| علي الرز |
الخطاب الاعلامي البعثي معروف بأنه خطاب موجه وصاحب رسالة. هو جزء من معركة «الصمود والتصدي والوحدة والبناء وصيانة المكتسبات الاشتراكية (سابقا) والتنموية»، لذلك كان كثيرون، بمن فيهم بعض البعثيين، يرونه خطابا مغردا خارج سرب الاعلام بمفهومه العلمي الخبري والتحليلي خصوصا لجهة تماهيه مع الخطاب الماركسي في الانتقائية خدمة للسياسة العامة. بمعنى اوضح، نحا الخطاب البعثي المنحى ذاته الذي سارت عليه الماكينة الاعلامية الماركسية لجهة التركيز على المواقف المؤيدة والمتعاطفة واهمال الاخبار والمواقف الاخرى التي قد يؤثر ابرازها على «النسيج الداخلي للمجتمع والدولة»، ولم يخف اعجابه بتجربة الاعلام الالماني في عهد هتلر حين اعتبر النازيون ان الاختلاق الكبير لبعض القضايا وترويجه المستمر ليصبح «بدهيات» مسألة هامشية ومشروعة مقارنة بالمشروع التاريخي الذي كانوا يعملون على انجازه اوروبيا وعالميا. ومن نافل القول ان هذا النمط الاعلامي خلق مشكلة مزدوجة لاصحابه ومتلقيه، فقد بدا مهندسوه، مع الثورات الهائلة في قطاع الاتصالات وتحول العالم الى قرية صغيرة وانفتاح الجميع على المعلومات، اشبه بغرباء عن الواقع او مختلقي اخبار ومفبركي قضايا... وفي اضعف الاحوال اصحاب نمط كاريكاتوري. اما المتلقون فعاشوا ازدواجية شخصية بين تصديق ما يسمعون وبعضه قريب من «القدسية» لانه يعكس وجهة نظر «القائد» او الحزب ويشكل امتدادا للتعبئة... وبين حقيقة الامور كما هي خصوصا اذا اتت التطورات دائما بعكس «التوقعات – المسلمات».الخطاب الاعلامي البعثي هو، اذا، نتاج منظومة سياسية وحزبية وفكرية ضخمة امتدت لقرن باشكال مختلفة. له مبرراته عند اصحابه وله جذوره وانتشاره على رغم كل ما سبق وانفضاض الكثرة المطلقة عنه. اما تعبيراته فكانت متجلية بقوة في العقدين الماضيين مع مواكبة هذا الاعلام لانهيار احد اجنحة السلطة البعثية حين حاول عبثا تحويل انتصارات عسكرية لحظية الى انتصارات سياسية دائمة كما حاول عبثا تحويل الانكسارات والهزائم السياسية والعسكرية لاحقا الى انتصارات.ومن التجليات ايضا اختلاق القضايا وتوجيه هذا الاختلاق في خدمة التعبئة. ارجعوا فقط الى الخطاب الذي رافق اجتياح العراق للكويت عام 1990. فمن «فوضى داخلية ادت الى طلب المعارضة تدخل الجوار»، الى «انقلاب عسكري عقد اتفاق تحالف مع العراق»، مرورا بعشرات القصص عن استخدام سلاح النفط او رفض اسقاط الديون او التعدي الحدودي، وانتهاء بالرواية الاساسية البعثية عن عودة الفرع الى الاصل، من دون ان نغفل رواية صدام حسين نفسه مع بدء محاكمته حين تحدث عن سبب كان من موجبات الغزو مفاده تقليل الكويتيين من شأن المرأة العراقية وقدرها... وكان هناك (وما زال) من صدقه.اخطر ما في التطورات التي حصلت وتحصل في لبنان اليوم امنيا وسياسيا هو سقوط عدد كبير من اللبنانيين في قبضة الخطاب الاعلامي البعثي. فاحتلال بيروت مثلا لم يكن احتلالا بل «عملية جراحية بسيطة بالمنظار». والحوادث الامنية في البقاع ضربات استباقية لافشال مخطط «ميليشيا تيار المستقبل». والشلل السياسي هدفه فقط تأمين «مشاركات عادلة في السلطة» لا اعادة انتاج السلطة، وتقييد صلاحيات رئيس الجمهورية وفتح موضوع صلاحيات رئيس الحكومة «قضية اصلاحية» وليست مطمحا شخصيا او شحنا طائفيا.وكم كانت «بعثية» تلك الثقافة التبريرية التي حملت كتابا وصحافيين الى القول عبر شاشات التلفزة: «بعد ما شفتو شي» و«الآتي اعظم» ومن احتل بيروت «هم مجموعة كشافة فقط». كان الحديث اليومي عن جيش للموالاة يتدرب في الاردن في صلب جوهر الخطاب البعثي الذي يمهد بالاعلام والسياسة لامر عمليات على الارض، ولا يهم لاحقا ان اتضح ان كل ما كان يقال هو الكذب بعينه ما دامت منظومة «المهندسين» و«المنظرين» جاهزة امام قطاع «المؤمنين» للتوضيح والتبرير والتهديد على ارض طائفية بامتياز تربط كلام القائد بقدسية كبيرة. ألم يقل صدام حسين للذين تمنوا عليه بعد غزو الكويت ان ينسحب كي لا تتطور الامور الى الاسوأ: «ما فعلته ايمان وما تطلبونه مني كفر»؟ان يكفر اللبناني بمبادئ السيادة والعمل الديموقراطي والتداول السلمي للسلطة والمشروع النهائي للدولة العادلة القادرة الحرة. ان يستسلم ويسلم امره لقوى الامر الواقع ومشاريعها الاقليمية. ان يعيد النظر في المواطنة فيخلعها ويرتدي اللبوس الطائفي. ان يصدق فقط ما يقوله القائد والزعيم والحزب وجوقة التبرير والتهديد. ان يعتبر الدستور تفصيلا... كلها عناصر اساسية للخطاب الاعلامي البعثي في نسخته اللبنانية، الذي لم يكن، للاسف الشديد، كاريكاتوريا بل دمويا بامتياز. نفذه وينفذه «كشافون» يمهدون الارض لمرحلة مقبلة قد تحمل مفاجآت كبيرة لحملة السلاح قبل غيرهم.