الأفكارُ زائراتٌ للذهنِ ندية تَتَحَبَّبُ من الميول وتستقر في الذاكرة، والكلام في الأفكارِ كلامٌ يُعرَفُ أَوَّلُهُ وقد لا يُدرَكُ آخِرُهُ، فالفكرُ عالَمٌ واسعُ الكونِ مُتَراميَ الأطرافِ، يسبح فيه الإنسانُ وينشغلُ به حسُّهُ وتُسلَبُ فيهِ أنفاسُهُ، يبدأ الدخول إلى عالم التَّفَكُرِ بالخاطر العابرِ لِيَعلَقَ الانتباهُ ويلحقَ به الإمعانُ حتى يبدرَ الاهتمامُ والتساؤلُ ثم يتجلى الفضولُ إلى السؤالِ أو التأمل؛ فإن كان سؤالاً كان الدخول إلى عالم التَّفَكُّرِ تقليدياً، وإن بدأ هذا الأداءُُُ بالتأملِ سَبَحَ الانسانُ مع نفسهِ وروحهِ في سماءٍ واسعة. ينال المتأملُ من عالَمِهِ ما لم يَنَلْهُ نائلٌ، ويجد في دنياه آفاقَ التمامِ في كلِّ شيء؛ ففي فكرةِ اللجوءِ مثلاً يستقرِئ في غياهِبَ الوجودِ كلَّ جهةٍ للوصولِ إلى الوحدانية وإلى المبدع الأول حين تَسري في جسده وروحه الحاجةُ إلى السند الواحد الذي إنِ امْتَنَّ له الحقُ في الامتنان، السندُ الذي يستندُ إليهِ كلُّ سندٍ، بذلك يصل إلى الواحد الأحد. وقد يتأمل في مَعالم الجمالِ في الوجود فيسعى مع تسلسلِ الفكرِ في صور ورسوم لِيصلَ إلى حقيقةِ الجمالِ المطلقِ الموجودِ في كل موجودٍ والوصولُ إلى فكرة أن الجمال نِسْبِيٌّ؛ فما يَجْمُلُ في رُؤْياكَ قد لا يَجْمُلُ عند غيرك، وما هو بعيدٌ عن الجمال مُطلقاً في نظرِكَ رُبما يكونُ عينَ الجمالِ في نظرِ غيرِكَ، إذاً الجمالُ موجودٌ في كلِّ مَوجودٍ وأن هناك من أوجدَ كلَّ موجودٍ جميلاً وهو الخالق المبدع الذي أكمل خَلقَهُ.وقد يدعو التأملُ صاحبَهُ إلى فكرة إحقاق الحق والدعوة إلى قانون يحفظُ الحقَ لصاحبهِ فيسعى في فكرة تحكيم قانونٍ ما لِيَكونَ حَكَمَاً يُحْتَرَمُ رَأْيُهُ. وفي تأمل فكري كثيف يُستَرْسَلُ بِمُعطياتِهِ لِيَلْمَسَ أنَّ ما مِنْ حُكْمٍ إلا وفيه شيءٌ من الظلمِ مهما سعى المجتهدونَ للوصولِ إلى إحقاقِ الحقِ والعدلِ المطلقِ لِيُسْفِرَ التأملُ عن حقيقةٍ جَلِيَّةٍ أنَّ مُحِقَّ الحقِّ وصاحبَ العدلِ المطلقِ هو الله في عَلْيائِهِ.ولقد يشرد الإنسان مع فكرهِ في جانب اللجوءِ الذي عرضناهُ فَيَتَعَلَّقُ ويلجأُ إلى فانٍ أو مُتَغَيِّرٍ فَيَقَعُ اللجوء منه إلى بشر أو شجر أو حجر، وقد رَفَضَتْ مُكَوِّناتُ العقلِ اللجوءَ إلى مُتَحَوِّلٍ أو مُتَقَلِّبٍ، فلا بد إذاً من اللجوءِ إلى ثابتٍ لا يتغيَّرُ وباقٍ لا يَتَحوَّلُ وذلك هو الله الواحد. وإن شَرَدَ الفكرُ بصاحبهِ إلى التعلُّقِ بجمالٍ ما دونَ أن يُوصلَهُ هذا الجمالُ إلى مُبدِعِهِ فسيكون الأمرُ أشبهَ بالعبثْ، وقد يستجيب الانسان حين شرود إلى تلبيةِ نداء الشر والسيطرة على الآخرين في استغلال الدعوة إلى تحكيم الشرعية وإحقاق الحقوق فيتذوقُ لذةَ اتخاذِ القرارِ وانصياعِ الآخرين له فيتمادى حتى يقعَ في قبضةِ القدرِ.الانسان مخلوقٌ سامٍ عن كلِّ مادةٍ إنْ لَبّى نداءَ العقلِ في فكرهِ ولم يشرد إلى متاهات التفكُّرِ، لذلك كان مِنَ الْمُلِحِّ التَّأَنّي في الاستجابة والتمهُّلُ في مرحلة التأمل قبل الشروع في التحليل أو الانغماس في أي فكرة، والرفق رفيقُ المتأملِ في أدائه وخياله وأبعادِ تَصَوُّرِهِ، والمتأمل أمامَ عالَمٍ من المعارف والخبرات يدفعُهُ مُيولُهُ وتُناديهِ شارداتُ فِكْرِهِ فهو بين خياراتٍ متنوعةٍ ونداءاتٍ متلونةٍ والْحَيْرةُ صوتٌ يُناديهِ مِنْ أعماقهِ، والتردُّدُ هُتافٌ يدعوهُ مِنْ كُلِّ مكانٍ والاختيار أصعب مما يظن والدائرة ربما تدورُ عليه بعدما حسبها له، الانسان أمام هذا الخليط من ردود الفعل ومع هذه الألوان في طبائع النفوس ليس أمامه إلا أن يَذْبَحَ بيديه كبشَ التردُّدِ بلا رجعة، قال أبو الطيب المتنبي:إذا كُنتَ ذا رأيٍ فَكُنْ ذا عَزيمَةٍفإنَّ فسادَ الرأيِ أنْ تَتَرَدَّداجلُّ الفوائدِ العائدةُ على ذات المتأمل غنيةٌ بالحكمة ومُشْبَعَةٌ بِخِبراتٍ تستقرُّ في مُستودعِ الفكرِ إلى أنْ يلزم أستدعاؤُها بل تُضفي على أنفاسِ وزفراتِ صاحبِها الهدوءَ الطمأنينةَ وفيها بيان لِبِناءِ مَلَكَةِ العقلِ، ولستُ بِصَدَدِ تَعداد أو حَصْرِ فوائدِ التأمُّلِ غيرَ أَنّي أُحذّرُ من استسلام الانسانِ للتأمُّلِ فحسب فَيَقَعَ في التردُّدِ. أُريد أن أَصِلَ إلى عالَمٍ يَسَعَ مِنْ غيرِ مبالغةٍ كلَّ معانيَ التأملِ في الأداءِ وذلك بالسلوك الفردي في نطاق المجتمعات أو في القرار الجماعيِّ على مستوى سياسات الدول والمنظمات، وفي تاريخ الأمم ما دل على أن كل فعل بدأ بِرَوِيَّةٍ بَقِيَ مُستمرّاً وخالداً، وأيُّ عملٍ أُنجِزَ فُجأةً تَساقَطَ فُجأة! ليبقى التأمُّلُ منهجاً فطرياً للقلب والعقل معاً لِبِناءِ النفسِ والروحِ والجسد.* كاتب وشا عر سوري7attanaltaqi@gmail.com
محليات - ثقافة
رؤى
الله... وشارداتُ الأفكار
09:48 ص