حمل الشاعر الحداثي الراحل أنسي الحاج مسؤولية الوصول بالشعر العربي إلى مستويات عالية من خلال المضمون والشكل، والرؤى والتكنيك، كما أن دوره الريادي في استشراف ملامح جديدة للشعر العربي في مجال النثر... اسهم في إيجاد مساحة كبيرة يمكن الوقوف عليها للتعبير عن روح الإنسان وتطلعاته.إنه أنسي الحاج الذي كلن استاذا لأجيال شعرية متلاحقة ينهل منه تلاميذه- وأغلبهم قرأ له ولم يلتقه مباشرة- حب الشعر والحداثة ويقتربون أكثر من تجربته الشعرية بمستوياته الإنسانية، ومعالمها الجميلة، وأرضها المترامية الأطراف.وتمكن شاعرنا الراحل من تأكيد حضوره الشعر على مدى سنوات طويلة أفناها في التعاطي مع الأدب، كما تمكن من تأكد خصوصيته الفنية في مجال الشعر، من خلال مفرداته الرشيقة ولغته التي تعتمد في أنساقها على الدهشة والاختزال والتواصل مع ملامح شعرية جديدة ومبتكرة، ومن خلال أسلوبه الذي بات معبرا عنه شخصيا، ومشيرا إلى منهج أدبي يسير وفق منظومة إنسانية متنوعة الجوانب والأشكال.إنه أنسي الحاج... الذي بدأ ينشر قصصاً قصيرة وأبحاثاً وقصائد منذ 1954 في المجلاّت الادبية وهو على مقاعد الدراسة الثانوية، ودخل عالم الصحافة من باب الإبداع والأدب، ففي عام 1957 ساهم مع يوسف الخال وأدونيس في تأسيس مجلة «شعر» وعام 1960 اصدر في منشوراتها ديوانه الأول «لن»، وهو أول مجموعة قصائد نثر في اللغة العربية.ثم بعد ذلك توالت مجموعاته الشعرية، تلك التي انتصر فيها للحداثة وتصدر من خلالها قائمة شعراء العربية، أولئك الذين اسسوا للوجدان العربي طريقه نحو الشعر الباحث عن الحياة بكل ما تحمله من مضامين ورموز وتداعيات.وترجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والبرتغالية والارمنية والفنلندية. وصدرت انطولوجيا «الابد الطيّار» بالفرنسية في باريس عن دار «أكت سود» عام 1997 وانطولوجيا «الحب والذئب الحب وغيري» بالألمانية مع الاصول العربية في برلين عام 1998.وينظر إلى الحاج على أنه من رواد قصيدة النثر في الشعر العربي، هذا الشكل من القصيدة الذي تمسك بالكتابة فيه شاعرنا رغم الهجوم الشديد على أصحابها من قبل الداعين إلى القصيدة التقليدية أو قصيدة التفعيلة، ومع إصرار الحاج والذين ينتمون للكتابة بهذا الشكل تمكنت قصيدة النثر من إيجاد مكانتها المرموقة في نسيج الشعر العربي.يقول شاعرنا في قصيدة « قل ماذا رأيت؟»:لامرأةٍ عينان عاليتان عميقتان، تشرفان عليّ وتستأصلانني.لامرأةٍ عينان رأيت الأشرعة وما رأيت مثلهما.لامرأة عينان مشرقتان غائبتان، تقولان الرمل والدخان، تقولان الحلم ودماره.لامرأة عينان أصغيتُ إلى الاعترافات، وما سمعت عنهما.هكذا كانت الرؤى تأتي دائما في قصائد الحاج مفعمة بالتحليل والرغبة الجامعة في قراءة الكلمات قراءة متأنية، ومن ثم وضعها بعناية في جسد القصيدة، من أجل الوصول إلى معان خلابة وفي الوقت نفسه مدهشة، أنه يرسم بقلمه خيالات ذات أبعاد إنسانية في تفاعلاتها مع الحياة، ورصدها للصور التي تتحرك في أنساق فنية متوهجة.لم يكن الحاج بمعزل عن واقعه- رغم انشغاله بالخيال في إبداعاته الأدبية، كما لم يكن بعيدا عن كل التحولات السياسية والاجتماعية سواء الحادثة في لبنان - بلده الذي احبه - أو العالم العربي بأكمله، بقدر ما رصد قلمه الواقع من خلال عمله الصحافي، ومن خلال قصائده تلك التي لم يكتف فيها برصد الجمال فقط، إذ انه تحاور مع كل ما يحمله قلبه من هموم وقضايا بمشاعر مفعمة بالحيوية، وقادرة على التحليل والترصد.وتناول الحاج الهم العام في قصائده متمنيا في ما تمنى أن تكون الحياة شفافة خالية من الظلم ليقول في قصيدة له:في وقت من الأوقات لم يكن أحد.كان الهواءُ يتنفّس من الأغصانوالماء يترك الدنيا وراءه.كانت الأصوات والأشكال أركاناً للحلم،ولم يكن أحد.لم يكن أحد إلاّ وله أجنحة.وما كان لزومٌ للتخفّيولا للحبّولا للقتل.كان الجميعُ ولم يكن أحد.إنه شاعرنا الراحل الذي انطوت تجربته الشعرية على لغة مرنة متألقة في مفرداتها، يتحول فيها الرمز إلى كائن حي يتحرك في أكثر من اتجاه، على سبيل الالتقاء مع مضامين حسية متوهجة بالحيوية، ومزدانة بالتألق الوجداني. وفي قصيدة «غيومُ يا غيوم» يقول:رسمتُ فوق الفراغ قوسَ غماميقوسَ غمامنا أيّها الحبّقوسَ غمام المعجزة اليوميّة.غيوم، يا غيوميا هودجَ الأرواحجسدي يمشي وراءكِ، يمشي أمامكِ،يتوارى فيكِ.وحينما نتأمل مزاج الحاج في ما يخص اختياره لمواضيع قصائده، سنجد أنه يميل دائما إلى الفلسفة والتصوف، حتى وإن بدت قصيدته وجدانية أو عاطفية، ومن ثم فقد كان رصده المتقن لمزاجه الدور الفعال في توهج التجربة وتكثيفها، والولوج إلى عوالم شعرية، ربما تكون خفية عن بعض الشعراء: هل يحب الرجل ليبكي أم ليفرح/ وهل يعانق لينتهي أم ليبدأ/ لا أسألُ لأُجاب، بل لأصرخ في سجون المعرفة/ ليس للإنسان أن ينفرج بدون غيوم/ ولا أن يظفر بدون جِزْية.فالقرار الشعري الذي كان يتخذه شاعرنا في قصائده ينبع دائما من قلق البحث عن الحقيقة، مهما كانت صورتها، فهي لا تخيفه بشاعتها، بقدر ما تخيفه غموضها، وعدم القدرة على اكتشافها:مَن يخاف على الحياة وملاكُ الرغبةِ ساهرٌ يَضحك؟لا يولد كلَّ يوم أحدٌ في العالملا يولد غيرُ عيونٍ تفتِنُ العيون!نظرةٌ واحدةنظرةوعيناكِ الحاملتان سلامَ الخطيئةتمحوان ذاكرة الخوفوتُسيّجان سهولة الحصول بزوبعة السهولة!ومن خلال ما قدمه الحاج للشعر العربي من إنجازات سيتضح لنا أن منهجا أدبيا قد تشكل بفضل هذا الأداء الشعري المتميز لشاعرنا هذا المنهج أصبح طريقا يسلكه الشعراء الطامحين إلى تجديد أدواتهم الشعرية والإقتراب أكثر من روح الحداثة، كما لم تكن زائقة الحاج الشعرية متجهة للنثر كنثر، بقدر ما هو اتجاه من أجل التحرر من التصنع والكتابة بطلاقة من دون قيود، وباحتراف ودراية لكل كلمة يخطها قلمه:الشاعر هو المتوحّش ليحمي طفولتناالملحّن هو الأصمّ لكي يُسمِعالمصوّر هو الأعمى لكي يُريالراقص هو المتجمّد لكي نطير.لا يَحضر إلاّ ما يغيبولا يغيب إلاّ ما يُحضِر.فلأغبْ في شرود المساءفلتبتلعني هاويةُ عينيّ!…أنه الشاعر المهموم بالشعر الذي أصدر عام 1964 أ «الملحق» الثقافي الاسبوعي عن جريدة «النهار» وظلّ يصدره حتى 1974. وعاونه في النصف الأول من هذه الحقبة شوقي ابي شقرا... مقدما في هذه الفترة المبكرة للشعراء مساحة من النشر، يتبارون فيها بقصائدهم، بالإضافة إلى تأسيسه عام 1957 مع الشاعرين يوسف الخال وأدونيس لمجلة «شعر»، كما نقل إلى العربية منذ 1963 أكثر من عشر مسرحيات لشكسبير ويونيسكو ودورنمات وكامو وبريخت وغيرهم».هكذا... جاء الفقد الذي اختطف من بيننا الشاعر أنسي الحاج الذي اتسم بالهدوء، والابتعاد عن الضوضاء التي يمتهنها الكثير من الشعراء من أجل الشهرة، فقد كان يكتب في هدأة الشاعر، وبأحلام الإنسان الباحث عن الجمال في كل كلمة يكتبها.إنه شاعر المراحل والريادة، وشاعر الحب والكلمة المخلصة، شاعر أسهم في الارتقاء بالكلمة والتشجيع في التعاطي مع الشعر بكل مكوناته الجمالية، المعبرة عن الإنسان والحياة معا، شاعر الرؤى والمشاعر المتوهجة بالرقي والترفع عن طلب الشهرة بطرق مفتعلة لا يدخل في نسيجها الشعر.