يتعاظم القلق «المكتوم» في بيروت من تعرّض لبنان، المصاب بـ «انعدام وزن» سياسي، لهزات ارتدادية ناجمة عن «الزلزال العراقي» بعدما كان نجح اخيراً في الحدّ من تداعيات «البركان السوري» عبر تشكيل الحكومة الائتلافية وإطلاق خطة أمنية ساهمت في اطفاء بؤر لاهبة وكبْح جماح التوترات الأمنية ذات الطبيعة المذهبية، وتفكيك خلايا على صلة بموجة السيارات المفخخة وأعمال التفجير.فرغم التفاهمات السياسية التي أفرجت عن حكومة استغرق تشكيلها نحو 11 شهراً وأفضت الى استقرار أمني نسبي في البلاد، فإن المخاوف عادت من جديد نتيجة إنسداد الأفق السياسي الناجم عن العجز عن إنتخاب رئيس للجمهورية ومحاولات تكبيل عمل الحكومة والبرلمان وتزايُد مظاهر الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي، إضافة الى الأكلاف الهائلة لوجود «جيش» من النازحين السوريين فاق عدده المليون ونصف مليون نسمة.هذه المآزق، الدستورية والسياسية والاقتصادية، على خطورتها، بدت جزءاً من صراع «مناوراتيّ» في الداخل ومن صراع نفوذ اقليمي، ينتظر الخروج من تعب اللاعبين المحليين ونضوج ظروف الحوار السعودي - الايراني، وسط مظاهر تكيّف اضطراري مع هذه المرحلة الانتقالية المحروسة باستقرار أمني نسبي يحرص على تحصينه جميع الفرقاء المحليين والاقليميين لاعتبارات تتعلق بمقارباتهم المختلفة للوضع في لبنان.غير ان حركة «داعش» العابرة للحدود وانفلاشه بعد سقوط الموصل ومدن عراقية اخرى بيده، وظهوره المفاجئ كـ «قوة ضاربة» اكثر ذكاء وثراء وقدرة وجاذبية بين «أخواته» من الجماعات المتشددة، يكاد ان يعيد ترتيب الأولويات في لبنان على وقع الخشية من «مفاجآت غير مفاجئة» ترتبط بارتدادات محتملة لما يجري على خط النار من سورية الى العراق.لم يُخْف المسؤولون اللبنانيون توجّسهم من خطر إنتقال عدوى «داعش» الآخذة في التوسع، لا سيما في ضوء تقارير أُبلغت اليهم عن قلق مماثل يساور دول جوار العراق، لا سيما الدول الخليجية التي تتجه الى عقد اجتماعات على مستوى المسؤولين المعنيين لدرس سبل مواجهة الأخطار الناجمة عما يجري في العراق، وخصوصاً ان «داعش» لم يخْف معاداته لتلك الدول وأنظمتها.وعلمت «الراي» ان جهات معنية في لبنان تعكف على تقويم ما جرى في الموصل والمدن العراقية الاخرى ودراسته بإمعان للوقوف على التكتيكات التي اعتمدها «داعش» ومكّنته من التمدد على رقعة جغرافية واسعة، إضافة الى ما كشفت عنه هذه التجربة من مكامن قوة في حركة هذا التنظيم وأسلوب عمله وخططه.وتوقفت هذه الجهات امام مفارقات تعتقد انه لا بد من اخذ العبر حيالها، في ضوء الخشية من سيناريوات لتحرك بعض الجماعات «الداعشية» في لبنان على غرار ما يجري في الساحات الاخرى، ومن هذه المفارقات:* الذكاء التكتيكي الذي أظهره «داعش» في إسقاط الموصل، فهو اعتمد على عملية حرف أنظار حين أوهم المسؤولين العراقيين انه يتجه الى اقتحام مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، ثم شتت جهد هؤلاء حين حاصر الجامعة في الرمادي قبل ان يباغت الجميع بأن هدفه كان الموصل.* إتكاء «داعش» على «الخلايا النائمة» في الموصل والمدن العراقية الاخرى، في اطار حركة سيطرة بدأت من الداخل عبر البيئة الحاضنة لا من الخارج، الامر الذي شكل عامل مفاجأة ساهم في الانهيار السريع للقوى العسكريّة العراقيّة.وإزاء هذه الخلاصات لم تستبعد تلك الجهات وجود سيناريو «داعشي» يمكن ان يُنفذ في لبنان على غرار ما حصل في الموصل، الامر الذي جعلها تضع مجموعة من «النقاط الحمر» فوق خريطة التوترات السابقة في لبنان، نتيجة لاعتقادها بوجود «بيئة حاضنة» لهذه «الظاهرة الجذابة» التي ستصبح ملاذاً لجميع الجماعات المتشددة.هذه التقديرات تقاطعت مع تقارير تحدثت عن ان المراجع الامنية اللبنانية تتجه الى اخضاع الحدود اللبنانية - السورية لرقابة اكثر صرامة، والى تنفيذ اجراءات احترازية في محيط المخيمات الفلسطينية، إضافة الى وضع بعض المناطق اللبنانية التي كانت شهدت توترات في مراحل سابقة كصيدا وبعض مناطق الشمال تحت المعاينة.ونقل في هذا السياق، عن وزير الداخلية نهاد المشنوق، الذي اقترح عقد اجتماع لمجلس الدفاع الأعلى لبحث التداعيات التي يمكن ان تنجم عن الأحداث الجارية في العراق، قوله في تصريح صحافي: «ثمة شعور بضرورة اتخاذ تدابير احترازية في دول المنطقة. وقد أبلغني المسؤولون الكويتيون اثناء زيارتي للكويت انهم منعوا دخول اي عراقي الى الأراضي الكويتية»، مضيفاً: «انا متأكد من ان كل دول الخليج اتخذت إجراءات في السياق نفسه».والسؤال الذي يتردد صداه بقوة في الأندية السياسية اللبنانية هو: هل تؤدي إرتدادات الزلزال العراقي الى دخول لبنان في مزيد من «الغيبوبة» السياسية - المؤسساتية ام انها ستسرع عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية؟وإذا كان من الصعب معرفة اتجاهات الريح وسط الواقع الضبابي الراهن، فان حركة الاتصالات الواسعة تشي بأن حراكاً متزايداً يجري من أبرز محطاته اللقاء المرتقب الاسبوع المقبل في باريس بين زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، إضافة الى بلوغ الحوار المتعرج بين الحريري وزعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون مرحلة حسم نتائجه، سلبية كانت ام ايجابية.