| اعداد - طارق ضاهر ومفرح حجاب |
نعرفهم عبر صفحات وشاشات ومواقف... دخلوا التاريخ فسجّل لهم وشهد عليهم. هم مشاهير كل في مجاله، السياسي، الفني، الأدبي وحتى الديني**، قلّب الكاتب سامي كمال الدين في أوراقهم «الخاصة» جداً، ليعرّفنا الى الوجوه الأخرى «الحقيقية» لكل منهم... فكانت «رسائل المشاهير» الباب لنكتشف ما لم يكن يخطر في البال يوماً.
أسماء كثيرة تحملها صفحات كتاب كمال الدين... وان كانت «الأوراق» - كما أحبّ أن يصنّف أبوابه - مختصرة في 8 شخصيات، الا أنها تحمل أسماء الكثيرين ممن لعبوا دوراً في حياتهم.
في حلقات متتالية، سنكتشف معاً رسائل بعضها بخط اليد، والبعض الآخر مطبوع، لكل من الرئيسين المصريين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات، رئيس المخابرات المصرية السابق صلاح نصر، سعاد حسني، احسان عبدالقدوس، ماجدة، الشيخ محمد رفعت، الشاعر أمل دنقل، روز اليوسف، يوسف صديق، يوسف وهبي ومحمد كريم وغيرهم.
رسائل قد تغيّر في مفاهيم كانت راسخة في ذاكرة الكثيرين، كاشفة عن طفل ربما داخل أقسى الشخصيات، وعن مرارات وعذابات رغم الابتسامات الدائمة... فبين اليد والقلم والورقة، تنشأ علاقة لاارادية من الواقعية.
في الحلقة الثانية عن حياة البكباشي يوسف صديق، أحد الضباط الأحرار، الذي أشعل الشرارة الأولى لثورة 23 يوليو، تحكي ابنته سهير صديق عن ابعاد والدها الى سويسرا وعدم السماح له بالعودة الى مصر، ما جعله يتجه الى لبنان ويكتب قصيدة يشرح فيها مرارته بالغربة. كما تسرد كيفية تعامل رفاقه من أعضاء مجلس قيادة الثورة معه، اذ تم تحديد اقامته، ثم اعتقاله في السجن الحربي ومشاهدته لجميع أنواع التعذيب، وبعد الافراج عنه لم يسمح له بالعمل في أي قطاع مدني أو سياسي. ويكشف الكاتب في هذه الحلقة عن طبيعة شخصية محمد نجيب وعدم اتخاذه أي اجراء ايجابي لأن قراراته تكاد تكون محدودة، اذ لم يُسمح له بالتحكم حتى في حرس الفيلا الخاصة به، وقد توفي صديق بعدما أرسله عبدالناصر الى الاتحاد السوفياتي ولندن نتيجة اصابته بالسرطان.
وكنا تناولنا في الحلقة الأولى الدور الحقيقي ليوسف صديق في ثورة 23 يوليو واعتقاله لرئيس الأركان الذي كان يعكف على وضع خطة لاعتقال الضباط الأحرار، واعتراضه على ما يحدث من قادة الثورة وبالتحديد من حالات الاعدام وعدم تطبيق أهداف الثورة الستة، وابعاده في أسوان والضغط عليه باعتقال زوج ابنته سهير من أجل أن يكفّ عن اعتراضاته، لدرجة أن عبدالناصر أمر بمصادرة صورة جماعية لأعضاء قيادة الثورة كانت ستوزع مع مجلة صباح الخير هدية للقراء لكنه استقال.
ويكمل الكاتب على لسان سهير ابنة صديق:
بعد قبول استقالته من مجلس قيادة الثورة سافر والدي الى سويسرا في مارس سنة 1953 وبعد 3 شهور طلب العودة الى وطنه ولكنهم رفضوا فسافر الى لبنان في شهر يونيه سنة 1953.. وقد وصف في قصيدته (من الجنة) احساسه المرير بالمنفى والابعاد والغربة خارج البلاد بعد قيامه بالعمل البطولي في ليلة 23 يوليو 1952. حتى وصف نفسه بالشهيد الذي دخل الجنة. وطلب العودة مرة أخرى من لبنان فرفضوا وأرسلوا له زوجته السيدة/ عليه توفيق وطفليها حسين ونعمت. ولكنه عاد سراً وفجأة في أغسطس سنة 1953 حيث جاء الى بلده (زاوية المصلوب) وأرسل برقية الى الرئيس محمد نجيب قال له فيها (أنا وصلت مصر) حيث قرر المجلس تحديد اقامته في بلدته حيث حوصر المنزل بعدد كبير من الجنود والمخبرين ثم سافر الى القاهرة في أوائل العام الدراسي مع استمرار تحديد اقامته بالمنزل.
رغم تحديد اقامة والدي الا أنه في خلال أزمة مارس سنة 1954 قام بكتابة خطاب سلمه بنفسه للرئيس اللواء محمد نجيب ونشرت جريدة «المصري» نصه اقترح فيه قيام وزارة ائتلافية عن الوفد والاخوان والاشتراكيين والشيوعيين برئاسة الدكتور وحيد رأفت، تحدث فيها بصراحة عن ضرورة تخلي الجيش عن السلطة ونقلها الى الشعب من خلال اجراءات ديموقراطية، فقد تمسك منذ البداية بالديموقراطية نظاماً لحكم البلاد في هذه الفترة أخبرني أبي أنه يريد مقابلة الصحافي «أمين عبدالمؤمن» ليعمل معه حديثاً في جريدة المصري - وكنت أعرف هذا الصحفي حيث كان يتردد على منزل والدي بثكنات العباسية في بداية الثورة - والمشكلة أن والدي لا يستطيع الخروج من المنزل لأن اقامته محددة بالمنزل الذي يوضع عليه حراسة 2 مخبرين فرسم لي أبي الخطة للقيام بهذا العمل وقد نفذت هذه الخطة بنجاح. ذهبت في الموعد المحدد لمقابلة الصحفي «أمين عبدالمؤمن» الذي كان منتظر ظهراً أمام «حلمية بالاس» وهو الملهى الذي كان يسهر فيه الملك فاروق قبل الثورة وكان مكانه المفضل للسكر والعربدة وكان هذا الملهى قريباً من منزلنا في حلمية الزيتون قابلت الصحفي وطلبت منه أن يتبعني لأنني سأدخله الفيلا بطريقة سرية حتى لا يراه الحرس الواقف أمام الفيلا، وكان بحديقة الفيلا الخلفية مكان مفتوح بين الأشجار يسمح بمرور فرد واحد بشرط أن يكون مثني القامة - تطل هذه الفتحة على ممر بين فيلتين خلفيتين ويقود الى الشارع الرئيسي - دخلت من الفتحة التي بين الأشجار بسهولة لأنني صغيرة وجسمي رفيع وتبعني الصحفي بصعوبة حيث انه كان بدين الجسم ولكنه استطاع الدخول الى داخل الحديقة الخلفية ثم الى داخل المنزل من الخلف، وكان لقاؤه بالوالد والحديث الذي نشر بعد ذلك في جريدة «المصري».
وتم بعد ذلك محاصرة الفيلا بعدد كبير جداً من جنود البوليس الحربي المسلحين.. وكأن الحرب قد قامت، وحاول رئيسهم منعي من الدخول فأخبرته أنني ابنة يوسف صديق فأخبرنا أنه قد تم تحديد اقامته بالمنزل وأنه ممنوع الدخول أو الخروج منه فطلب من زوجي الدخول ومضى هو راجعاً حتى لا تحدد اقامته بالتالي:
وجدت والدي في حالة عصبية شديدة من هذا الاجراء الفاشستي العنيف الذي ان دل على شيء انما يدل على ترسيخ الحكم الفردي الدكتاتوري الذي ستراه البلاد قريباً على يد هؤلاء الأحرار الذين عزلوا الملك الفاسد وجاءوا ليخلصوا مصر وشعبها من الطغاة والظالمين، خاصة وأننا علمنا أن الفيلا التي كان يسكنها الرئيس محمد نجيب والتي كان شارع طومان باي يفصلها عن فيلتنا. قد تم تغيير الحراسة حولها بحراسة أخرى تنتمي الى التيار المعادي للرئيس محمد نجيب مما جعل والدي يصف رسالته اليه بأنها رسالة من «الحر المعتقل الى المعتقل الحر». وفي هذه الفترة حدث أن مرضت ابنتي الرضيعة فخرجت لأشتري لها دواء من الصيدلية المجاورة وتسللت خارجة حتى لا يشعر أبي بأي احتكاك محتمل مع الحرس، فتصدى لي رئيس الحرس قائلاً: ممنوع يا فندم الخروج فأخبرته بهدوء أن ابنتي الرضيعة مريضة واني ذاهبة لأحضر لها الدواء فقال اذا خرجت لن أسمح لك بالدخول.. هذه هي الأوامر فقلت بانفعال: «سأرجع بالدواء وسأرى كيف ستمنعني من الدخول» وفعلاً أحضرت الدواء ولم يحتك بي.
وفي هذه الفترة أيضاً في مساء أحد الأيام جاءتنا مكالمة تليفونية من مجهول يخبرنا أن هناك مؤامرة ستتم لاغتيال كل من محمد نجيب ويوسف صديق. فما كان من والدي الا أن يقوم ويرتدي ملابسه الكاملة ويجلس في التراس. ينتظر تنفيذ الاغتيال وشبه ذلك برجال الملك من الحرس الحديدي الذين كانوا يغتالون الوطنيين مثل «عبدالقادر طه» قبل الثورة وكانت ليلة من أسود أيام حياتنا، جلسنا كلنا حوله في التراس، تتوقف قلوبنا عند سماع صوت سيارة يقترب من الفيلا الى أن طلع النهار ونحن في أسوأ حال، وفي أثناء الليل حاولت والدتي الاتصال بزوجة الرئيس محمد نجيب وكانت صديقتها محاولة أن تلقي الضوء على هذا الحدث ولكنها أخبرتها أن الرئيس ذهب الى مطار القاهرة لتوديع الملك سعود الذي كان في زيارة لمصر.
وفي أبريل سنة 1954 قام الرفاق باصدار الأوامر للقبض على والدي، وأرسلوا له أحد تلاميذه ظناً منهم بأن هذا يحطّ من قدره ليقوم بعملية القبض عليه فما كان من هذا الضابط الا أن يقوم بالتحية العسكرية وأن يحمل لوالدي الحقيبة التي بها ملابسه ويوصله الى سجن الأجانب، حيث قمت بزيارته في اليوم التالي مع شقيقي محمد وأخبرنا أن بالسجن عدداً كبيراً جداً من رجال السياسة والفكر والصحافة - ثم نقل بعد ذلك الى السجن الحربي حيث وجد الأميرالاي أحمد شوقي وعدد من ضباط الاخوان المسلمين مثل عبد المنعم عبد الرؤوف ومعروف الحضري وأبو المكارم عبدالحي وحسين حموده، وكانت الفوضى متمثلة في اعتقال الاخوان الى الحد الذي كانت ادارة السجن توزّع على المعتقلين أوراقاً لتسجيل أسمائهم وتاريخ حضورهم، وقد أمضى والدي سنة وشهراً في السجن الحربي، وفي هذه الفترة عاصرت التعذيب الشديد الذي وقع على قيادات الاخوان المسلمين وأعضاء جماعتهم، وكنت أزوره كل أسبوع فكان يقصّ علينا ما يحدث من أبشع أنواع التنكيل ما فاق كل تصوّر وما لا يتصوره عقل. وفي احدى هذه الزيارات لوالدي بالسجن الحربي بعد أن اعترف أعضاء الجهاز السري بأسماء زملائهم وبالتنظيم قائلاً وتم القبض على جميع الأعضاء وكان الناس يلومون القيادة لهذا الاعتراف، قال أبي انه رأى بنفسه العذاب الشديد الذي وقع على هؤلاء القادة من الجلد الذي كان يتطاير فيه لحمهم الى اطلاق الكلاب التي تنهشهم الى سحلهم بالخيل، ولم ينطقوا بحرف واحد ولم يعترفوا الى أن جاؤوا بزوجة (هنداوي دوير) وكان شاباً صغيراً وكانت زوجته ببلدتها لتضع مولودها فأتوا بها الى السجن الحربي وخلعوا ملابسها أمامه ووضعوها على العروسة وقالوا له أنهم سيفعلوا معها ما فعلوه به، فطلب منهم أن يرجعوها الى بلدتها وقام بالاعتراف الكامل على النحو المعروف بعد ذلك. وفي آخر كل زيارة لأبي في السجن الحربي كان يعطينا كيساً كبيراً به عدد كبير من الخطابات التي كتبها المعتقلون الى ذويهم لكي أرسلها عن طريق البريد حتى يعرفوا مكان الاعتقال...».
بعد ذلك تم القبض على زوجة يوسف صديق توحيدة صبري ووجهت لها تهمة حيازة منشورات شيوعية ثم أعادوها بنفس المنشورات الى البيت حيث أخطأوا فقد كانوا يقصدون الزوجة الثانية ليوسف صديق علية توفيق.
في مايو سنة 1955 أفرج عن يوسف صديق وتقرر تحديد اقامته في منزله بحلمية الزيتون الى أن أفرج عن علية توفيق فذهب ليعيش معها وأولادها حسين ونعمت في عزبة النخل مع استمرار تحديد اقامته الى أن وقع العدوان الثلاثي سنة 1956 فقاد يوسف صديق المقاومة الشعبية في عزبة النخل، ورفعت بعد ذلك الحراسة عنه لكن لم يسمح له بالعمل في أي مجال من المجالات المدنية أو الأدبية حيث رفضت جميع الطلبات التي تقدم بها للعمل سواء مديراً لدار الكتب المصرية أو أن يرشح نفسه في مجلس الأمة عن محافظة بني سويف. ولم يدع مرة واحدة لحضور احتفالات ثورة يوليو.
في صيف 1970 أمر الرئيس عبدالناصر بسفر يوسف صديق الى الاتحاد السوفياتي وكان يعاني من مرض السكر وارتفاع الضغط ولغط في القلب.
تقول سهير «في أثناء فترة العلاج وفي يوم 28 سبتمبر سنة 1970 توفي الرئيس جمال عبدالناصر وتولى الرئيس أنور السادات الحكم في البلاد، فأرسل والدي من موسكو برقية عزاء للرئيس السادات وفي نفس الوقت تأييداً له في الرئاسة كما كتب قصيدة رثاء في جمال عبدالناصر بعنوان «دمعة على البطل» نشرت في ذكرى الأربعين للرئيس جمال عبدالناصر.
وابتداء من هذا الوقت أخذ المرض الذي عانى منه طيلة حياته يعاوده، وظل يقاوم المرض والألم خمس سنوات، وأجريت له عملية استئصال للرئة اليسرى في لندن لاصابته بسرطان الرئة، حتى سقط يوم 31 مارس سنة 1975 بعد نقله من منزله بالمهندسين الى مستشفى القوات المسلحة بالمعادي حيث كان في غيبوبة... وفي 1 /4 /1975 شيعت جنازة البطل يوسف صديق عسكرياً.. وكتب الشاعر الكبير كمال عبد الحليم أبياتاً نُحتت على رخامة قبر يوسف صديق تقول:
ها هنا يرقـد مـن أيقظـنا
وافتدى مصر بصدر ينزف
ها هنا فارسـنا شــاعرنا
رافع الرايات حمرا يوسـف
فالى يوم حساب صــادق
سيظل الشعب عيناً تـذرف
في الحلقة المقبلة
• الضباط الأحرار كانوا يهتمون بشأن عائلة صديق لدرجة أنه قال في احدى رسائله لابنه: اشكر الأخ اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية على عنايته بك أثناء مرضك في غيبتي.
• يراسل زوجته من الاسكندرية: سنبدأ شهر العسل عندما تأتي الى هنا... فكل ما مضى لا أعترف به... أنت الآن خطيبتي وموعد زفافنا أول يوليو 1936 لا 4 أبريل 1935
نعرفهم عبر صفحات وشاشات ومواقف... دخلوا التاريخ فسجّل لهم وشهد عليهم. هم مشاهير كل في مجاله، السياسي، الفني، الأدبي وحتى الديني**، قلّب الكاتب سامي كمال الدين في أوراقهم «الخاصة» جداً، ليعرّفنا الى الوجوه الأخرى «الحقيقية» لكل منهم... فكانت «رسائل المشاهير» الباب لنكتشف ما لم يكن يخطر في البال يوماً.
أسماء كثيرة تحملها صفحات كتاب كمال الدين... وان كانت «الأوراق» - كما أحبّ أن يصنّف أبوابه - مختصرة في 8 شخصيات، الا أنها تحمل أسماء الكثيرين ممن لعبوا دوراً في حياتهم.
في حلقات متتالية، سنكتشف معاً رسائل بعضها بخط اليد، والبعض الآخر مطبوع، لكل من الرئيسين المصريين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات، رئيس المخابرات المصرية السابق صلاح نصر، سعاد حسني، احسان عبدالقدوس، ماجدة، الشيخ محمد رفعت، الشاعر أمل دنقل، روز اليوسف، يوسف صديق، يوسف وهبي ومحمد كريم وغيرهم.
رسائل قد تغيّر في مفاهيم كانت راسخة في ذاكرة الكثيرين، كاشفة عن طفل ربما داخل أقسى الشخصيات، وعن مرارات وعذابات رغم الابتسامات الدائمة... فبين اليد والقلم والورقة، تنشأ علاقة لاارادية من الواقعية.
في الحلقة الثانية عن حياة البكباشي يوسف صديق، أحد الضباط الأحرار، الذي أشعل الشرارة الأولى لثورة 23 يوليو، تحكي ابنته سهير صديق عن ابعاد والدها الى سويسرا وعدم السماح له بالعودة الى مصر، ما جعله يتجه الى لبنان ويكتب قصيدة يشرح فيها مرارته بالغربة. كما تسرد كيفية تعامل رفاقه من أعضاء مجلس قيادة الثورة معه، اذ تم تحديد اقامته، ثم اعتقاله في السجن الحربي ومشاهدته لجميع أنواع التعذيب، وبعد الافراج عنه لم يسمح له بالعمل في أي قطاع مدني أو سياسي. ويكشف الكاتب في هذه الحلقة عن طبيعة شخصية محمد نجيب وعدم اتخاذه أي اجراء ايجابي لأن قراراته تكاد تكون محدودة، اذ لم يُسمح له بالتحكم حتى في حرس الفيلا الخاصة به، وقد توفي صديق بعدما أرسله عبدالناصر الى الاتحاد السوفياتي ولندن نتيجة اصابته بالسرطان.
وكنا تناولنا في الحلقة الأولى الدور الحقيقي ليوسف صديق في ثورة 23 يوليو واعتقاله لرئيس الأركان الذي كان يعكف على وضع خطة لاعتقال الضباط الأحرار، واعتراضه على ما يحدث من قادة الثورة وبالتحديد من حالات الاعدام وعدم تطبيق أهداف الثورة الستة، وابعاده في أسوان والضغط عليه باعتقال زوج ابنته سهير من أجل أن يكفّ عن اعتراضاته، لدرجة أن عبدالناصر أمر بمصادرة صورة جماعية لأعضاء قيادة الثورة كانت ستوزع مع مجلة صباح الخير هدية للقراء لكنه استقال.
ويكمل الكاتب على لسان سهير ابنة صديق:
بعد قبول استقالته من مجلس قيادة الثورة سافر والدي الى سويسرا في مارس سنة 1953 وبعد 3 شهور طلب العودة الى وطنه ولكنهم رفضوا فسافر الى لبنان في شهر يونيه سنة 1953.. وقد وصف في قصيدته (من الجنة) احساسه المرير بالمنفى والابعاد والغربة خارج البلاد بعد قيامه بالعمل البطولي في ليلة 23 يوليو 1952. حتى وصف نفسه بالشهيد الذي دخل الجنة. وطلب العودة مرة أخرى من لبنان فرفضوا وأرسلوا له زوجته السيدة/ عليه توفيق وطفليها حسين ونعمت. ولكنه عاد سراً وفجأة في أغسطس سنة 1953 حيث جاء الى بلده (زاوية المصلوب) وأرسل برقية الى الرئيس محمد نجيب قال له فيها (أنا وصلت مصر) حيث قرر المجلس تحديد اقامته في بلدته حيث حوصر المنزل بعدد كبير من الجنود والمخبرين ثم سافر الى القاهرة في أوائل العام الدراسي مع استمرار تحديد اقامته بالمنزل.
رغم تحديد اقامة والدي الا أنه في خلال أزمة مارس سنة 1954 قام بكتابة خطاب سلمه بنفسه للرئيس اللواء محمد نجيب ونشرت جريدة «المصري» نصه اقترح فيه قيام وزارة ائتلافية عن الوفد والاخوان والاشتراكيين والشيوعيين برئاسة الدكتور وحيد رأفت، تحدث فيها بصراحة عن ضرورة تخلي الجيش عن السلطة ونقلها الى الشعب من خلال اجراءات ديموقراطية، فقد تمسك منذ البداية بالديموقراطية نظاماً لحكم البلاد في هذه الفترة أخبرني أبي أنه يريد مقابلة الصحافي «أمين عبدالمؤمن» ليعمل معه حديثاً في جريدة المصري - وكنت أعرف هذا الصحفي حيث كان يتردد على منزل والدي بثكنات العباسية في بداية الثورة - والمشكلة أن والدي لا يستطيع الخروج من المنزل لأن اقامته محددة بالمنزل الذي يوضع عليه حراسة 2 مخبرين فرسم لي أبي الخطة للقيام بهذا العمل وقد نفذت هذه الخطة بنجاح. ذهبت في الموعد المحدد لمقابلة الصحفي «أمين عبدالمؤمن» الذي كان منتظر ظهراً أمام «حلمية بالاس» وهو الملهى الذي كان يسهر فيه الملك فاروق قبل الثورة وكان مكانه المفضل للسكر والعربدة وكان هذا الملهى قريباً من منزلنا في حلمية الزيتون قابلت الصحفي وطلبت منه أن يتبعني لأنني سأدخله الفيلا بطريقة سرية حتى لا يراه الحرس الواقف أمام الفيلا، وكان بحديقة الفيلا الخلفية مكان مفتوح بين الأشجار يسمح بمرور فرد واحد بشرط أن يكون مثني القامة - تطل هذه الفتحة على ممر بين فيلتين خلفيتين ويقود الى الشارع الرئيسي - دخلت من الفتحة التي بين الأشجار بسهولة لأنني صغيرة وجسمي رفيع وتبعني الصحفي بصعوبة حيث انه كان بدين الجسم ولكنه استطاع الدخول الى داخل الحديقة الخلفية ثم الى داخل المنزل من الخلف، وكان لقاؤه بالوالد والحديث الذي نشر بعد ذلك في جريدة «المصري».
وتم بعد ذلك محاصرة الفيلا بعدد كبير جداً من جنود البوليس الحربي المسلحين.. وكأن الحرب قد قامت، وحاول رئيسهم منعي من الدخول فأخبرته أنني ابنة يوسف صديق فأخبرنا أنه قد تم تحديد اقامته بالمنزل وأنه ممنوع الدخول أو الخروج منه فطلب من زوجي الدخول ومضى هو راجعاً حتى لا تحدد اقامته بالتالي:
وجدت والدي في حالة عصبية شديدة من هذا الاجراء الفاشستي العنيف الذي ان دل على شيء انما يدل على ترسيخ الحكم الفردي الدكتاتوري الذي ستراه البلاد قريباً على يد هؤلاء الأحرار الذين عزلوا الملك الفاسد وجاءوا ليخلصوا مصر وشعبها من الطغاة والظالمين، خاصة وأننا علمنا أن الفيلا التي كان يسكنها الرئيس محمد نجيب والتي كان شارع طومان باي يفصلها عن فيلتنا. قد تم تغيير الحراسة حولها بحراسة أخرى تنتمي الى التيار المعادي للرئيس محمد نجيب مما جعل والدي يصف رسالته اليه بأنها رسالة من «الحر المعتقل الى المعتقل الحر». وفي هذه الفترة حدث أن مرضت ابنتي الرضيعة فخرجت لأشتري لها دواء من الصيدلية المجاورة وتسللت خارجة حتى لا يشعر أبي بأي احتكاك محتمل مع الحرس، فتصدى لي رئيس الحرس قائلاً: ممنوع يا فندم الخروج فأخبرته بهدوء أن ابنتي الرضيعة مريضة واني ذاهبة لأحضر لها الدواء فقال اذا خرجت لن أسمح لك بالدخول.. هذه هي الأوامر فقلت بانفعال: «سأرجع بالدواء وسأرى كيف ستمنعني من الدخول» وفعلاً أحضرت الدواء ولم يحتك بي.
وفي هذه الفترة أيضاً في مساء أحد الأيام جاءتنا مكالمة تليفونية من مجهول يخبرنا أن هناك مؤامرة ستتم لاغتيال كل من محمد نجيب ويوسف صديق. فما كان من والدي الا أن يقوم ويرتدي ملابسه الكاملة ويجلس في التراس. ينتظر تنفيذ الاغتيال وشبه ذلك برجال الملك من الحرس الحديدي الذين كانوا يغتالون الوطنيين مثل «عبدالقادر طه» قبل الثورة وكانت ليلة من أسود أيام حياتنا، جلسنا كلنا حوله في التراس، تتوقف قلوبنا عند سماع صوت سيارة يقترب من الفيلا الى أن طلع النهار ونحن في أسوأ حال، وفي أثناء الليل حاولت والدتي الاتصال بزوجة الرئيس محمد نجيب وكانت صديقتها محاولة أن تلقي الضوء على هذا الحدث ولكنها أخبرتها أن الرئيس ذهب الى مطار القاهرة لتوديع الملك سعود الذي كان في زيارة لمصر.
وفي أبريل سنة 1954 قام الرفاق باصدار الأوامر للقبض على والدي، وأرسلوا له أحد تلاميذه ظناً منهم بأن هذا يحطّ من قدره ليقوم بعملية القبض عليه فما كان من هذا الضابط الا أن يقوم بالتحية العسكرية وأن يحمل لوالدي الحقيبة التي بها ملابسه ويوصله الى سجن الأجانب، حيث قمت بزيارته في اليوم التالي مع شقيقي محمد وأخبرنا أن بالسجن عدداً كبيراً جداً من رجال السياسة والفكر والصحافة - ثم نقل بعد ذلك الى السجن الحربي حيث وجد الأميرالاي أحمد شوقي وعدد من ضباط الاخوان المسلمين مثل عبد المنعم عبد الرؤوف ومعروف الحضري وأبو المكارم عبدالحي وحسين حموده، وكانت الفوضى متمثلة في اعتقال الاخوان الى الحد الذي كانت ادارة السجن توزّع على المعتقلين أوراقاً لتسجيل أسمائهم وتاريخ حضورهم، وقد أمضى والدي سنة وشهراً في السجن الحربي، وفي هذه الفترة عاصرت التعذيب الشديد الذي وقع على قيادات الاخوان المسلمين وأعضاء جماعتهم، وكنت أزوره كل أسبوع فكان يقصّ علينا ما يحدث من أبشع أنواع التنكيل ما فاق كل تصوّر وما لا يتصوره عقل. وفي احدى هذه الزيارات لوالدي بالسجن الحربي بعد أن اعترف أعضاء الجهاز السري بأسماء زملائهم وبالتنظيم قائلاً وتم القبض على جميع الأعضاء وكان الناس يلومون القيادة لهذا الاعتراف، قال أبي انه رأى بنفسه العذاب الشديد الذي وقع على هؤلاء القادة من الجلد الذي كان يتطاير فيه لحمهم الى اطلاق الكلاب التي تنهشهم الى سحلهم بالخيل، ولم ينطقوا بحرف واحد ولم يعترفوا الى أن جاؤوا بزوجة (هنداوي دوير) وكان شاباً صغيراً وكانت زوجته ببلدتها لتضع مولودها فأتوا بها الى السجن الحربي وخلعوا ملابسها أمامه ووضعوها على العروسة وقالوا له أنهم سيفعلوا معها ما فعلوه به، فطلب منهم أن يرجعوها الى بلدتها وقام بالاعتراف الكامل على النحو المعروف بعد ذلك. وفي آخر كل زيارة لأبي في السجن الحربي كان يعطينا كيساً كبيراً به عدد كبير من الخطابات التي كتبها المعتقلون الى ذويهم لكي أرسلها عن طريق البريد حتى يعرفوا مكان الاعتقال...».
بعد ذلك تم القبض على زوجة يوسف صديق توحيدة صبري ووجهت لها تهمة حيازة منشورات شيوعية ثم أعادوها بنفس المنشورات الى البيت حيث أخطأوا فقد كانوا يقصدون الزوجة الثانية ليوسف صديق علية توفيق.
في مايو سنة 1955 أفرج عن يوسف صديق وتقرر تحديد اقامته في منزله بحلمية الزيتون الى أن أفرج عن علية توفيق فذهب ليعيش معها وأولادها حسين ونعمت في عزبة النخل مع استمرار تحديد اقامته الى أن وقع العدوان الثلاثي سنة 1956 فقاد يوسف صديق المقاومة الشعبية في عزبة النخل، ورفعت بعد ذلك الحراسة عنه لكن لم يسمح له بالعمل في أي مجال من المجالات المدنية أو الأدبية حيث رفضت جميع الطلبات التي تقدم بها للعمل سواء مديراً لدار الكتب المصرية أو أن يرشح نفسه في مجلس الأمة عن محافظة بني سويف. ولم يدع مرة واحدة لحضور احتفالات ثورة يوليو.
في صيف 1970 أمر الرئيس عبدالناصر بسفر يوسف صديق الى الاتحاد السوفياتي وكان يعاني من مرض السكر وارتفاع الضغط ولغط في القلب.
تقول سهير «في أثناء فترة العلاج وفي يوم 28 سبتمبر سنة 1970 توفي الرئيس جمال عبدالناصر وتولى الرئيس أنور السادات الحكم في البلاد، فأرسل والدي من موسكو برقية عزاء للرئيس السادات وفي نفس الوقت تأييداً له في الرئاسة كما كتب قصيدة رثاء في جمال عبدالناصر بعنوان «دمعة على البطل» نشرت في ذكرى الأربعين للرئيس جمال عبدالناصر.
وابتداء من هذا الوقت أخذ المرض الذي عانى منه طيلة حياته يعاوده، وظل يقاوم المرض والألم خمس سنوات، وأجريت له عملية استئصال للرئة اليسرى في لندن لاصابته بسرطان الرئة، حتى سقط يوم 31 مارس سنة 1975 بعد نقله من منزله بالمهندسين الى مستشفى القوات المسلحة بالمعادي حيث كان في غيبوبة... وفي 1 /4 /1975 شيعت جنازة البطل يوسف صديق عسكرياً.. وكتب الشاعر الكبير كمال عبد الحليم أبياتاً نُحتت على رخامة قبر يوسف صديق تقول:
ها هنا يرقـد مـن أيقظـنا
وافتدى مصر بصدر ينزف
ها هنا فارسـنا شــاعرنا
رافع الرايات حمرا يوسـف
فالى يوم حساب صــادق
سيظل الشعب عيناً تـذرف
في الحلقة المقبلة
• الضباط الأحرار كانوا يهتمون بشأن عائلة صديق لدرجة أنه قال في احدى رسائله لابنه: اشكر الأخ اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية على عنايته بك أثناء مرضك في غيبتي.
• يراسل زوجته من الاسكندرية: سنبدأ شهر العسل عندما تأتي الى هنا... فكل ما مضى لا أعترف به... أنت الآن خطيبتي وموعد زفافنا أول يوليو 1936 لا 4 أبريل 1935