| بقلم الدكتور وليد التنيب |
قرار الذهاب إلى السوق اتُخِذ منذ الأمس... جميع أفراد الأسرة أبدوا موافقتهم على الخطة وإن كان الأصغر سناً بين أولادي أكثرنا موافقة وتشوقاً للذهاب إلى السوق...
كنت قد وعدت أبنائي بزيارة للسوق الوطني في وسط البلد.
ابنتي الكبيرة كانت أقلنا لهفة للذهاب إلى هذا السوق... يبدو أنها من عشاق الأسواق الجديدة والمولات...
أما ابنتي الصغرى فيبدو أنها تعاطفت مع أختها وأبدت عدم موافقتها على الذهاب إلى هذا السوق بكل صراحة.
يبدو أن صغر سنها جعلها تتكلم بكل صراحة يحسدها عليها كل السياسيين في البلد الذين مللنا من تصريحاتهم المجحفة بحق المرأة في هذه الدولة الجميلة.
مسكينة المرأة... فالمرأة هي عدوها الأول متى ما ارتقت بالمناصب...
إذاً ابنتي بأفضل حال من الكل بسبب صغر سنها...
رضخ الجميع كالعادة وذهبنا إلى السوق الوطني وإن كان يبدو لي من تعابير وجوه البنات أنهن غير سعيدات... ولكنني أملت نفسي أن تزيل أجواء السوق الغضب والممانعة.
داخل السوق كانت الأجواء ممتعة بالنسبة إليّ، فأنا أعشق كل ما هو قديم وأحاول أن أقنع أولادي بجمال القديم.... قليلاً أنجح وغالباً لا أنجح، ولكن المهم أن الاستسلام لا مكان له عندي.
فجأة نبهتني ابنتي الكبرى إلى أن أخاها الصغير قد ضاع... هكذا قالت وهي قلقة من ضياع أخيها الصغير.
خطة سريعة مني بأن ينتشر الجميع للبحث عن جاسم ابننا الصغير... مع أمر شديد اللهجة بالعودة إلى نقطة الانطلاق بعد ربع ساعة.
ذهبت أنا إلى الناحية الشرقية من السوق بحثا ًعن ابني جاسم، وفي طريقي شاهدني صديقي المهندس عماد الذي يعمل معي... سألني عن سبب سرعتي وقلقي... أخبرته بأني أبحث عن ابني جاسم الصغير السن الذي افتقدناه...
لم يعرني أي اهتمام وأخذ يحدثني عن مشاكل العمل والظلم الذي وقع عليه من المدير وأنني يجب أن أقف إلى جانبه بمشاكله مع المدير.
حاولت أن أنهي الموضوع فقلبي يحترق على جاسم... لم يفهم عماد وأكمل حديثه عن مشاكله مع العمل وتخطي الكل لأحقيته بالترقيات وسوء معاملة الإدارة له...
صارحته بصوت عال وبنبرة حادة أنني أبحث عن ابني الضائع...
ولست بحال يسمح بنقاش مشاكل العمل وإن كان يرغب في مساعدتي بالبحث عن ابني.... فاجأني بأن ابنه أيضاً ضائع وأن الخادمة تبحث عنه.
لم أستوعب مقدار حب عماد لابنه، فتركته وأدرت ظهري باحثاً عن ابني الضائع.
اتجهت بعيداً عن عماد وشاءت الصدف أن أقابل جارنا سالم الضابط في الشرطة...
بادرني سالم بالسؤال عن سبب توتري... فأخبرته بقصة ضياع ابني الصغير... لم يعرني أي اهتمام وأخذ يشتكي من إمام مسجدنا في المنطقة وكيف أنه يطيل بالصلاة وأحياناً لا يأتي والفرّاش البنغالي هو الذي يصلي وأن الفرّاش لا يجيد اللغة العربية... وأنه (سالم) وبقية الجيران بصدد تقديم الشكوى الخامسة على هذا الإمام، لافتاً إلى أنني يجب أن أشاركهم...
أخبرت سالم بأني قلق على ابني الضائع... فرد قائلاً إن ابنه أيضاً ضائع والخادمة تبحث عنه!
هنا لم أتمالك أعصابي وأدرت ظهري لسالم لأتركه مع مشاكل المسجد...
ازدادت نبضات قلبي قلقاً وحباً بابني المفقود وأسرعت الخطى بحثاً عنه... وصادفت قريبي المدرس سلطان الذي طرح عليّ السؤال الممل: «لماذا أنت مستعجل؟».
أخبرته بأن ابني الصغير ضائع وأن قلقي عليه قد زاد بسبب طول مدة الضياع...
لم يهتم سلطان لضياع ابني واسترسل متكلماً وهو غاضب عن أوضاعه في المدرسة، وعن أن الناظر يكلفه بجدول دراسي أكثر من بقية المدرسين...
حاولت أن أرد، ولكنه أكمل قائلاً إن كنت على معرفة بالناظر لأتوسط له... أخبرته بأن ابني ضائع وأنا قلق جداً ولست مستعداً لهذا الحديث الآن... استغرب ورد قائلاً إن ابنه أيضاً ضائع وأن الخادمة تبحث عنه... ازداد استغرابي مما رد به سلطان وتركته كما تركت غيره وأكملت البحث عن ابني.
بعدها صادفت صديقي بالديوانية الطبيب أحمد... أخبرته بأن ابني ضائع وأنني أبحث عنه... رد عليّ بألا أقلق وأخذ يتحدث عن كادر الأطباء والظلم الذي وقع عليهم وأنهم يجب أن يكونوا صاحبي الرواتب الأعلى في البلد، وأبدى اعتراضه على أن بقية الكوادر جعلت رواتب الكل مثل رواتب الأطباء.
أخبرته بأن ابني ضائع ولست مهيأ لهذا الحديث الآن... رد بكل برود أن ابنه أيضاً ضائع والخادمة تبحث عنه!
لم أحتمل الموقف وصرخت بأعلى صوت لي... صوت أسمع كل من في السوق من القهر الذي في داخلي...
نعم صرخت منادياً باسم ابني وأسمعت السوق كله.
وأتبعتها بجملة بأعلى صوت عندي تمنيت لو أن صوتي يسمع في البلد كله... جملة بأعلى صوت: «إن كان ضياع أبنائكم لم يهمكم، فكيف ستهتمون بضياع البلد ومستقبل البلد؟».