مرة اخرى يبهرنا الرئيس الاميركي جورج بوش بحسن ادارته للازمة العراقية. يفاجئنا بحرصه على الاستقرار السياسي والامني. يذهلنا بالتخطيط القوي الذي اعتمده لوضع العراق والعراقيين على سكة الخلاص.
مناسبة هذا «الانبهار» الموقفان اللذان اعطاهما بوش قبل ايام عن موضوع واحد... واختلفا عن بعضهما 180 درجة. فقد اعتبر الرئيس بوش ان «الشعب العراقي» سيغير رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ليعود بعد اقل من 24 ساعة الى القول إن المالكي رجل صالح وجيد ويحظى بثقته ودعمه.
هذا التناقض في المواقف من رئيس الدولة الاكبر والاعظم في العالم ليس جديدا علينا خصوصا اذا تعلق الامر بالعراق. حيرة تعكس عدم قدرتنا على فهم السياسة الاميركية لكنها مأزق يعكس عدم قدرة الادارة الحالية على التعاطي الموضوعي والقادر مع ازمة تهدد بتفجير المنطقة برمتها اذا تفاقمت.
وما قاله بوش مواربة قالته اجهزة الاستخبارات الاميركية صراحة، فبعد يوم واحد من اعلان «ثقته» بالمالكي وزع 16 جهاز استخبارات اميركيا تقريرا دعت خلاصته الى تنحية رئيس الوزراء العراقي.
المشكلة التي لم يتوقف عندها المعجبون بكل ما هو اميركي، تكمن في ان ادارة المحافظين الجدد خاضت نصف معركتها في العراق بـ «صواريخ سياسية» من نوع «ديموقراطية - 1» و«ديموقراطية - 2» و«زلزال الحرية»، وعندما افرزت الارادة الشعبية ممثليها في السلطة العراقية بدأنا نسمع ومن اعلى سلطة اميركية ان هذا السياسي «المنتخب» يحظى بثقة بوش او لا يحظى بثقة بوش فيما المنطق يقتضي ان يحظى المسؤول العراقي بثقة العراقيين اولا... ولكن ما العمل و«السيد الوالي» الاميركي يريد منحنا شرعية ديموقراطية من «ثقته» لا من صناديق الاقتراع.
لسنا هنا في وارد الدفاع عن المالكي او مهاجمته فهذا ليس شأننا ولا نريد ان يكون شأننا. انه امر يتعلق بالشعب العراقي الذي يملك آليات التعبير السلمي الديموقراطي (وفق الدستور الجديد) عن آرائه. ولكن لنرصد فقط عدد المحاولات التي قامت بها الادارة الاميركية لتعطيل وفاق الغالبية الناجم عن الانتخابات الاخيرة وطرحها اسماء اخرى غير الاسم الذي تم الاتفاق عليه لرئاسة الوزراء. لنرصد عدد المرات التي تحدث فيها بوش سلبا وايجابا عن المالكي، فيطالب برحيله ليلا ويدعمه نهارا، وكأنه وهو يقرأ الموقف المعد له يكشف حجم الصراع داخل الاجهزة الاميركية المختصة بالموضوع العراقي، فنفهم مثلا ان تصريحه اليوم مرتكز بقوة على نصيحة من وزيرة الخارجية، وان تصريحه امس «تمريرة» من نائب الرئيس، واول من امس «رسالة» من وزير الدفاع، وقبل ذلك «اشارات» من مختلف الاجهزة الاستخباراتية.
واذا كانت الادارة الاميركية سقطت في الامتحان الديموقراطي من خلال احلال «ثقة» الرئيس بوش محل صناديق الاقتراع، فإنها ايضا سقطت في الامتحانين الامني والسياسي، اذ كيف يمكن دعم الجندي الاميركي في مهمته لضبط الامن جنبا الى جنب مع الجندي العراقي في الوقت الذي تنسى واشنطن بدهية الترابط بين الاستقرار الامني والسياسي فتخلق مناخا دائما من التوتر السياسي ينعكس سلبيا على الحال الامنية. ثم كيف يمكن للجندي العراقي التعاون مع نظيره الاميركي وهو يسمع صلف القادة الاميركيين في الحديث عن قادته العراقيين؟
تصريحات بوش المتناقضة (والتي لن تكون الاخيرة) اتت على خلفية مشروع المصالحة العراقي المتعثر، وعلى خلفية الوعي المتأخر بضرورة ادخال كل الفئات في ادارة عراق ما بعد صدام. هذه التصريحات كان يجب ان تتوجه اولا الى صاحب القرار الاميركي لا إلى المسؤول العراقي، فمن حل الجيش والاجهزة الامنية العراقية لم يكن نوري المالكي، ومن كشف الوضع الامني على فراغ خطير ملأته قوى اقليمية لم يكن نوري المالكي، ومن استعجل قيام وضع سياسي بمواصفات معينة اقصت مجموعات عن المشاركة في الحكم لم يكن نوري المالكي، ومن لم يع حساسيات التركيبة الطائفية والعرقية في العراق كان الاميركي بامتياز، ومن فشل في تقدير مخاطر المناخات الطائفية بين مختلف المجموعات كان الاميركي بامتياز، ومن صم اذنيه عن نصائح القريبين والبعيدين كان الاميركي بامتياز ايضا وايضا، وهو امتياز دفعه اخيرا الى استجداء المساعدة الفرنسية والحلول البريطانية والدعم من حليف عربي كان الاميركي الى وقت قريب يمارس «الأستذة» عليه عند كل انتقاد لمواقفه.
عاد بوش قبل يومين ليربط «ثقته» بالمالكي بقدرة الاخير على التعامل بحزم مع الجماعات المتطرفة، ثم هاجم ايران وحذر من «محرقة نووية في الشرق الاوسط»، ثم رد الرئيس الايراني باستعداد بلاده لملء الفراغ في العراق «عند انهيار المشروع الاميركي»، ثم حسم المالكي الجدل حول وضعه السياسي بالقول ان سقوطه «من خارج الاطر الديموقراطية سيفتح ابواب جهنم على الجميع».
من سمح بالفراغ ليملأه الآخرون؟
من يشعل المحرقة؟
من يفتح أبواب جهنم؟
نريد ان نصدق انها اخطاء. نريد ان نقتنع ان «الفوضى الخلاقة» مجرد نظرية اكاديمية فاشلة صدرت من احد معاهد الفكر والابحاث. نريد ان نثق بأن ما يجري سيقود الى استقرار ومناعة لا إلى عدوى تخريبية سهلة الانتشار.
مع البيت الابيض، ما كل ما يتمنى العربي يدركه.
... يدرك عكسه.

جاسم بودي