظيم والبعثرة.وعلى مستوى الكتب والمراجع الموجودة في المكتبات العامة، نجد أن أغلبها عفى عليها الدهر حتى أصفرّت صفحات أوراقها وفاحت رائحتها، ونظرا لقدمها يكاد استخدامها ينتفي بسبب طبيعة المواضيع التي كانت تعالجها ووجود فارق كبير في التوفيق بينها وبين حاجاتنا من البحث والعلم في وقتنا الراهن، ومن الملفت وجود العديد من الكتب ومنذ إصدارها في الخمسينات والستينات لم يتم طلبها من قبل القراء والباحثين، وبالتالي لم تعد هذه الكتب والمراجع مدعاة لجذبهم، في الوقت الذي تفتقد فيه المكتبات وجود إصدارات حديثة من الكتب والمراجع.وحينما تزور المكتبات العامة، يلفت انتباهك أيضاً، عدم مواكبتها للتقدم التكنولوجي في عملية البحث، فهي في الغالب تعتمد على الطريقة التقليدية من خلال بطاقات الفهارس التي كان يعمل بها منذ الستينات، وهذه الطريقة القديمة في عملية البحث تكلف العاملين الكثير من الوقت والجهد مقارنة بالبحث عن طريق الكمبيوتر.يأتي هذا في وقت تفتقر فيه المكتبات إلى خدمة الإنترنت وغدت أجهزة الحاسوب الموجودة بها أشبه بـ «المزهريات»، لا فائدة منها سوى أنها موجودة شكلياً، وحتى هذه الأجهزة لا توجد فيها برامج مفيدة تمكن رواد المكتبة من استخدامها.كثير من الكتب التي عفى عليها الدهر والتي تناثرت وتقطعت أغلفتها وشيء من أوراقها يتم نقلها إلى قسم التجليد والتجهيز في إدارة المكتبات، والغريب في الأمر أن هذه الكتب وبعد عودتها من عملية التجليد، تختفي عناوينها، فالتجليد يتم بطريقة بدائية جداً دون الإكتراث إلى قيمة الكتاب وأهميته، بحيث يتم وضع غلاف جلد غير مناسب في شكله وتصميمه من دون وضع اسم الكتاب عليه، الأمر الذي يصعب عملية البحث للمهتمين!عفى عليه الزمنيقول أحد المسؤولين في إحدى المكتبات رفض الإفصاح عن اسمه: إن من أهم أسباب عزوف الناس عن المكتبات العامة هو تغير المنهج الدراسي عموما في المدارس والجامعات في الوقت الذي لم تزل فيه المكتبة بطيئة جداً في مواكبة هذا التغير، حيث إن الكتب الموجودة اليوم لا تتوافق مع مناهجنا الدراسية فكل ما هو موجود قديم وعفى عليه الزمان، وأصبح اليوم من النادر أن تجد لدى طلبة المدارس اهتماما في عملية البحث من خلال المكتبات العامة، خصوصا في ظل وجود الإنترنت الذي سهل لهم الوصول إلى المعلومات التي يريدونها. وزاد بقوله: أكثر رواد المكتبة هم من الطلبة في المرحلة المتوسطة والثانوية، ودائما ما يبحثون عن تاريخ الكويت القديم والحديث وحول الرياضة أيضا، لكن في كثير من الأحيان نواجه طلبات لكتب ومراجع غير متوفرة في المكتبة الأمر الذي يتسبب أيضا في عدم اهتمام الناس في الذهاب إلى المكتبات، لاسيما في ما يتعلق بالمراجع والكتب الإنكليزية.ويبين أن الكثير من المراجع والكتب الموجودة في المكتبات لم تعد تجد نفعا بسبب قدمها وتطور العلم بشكل كبير في الوقت الحاضر، فهناك العديد من الكتب ومنذ الخمسينات وهي موجودة في المكتبات دون أن يطلبها أو يستعيرها أحد، فوجودها كعدم وجودها «الكتب تغبر وينظفوها العمال... هذا اللي حاصل فقط»، وبالتالي يجب أن يكون هناك تحديث وتطوير للكتب وتزويد المكتبات بالإصدارات الجديدة من الكتب والمراجع.تطوير الكتبوتابع : لا يمكننا أن نلغي المكتبات، لكن لابد من تطوير الكتب فيها وتجديد طبعاتها وإدخالها في المناهج المدرسية، مشددا على ضرورة اهتمام وزارة التربية في عمل رحلات دورية للطلبة إلى المكتبات العامة المختلفة لتعريفهم بدور المكتبة وأهميتها، لكن وللأسف لم نزل نفتقر إلى هذا الشيء فلا توجد هناك زيارات إلا فيما ندر ومن قبل رياض الأطفال فقط.ويشير إلى أن المعدل اليومي للحضور في المكتبة يتراوح ما بين 3 إلى 4 أشخاص تقريبا، ويزداد هذا العدد قليلا في فترة الامتحانات، «ومن المؤسف في الكثير من الأحيان عدم قدرتنا على خدمة الطلبة لعدم وجود المادة العلمية أو المرجع الذي يبحثون عنه، كما إننا نواجه صعوبة في عملية البحث خصوصا مع اعتمادنا للطريقة التقليدية في البحث والتي تعتمد على بطاقات الفهارس، دون اللجوء إلى التكنولوجيا الحديثة»، فأجهزة الكمبيوتر الموجودة في المكتبة معطلة وتفتقد خدمة إنترنت، كما لا يوجد نظام خاص للمكتبة يمكننا من البحث عن الكتب والمراجع الموجودة كما هو موجود في المكتبات الراقية، فالاعتماد على عملية البحث نلقيه دائما على برنامج معالج النصوص «Microsoft «Word وهذا الأخير يصعب التعامل معه في عملية وضع البيانات المتعلقة في الكتب لأنها تتطلب وقتا طويلا جدا، كما هو أيضا بالنسبة لعملية البحث، فما يحصل في المكتبة هو جهد فردي من قبل الموظفين لسد هذه الثغرة.ودعا في الوقت نفسه المسؤولين إلى ضرورة الاهتمام بالمكتبات العامة وتفعيل دورها في المجتمع، لافتا إلى أهمية أن تنتقل تبعية المكتبات العامة إلى المجلس الوطني للثقافة والفنون، حتى يمكن تطويرها ودعمها بشكل أفضل.رواد المكتباتوالتقينا رجلا في العقد الرابع من عمره يدعى محمد الزامل كان يتجول في أروقة مكتبة الصرعاوي مستمتعا بوقته في قراءة الكتب في وقت فراغه.الزامل استغرب من مجيئنا إلى المكتبة وحوارنا مع أحد مسؤوليها، وجذبه الفضول إلى مشاركتنا أطراف الحديث، ليبوح بهموم المكتبة والكتب قائلا: يبقى الكتاب الورقي متميزا رغم كل التسهيلات التي تقدمها لنا التكنولوجيا الحديثة في الوصول إلى المعلومات التي نريدها، فالقراءة من خلال الكتاب الورقي لها طعهما ومذاقها الخاص، إلا أنه من المؤسف أن نرى هذا العزوف الكبير عن المكتبات العامة وعدم وجود اهتمام لدى كافة فئات المجتمع، بخلاف ما كان موجودا في السابق من اهتمام ملحوظ في المكتبات العامة والتواجد فيها للاستفادة منها، مبينا أن الحياة تغيرت اليوم واحتياجات الناس تغيرت حتى على مستوى الكتب التي يقرأونها، ورغم هذا التغير فإننا لم نر المكتبات العامة تواكب تطورات العصر في استجلاب الكتب الحديثة.ويقترح الزامل أن يكون هناك ترابط فعّال ما بين المكتبات العامة وأندية القراءة المختلفة التي بدأت تنتشر أخيراً بين فئة الشباب تحديدا، مشيرا في الوقت عينه إلى أهمية أن تخصص المكتبات العامة مكانا لنوادي القراءة وتوفير كل الاحتياجات اللازمة لهم ليتم الاستفادة من هذه المرافق المهمة في البلاد.ويرى أن المكتبات العامة بحاجة إلى الكثير من التجديدات، وتحديث الكتب وطبعاتها المختلفة، والحرص على إيجاد النسخ المطبوعة بالألوان والصور كي تمنح القارئ متعة في القراءة.من جهته، يرى علي نوري «خريج جامعي» أن العزوف الكبير عن زيارة المكتبات العامة يدق ناقوس الخطر على قيمة الثقافة وأهميتها لدى أفراد المجتمع، مشيرا إلى أهمية أن تلعب الجهات المسؤولة دورها المطلوب في توعية الناس بأهمية المكتبة وحاجة الناس إليها.استخدام التكنولوجياويبين نوري أن الناس بدأوا يتجهون اليوم إلى استخدام التكنولوجيا في عملية القراءة ولأن المكتبات غير مواكبة لهذا التقدم فمن الطبيعي أن ينفر الناس منها.من جانبه، يقول رئيس مجلس إدارة جمعية المكتبات والمعلومات الكويتية عبدالعزيز السويط: إن المكتبة هي خدمة مجتمعية لجميع فئات المجتمع من محبي القراءة والاطلاع، ولجميع المراحل العلمية وصولا إلى الدراسات العليا، إلا أن اليوم تشهد هذه المكتبات عزوفا ملحوظا من قبل المجتمع، ولهذا أسباب كثيرة منها: نقص وسائل التكنولوجيا الحديثة المستخدمة في المكتبات، بالإضافة إلى تهالك مباني العديد منها وعدم ملاءمتها لطبيعة المكتبات كمكان يجب أن تتوافر فيه كل سبل الراحة لرواده، مستغربا في الوقت ذاته من وجود أجهزة الحاسب الآلي من دون أن تتم الاستفادة منها وعدم توافر خدمة الإنترنت فيها. لافتا إلى ضرورة أن تواكب المكتبات العامة متطلبات العصر في توفير التكنولوجيا الحديثة وتحويل المصادر الورقية التقليدية إلى إلكترونية بالإمكان الوصول إليها بسهولة وسرعة أفضل.نقص الأنشطةويتابع بقوله: وتعاني المكتبات أيضا من نقص على مستوى الأنشطة والمسابقات التي يتم تنظيمها، في الوقت الذي تشهد فيه إهمالا واضحا من قبل وزارة التربية في عدم مراعاتها لهذا الجانب المهم في دور المكتبة في المجتمع، متسائلا «كيف يتم تعزيز القراءة بين أفراد المجتمع خصوصا لدى الأطفال؟، مبينا أن وجود أنشطة ومسابقات في المكتبة سيحفز المشاركين على البحث عن المعلومات والاهتمام في الاطلاع والقراءة لمختلف الكتب في مختلف المجالات.ويشدد السويط على أهمية أن تعزز المكتبات العامة من تواصلها مع المجتمع من خلال الوسائل الإعلامية المختلفة لاسيما وسائل التواصل الاجتماعي، لتتمكن من إيصال أهدافها ورسالتها المجتمعية حتى يدرك الناس دورها المهم في تنمية الثقافة، مبينا أن هذا التواصل الإلكتروني بات ضروريا خصوصا وأنه أصبح الوسيلة المهمة في الارتباط المستمر بالجمهور.ويبين السويط أن هناك ميزانية مخصصة لتزويد المكتبات بالكتب لكننا لا نرى هناك التزام من قبل قسم التزويد في تزويد المكتبات بالكتب الحديثة التي تتناسب مع متطلبات واقعنا الراهن، مطالبا في الوقت عينه بأهمية وجود لجنة تهتم بشراء الكتب الحديثة من معارض الكتب ودور النشر لجلبها إلى المكتبات العامة، كي تساعد الطالب والمهتم في الوصول إلى ما يريده.صيانة المكتباتوينوه السويط إلى ضرورة أن يكون هناك اهتمام في صيانة المكتبات مضيفا «ليس من المعقول أن تعاني المكتبات من نقص في أبسط الأمور كعدم وجود إضاءة كافية وحتى في ما يخص وجود دورات مياه مناسبة».ولفت في الوقت ذاته إلى أهمية أن يلتفت المسؤولون إلى العاملين في المكتبات ومنحهم المسميات الوظيفية المناسبة، بعيدا عن أساليب التنفيع والواسطات، «ونحن في جمعية المكتبات العامة ومن خلال تحركاتنا وفرنا للعاملين حقوقهم التي كانت في وقت ما مسلوبة، كبدل الشاشة، وأيضا في ما يخص المسميات، والكادر، والمكافأة التشجيعية».وتطرق السويط إلى أهمية الالتفات للجانب المعرفي في ما يخص تعزيز الاهتمام بالمكتبة ودورها من خلال مادة المكتبة والبحث الموجودة في المدارس، مبينا بقوله: في السابق كانت تعتبر مادة إجبارية لكن تم وضعها لتكون مادة اختيارية من دون استشارة المختصين في هذا المجال، مبينا أن عملية تغيير المناهج دون استشارة المختصين تعتبر كارثة وخطأ جسيماً، فمن المفترض أن تكون هذه المادة إجبارية تساعد الطالب على القراءة والبحث الصحيح، فالطالب الجامعي اليوم يواجه صعوبات كثيرة في هذه المسألة ولا يمتلك المهارات اللازمة في عمل البحوث الجامعية بالشكل الصحيح.وقال «هناك مؤتمرات كثيرة عقدت توصي بالاهتمام في هذه المادة لأنها وجدت لخدمة بقية المناهج، ونحن في جمعية المكتبات كانت لنا جهود في المطالبة بإعادة هذه المادة ضمن المواد الإجبارية حيث قمنا بمقابلة وكيل عام التعليم العام، وأيضا مدير التنسيق رومي الهزاع، وقد قدمنا كتاباً بهذا الشأن مرفقاً بتوصيات البنك الدولي التي أكدت على أهمية هذه المادة في المرحلة الثانوية.
محليات
تحولت إلى مبانٍ مقفرة يسكنها الصمت
المكتبات العامة ... خاوية على «كتبها»
01:31 م