| بيروت - من ريتا فرج |
تحتفل قوى 14 آذار بالذكرى الثامنة لـ «ثورة الأرز» وسط تحديات خارجية وداخلية، و«مطبات» داخل «بيتها السياسي» كتحالف بدا تجانُسه وكأنه... على المحكّ. وإذا كان مشروع قانون «اللقاء الارثوذكسي» للانتخاب كشف عن «النتوءات» بين مكونات 14 آذار، فإن التصدّع وإن تصوّره البعض عرَضياً، لم يكن وليد اللحظة الراهنة. فثمة تعثرات مرت بها هذه القوى في المراحل السابقة، بعضها «ذاتي» ويتصل في جزئه الأكبر بعدم بلورة إطار تنظيمي جامع وبعضها الآخر يتّصل بالصراع الداخلي الذي جعلها على مدى ثمانية اعوام تتعرّض لـ «خسارات» متتالية سواء بالاغتيالات التي طاولت رموزاً فيها او بالتسويات التي لم تُحسن إدارتها وصولاً الى العام 2011 حين وجدت نفسها للمرة الاولى خارج السلطة بعد الانقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري، قبل ان يأتي الاستحقاق النيابي المقبل ويظهّر ملامح «صراع أحجام» بين أطرافها كاد ان يلامس «الخطوط الحمر» المتمثلة بـ «فكرة» 14 آذار العابرة للطوائف.
والى جانب الاستحقاقات الداخلية، تواجه 14 آذار متغيرات اقليمية تأتي في طليعتها الثورة السورية. وأضاف هذا التقاطع بين المحلي والخارجي مزيداً من التعقيد على سيناريوات المواجهة المقبلة. وتُطرح على 14 آذار ملفات متداخلة: الملف السوري وانعكاساته على الداخل، الصراع السني - الشيعي في المنطقة وامتداداته الداخلية، طفرة الحركات السلفية في لبنان، وغيرها الكثير.
وتحلّ الذكرى الثامنة «لانتفاضة الاستقلال» على وقع أسئلة ملحة برسم قوى 14 آذار التي أمامها امتحانات داخلية وإقليمية تتطلب التعامل بعقل هادئ يتخطى السجال السياسي. وربما تحتاج في الدرجة الأولى الى إعادة تكثيف لغتها الوطنية التي تخاطب كل عقول اللبنانيين.
في احدى المقابلات التي أجرتها «الراي» مع المؤرخ اللبناني أحمد بيضون قال ما حرفيته: «حركة 14 آذار 2005 في لبنان أعطت انطباعاً استمرّ مدة من الزمن، بتجاوز معين لدواعي الانقسام العمودي في المجتمع اللبناني، وذلك في اتجاه التوحد حول الأهداف التي طُرحت، وكان أهمها إنهاء الوصاية السورية على البلاد، وكشف الحقيقة في ما يتصل باغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. هذا الانطباع بحصول نوع من التغيير في أساس التعبير السياسي وصيغة الالتقاء عليه لم يلبث أن أخذ يتبدد، وقد تبدد اليوم تماماً بل انقلب الى عكسه. الخطوط الطائفية للخريطة بارزة اليوم بقوة لا مثيل لها على الضفتين... بدا في وقت ما أن ثمة شيئاً اسمه «14 آذار» أو «ثورة الأرز»، وبدا هذا الشيء وهّاجاً الى حد نسي معه مَن تحدث باسمه أسماء قادته ونسي أيضاً وجود شيء آخر، مقارب لـ «14 آذار « في الحجم ومقابل له في الغاية هو «8 آذار». اليوم لا يزال قائماً امكان التقويم غير المتساوي ظرفياً أو مرحلياً للغايات والأهداف بين الطرفين».
ومع تشديد بيضون في المقابلة الثانية معه (25 ديسمبر 2011) على حال السأم «الذي يزداد انتشاره في الرأي العام اللبناني» بسبب هذا التخنْدق «وشدة العصبية» بين قوى 14 و 8 آذار، لم يمرّ وقت طويل حتى «استيقظت» عصبيات من نوع آخر مذهبية، سنية شيعية، اضافة الى القلق المسيحي، الامر الذي يضع قوى 14 آذار أمام استحقاق التصدي لهذا المناخ باستنهاض الخطاب الوطني الذي يتجاوز الطوائف تماماً كما فعلت قبل ثمانية اعوام وإما تفقد «مبرر» وجودها.
وفي الذكرى الثامنة لانتفاضة «الاستقلال الثاني» تفتح «الراي» ملف قوى 14 آذار في لحظات مفصلية يمر بها لبنان والمنطقة وتسأل: هل فشلت 14 آذار في إرساء خطاب وطني بسبب الصراع على السلطة؟ أين أخفقت؟ وما الذي حقّقته في التجربة الماضية؟ بدت 14 آذار في لحظة مناقشة قانون الانتخاب وكأنها أصيبت بتصدعات حقيقية. فهل خسرت وحدتها؟ ماذا عن الصراع السني - الشيعي؟ ولماذا لم تفلح 14 آذار في مخاطبة المكون الشيعي المدني؟ هل تعكس فورة السلفيين في لبنان تراجع «تيار المستقبل» كمشروع يقدم نفسه ممثلاً للاعتدال السني أم ثمة أسباب أخرى؟ وهل تحتاج الى مراجعة نقدية تمكنها من استرداد اللحظة الوطنية التي سجلتها قبل ثمانية اعوام؟
هذه الأسئلة وغيرها حملتها «الراي» الى كل من النائب السابق القيادي في 14 آذار سمير فرنجية، النائب والوزير السابق محمد عبد الحميد بيضون، وأستاذ دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأميركية في باريس زياد ماجد.

 محمد عبد الحميد بيضون : دخول «14 آذار» في التسويات  مع «حزب الله» و«أمل» ... أضعف المكون الوطني الشيعي 

أشار النائب والوزير السابق محمد عبد الحميد بيضون الى أن دخول قوى 14 آذار «في التسويات مع «حزب الله» وحركة «أمل» أدى الى إضعاف المكوّن الوطني داخل الطائفة الشيعة»، لافتاً الى أن هذه القوى «لم تتعامل في شكل ايجابي مع الشيعة، ولم تفتح الباب في الاساس أمامهم وهي تفتقد للهيكل القيادي والمشروع التنظيمي».
وشدد بيضون على أن «اختراق الثنائية الشيعية يتطلب تأمين مشروع وطني يفرض على الدولة إنهاء كل المظاهر الشاذة وخصوصاً الطابع الميلشياوي».
• لماذا لم تستطع 14 آذار في الفترة الماضية بناء الثقة مع المكّون الشيعي؟
- لم تتبن قوى 14 آذار إطاراً قيادياً موحداً، وقد طرحت في السابق فكرة إنشاء مجلس وطني يتألف من 300 عضو، ولو أُنجز هذا الطرح لأمكن أن يكون هناك 60 الى 70 شخصية من المكوّن الشيعي المدني، ما يؤدي الى إعطاء صورة أفضل بكثير عن 14 آذار وعن علاقة الشيعة بها. ثمة نقطة أخرى لم تسمح بتأسيس علاقات متينة، إذ ترددت قيادات 14 آذار في التعامل مع الشيعية السياسية، وما أقصده أنه في الوقت الذي كانت قوى 8 آذار ضعيفة الى حد ما، كانت 14 آذار مهادِنة وأحياناً راضخة للشيعية السياسية، وقد أدى الدخول في التسويات مع «حزب الله» وحركة «أمل» الى إضعاف المكوّن الوطني داخل الطائفة الشيعة. هذه المساومات وهذا الاذعان للشيعية السياسية بلا مردود جعل قوى 8 آذار في الموقع الأقوى خصوصاً بعدما تمّ إخراج سعد الحريري من الحكومة.
• ثمة وجهة نظر تقول إن قوى 14 آذار استخدمت بعض الشخصيات الشيعية المستقلة في سياق صراعها مع «حزب الله» وحركة «أمل». ما رأيك في ذلك؟
- لا تمثل الشيعية السياسية الشيعة بل تمارس عملية التسلط على الشيعة. الطائفة الشيعية قاعدتها وطنية، وليست مذهبية. يحاول «حزب الله» وحركة «أمل» أخذ الطائفة نحو المذهبية عبر ثلاثية التخويف والترهيب والفساد. وهذه الثنائية غارقة بالفساد كأداة للترغيب والسلاح كأداة للترهيب. القاعدة العامة للطائفة الشيعية وطنية وليس لها علاقة بالمذهبية. لم تستطع قوى 14 آذار التعاطي بشكل ايجابي مع الشيعة، ولم تفتح الباب في الاساس أمام المكوّن الشيعي، وهي تفتقد للهيكل القيادي والمشروع التنظيمي.
• ما الذي يمنع قوى 14 آذار من اتخاذ خطوات جدية لاحتضان المكون الشيعي المدني؟
- مكونات 14 آذار الاساسية كانت مهتمة أكثر بقواعدها الشعبية، ولم تنفتح على ما هو خارجها. وقد حذرنا مرات عدة من أن قوى 8 آذار الممثَّلة بالثلاثي «حزب الله» و(الرئيس نبيه) بري و (العماد ميشال) عون، تعمل على بناء تحالف أقلّوي مذهبي له امتداده الاقليمي. وقلنا إذا كانت 8 آذار تجمع مذهبيات فعلى 14 آذار بناء مشروع وطني، خصوصاً إذا قاربنا المشروع الوطني من المشهد الذي سجّله اللبنانيون إثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري، فهذه اللحظة كانت عابرة للطوائف والمذاهب لكنها لم تُستثمر بالشكل المطلوب. ثمة نوع من التجاذب حول المكوّن الشيعي لدى 14 آذار فهي تسير مثلما قال لينين خطوتين الى الأمام وخطوة الى الوراء.
• لماذا عجزت قوى 14 آذار عن اختراق الثنائية الشيعية؟
- يتطلب اختراق الثنائية الشيعية تأمين مشروع وطني يفرض على الدولة إنهاء كل المظاهر الشاذة خصوصاً الطابع الميلشيوي الذي تعيش منه قوى 8 اذار، أي مشروع الوصاية على الدولة. لم تتمكن 14 آذار من استكمال مشروع بناء الدولة، كما لم تستكمل المواجهة وهي تعترف بأخطائها. على قيادات 14 آذار التعلم من تجربة الماضي والسير الى المستقبل بخطوات واثقة.
• هل تحتاج قوى 14 آذار الى مراجعة خطابها السياسي الموجَّه للطائفة الشيعية وسط الحديث عن تفاقم الصراع السني - الشيعي؟
- لا يمكن الحديث عن صراع سني - شيعي، فما يحدث في لبنان تعبير عن تصدي الغالبية للسياسة الايرانية - السورية التي تسعى الى اختراق النسيج الوطني في البحرين واليمن ولبنان وفلسطين ومصر. هكذا سياسات تحتاج الى مواجهات عربية وليس لبنانية، وقد طالبنا بمؤتمر تعقده جامعة الدول العربية، يوجّه رسالة واضحة لايران، ويقول لها، إذا اردتِ أن تكوني صديقة للعرب عليك التعامل الدول العربية من موقع دولة الى دولة. خطاب 14 آذار وطني، والشيعة يرتبطون بالخطاب الوطني، والمشكلة أن 14 اذار لم تنفذ ما تنادي به وربما يعود ذلك الى غياب الخبرة في التعاطي مع الشؤون السياسية وشؤون الدولة، بدليل أن 8 آذار استطاعت التلاعب بها عبر مناورة سخيفة خلال التصويت على قانون اللقاء الارثوذكسي المضاد للطائف.
• أشرتَ الى أن الثنائية الشيعة تعمل على خط مذهبي، هل ترى أن فورة السلفيين في لبنان تعكس الى حد ما تراجع «تيارالمستقبل» بزعامة الرئيس سعد الحريري كمشروع يقدم نفسه ممثلاً للاعتدال السني؟
- إن الأساس في تحرك التيارات السلفية سوري. ايران وسورية تخوضان الحرب الاهلية في العراق، وقد أعلن رئيس الحكومة نوري المالكي أن القيادة في دمشق ترسل سيارات مفخخة الى العراق. دعَم النظام السوري التيارات الاصولية في العراق وله دور كبير بخلق ما يسمى «فتح الاسلام»، بهدف تدمير الوضع اللبناني من الداخل. ليس للنظام السوري مصلحة بانتصار الاعتدال السني، لأن الاعتدال السني الذي هو على نموذج رفيق الحريري اذا نجح في لبنان سيطرح علامات استفهام كبيرة على الداخل السوري. وقد نفذ بشار الأسد خطته عبر تقليم أظافر 14 أذار وخصوصاً «تيار المستقبل»، وهذا القرار نُفذ حين أتى نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة. ويريد الأسد القول للعالم الخارجي وتحديداً الفرنسيين أن «تيار المستقبل» انتهى. التيارات السلفية لا تشكل قوة سياسية حقيقية وستبقى على هامش القوى الكبرى، والخطر على النظام السوري كان نجاح الحريرية السياسية. 

سمير فرنجية لـ «الراي»: على «14 آذار» إطلاق معركة «سلام لبنان» في مواجهة إيران وسورية

بكثير من الهدوء يتعامل القيادي في 14 آذار سمير فرنجية مع الملفات الشائكة، ويرى أن تعثر القوى المنضوية تحت عباءة 14 آذار لا يعود الى «الصاعق» الأرثوذكسي فحسب، اذ ثمة «صعوبات» تعرضت لها اثر «الهجمة السورية المضادة».
لا يقلل فرنجية من أهمية اجراء المراجعات النقدية، ويشدد على ضرورة «صوغ رؤية جديدة للمستقبل اللبناني» تنهض به قوى 14 آذار، معتبراً ان عليها اطلاق معركة «سلام لبنان» بمواجهة المحاولة الإيرانية - السورية لافتعال «مسألة شرقية» جديدة «يلعب فيها النظام الإيراني دور حامي الأقليات المسيحية والاسلامية».
• في الذكرى الثامنة لانطلاقة حركة 14 آذار ماذا بقي من تلك اللحظة التاريخية التي خرجت الى الضوء في 14 مارس 2005؟
- هذه اللحظة التاريخية أعطت الاشارة الأولى للربيع العربي، وهي تعاني الصعوبات نفسها التي يعانيها الربيع العربي، أي وجود مزيج بين الحداثة والتقليد في الحركة الواحدة، وهذا المزيج كان من الأسباب التي عرقلت حركة 14 آذار، يضاف اليها الهجوم المضاد الذي أطلقته سورية والذي تمثل بكل ما شاهدناه من اغتيالات.
ولا يزال عند الذين شاركوا في «انتفاضة الاستقلال الثاني» أمل كبير، ولسان حال الناس أن مَن استطاع في العام 2005 أن يحقق مطالب شعبه قد يتمكن عبر ادارة جديدة ومختلفة من أن يعيد الحياة الى ربيع لبنان.
• مع اطلالة 14 آذار على سنتها التاسعة بدت كأنها أمام تحدي الحفاظ على وحدتها السياسية. هل من خشية على هذا التحالف وأهدافه السياسية؟
- هناك انقسام حاد حصل بسبب ما سمي مشروع القانون الأرثوذكسي. هذا الانقسام بدا وكأنه بين أحزاب 14 آذار، ولكن ما هو أخطر من هذا النوع من الانقسام الشعور العام بأننا مع هذا الطرح نتخلى عن ماهية 14 آذار التي تجسدت في اللقاء الاستثنائي الاسلامي - المسيحي الذي طوى صفحة الحرب وأسس لمرحلة جديدة. مشروع اللقاء الارثوذكسي أعادنا الى لحظة الحرب وأعادنا أيضاً الى مرحلة ما قبل قيام لبنان الكبير العام 1920. هذا المشروع اذا تمّ الأخذ به ستكون له نتائج مدمّرة. ثمة محاولات اليوم لاعادة ترميم 14 آذار لكن المسألة تحتاج الى صوغ رؤية جديدة للمستقبل اللبناني في ظل ما هو حاصل في العالم العربي وهذه الرؤية لم تكتمل بعد.
• في الاطار السياسي - الاجتماعي لم تنجح 14 آذار في أن تتحول حركة وطنية مكتملة النصاب قادرة على احتضان المكوّن الشيعي. لماذا؟
- ارتُكبت أخطاء بحق القوى الوطنية الشيعية التي لعبت دوراً مهماً في اطلاق انتفاضة الاستقلال في العام 2005 والتي هُمشت في ما بعد تحت عنوان الحلف الرباعي الذي خاض انتخابات 2005. أما الخطأ الثاني فهو القبول بهذا التطابق بين الطائفة الشيعية و«حزب الله» الذي يدّعي تمثيلها.
في لحظة ما، اعتبرنا أن هذه الطائفة يختزلها حزب أو حزبان، وهذا خطأ جسيم ارتُكب أيضاً. في العام 2012 وفي ذكرى 14 مارس، قررنا تصحيح الخطأ والتوجّه الى الجميع بدعوتهم الى جعل سقوط النظام في سورية منطلقاً لبناء سلام لبنان وبشروط الدولة، ولم تترجم هذه الدعوة بخطوات عملية، ولم نُعد التواصل مع كل الفئات اللبنانية، وجاءت مشكلة قانون الانتخاب وأعادتنا الى الوراء.
• يؤخذ على 14 آذار أنها لم تنجح حين كانت في السلطة ولم تنجح كمعارضة. لماذا؟
- أطلقت 14 آذار حركة استثنائية في تاريخ لبنان حيث سعت الى بلورة هوية وطنية جامعة من طبيعة مختلفة عمّا عرفناه. حين كانت 14 آذار في السلطة، لم تحقق ما كان مطلوباً، ولكن المسؤولية لا تقع عليها فقط بل تقع أيضاً على القوى التي عرقلت عمل الدولة وأغلقت مجلس النواب وحاصرت وسط بيروت. تجربة 14 آذار في السلطة تعثرت بسبب ما يسمى قوى 8 آذار، كما أن قيادات 14 آذار لم تتمكن من تخطي منطق رد الفعل، وكان عليها بلورة رؤية مختلفة لما هو حاصل وخصوصاً بعد اندلاع الثورات العربية وتحديداً الثورة السورية، اذ استمر خطابنا محكوماً برد الفعل وليس بالفعل.
• ماذا بعد 14 مارس؟
- أعتقد أن من واجب 14 آذار أن تعود الى النص الذي وضعته منذ زمن وأن تخوض معركة سلام لبنان، وهذه المسألة ضرورية أكثر من أي وقت، لأن هناك محاولة إيرانية - سورية تريد افتعال مسألة شرقية جديدة يلعب فيها النظام الإيراني دور حامي الأقليات المسيحية والاسلامية في وجه تطرف سنيّ لا يتورّعون عن رعايته واستيلاده. هذه المسألة الشرقية المستجدة تشكل خطراً كبيراً على مستقبلنا في سورية ولبنان والعراق. لم يعد أمام النظام الإيراني من مبرّر لدوره في المنطقة العربية سوى ان يشجّع على الفتنة الشيعية - السنية التي تجعل منه لاعباً يمارس دور الحماية للأقليات في هذه البقعة من العالم العربي. وتحتاج مواجهة هذا المشروع وحماية السلم الأهلي في لبنان الى معركة أساسية تحت عنوان سلام لبنان، وهذا هو المطلوب من قوى 14 آذار ومن كل قوى الاعتدال السني والشيعي لأن مستقبل لبنان في هذه المرحلة المفصلية على المحك.
• يرى البعض أن صوت الاعتدال السني الأكثري الذي يمثله «تيار المستقبل» كأحد أطياف قوى 14 آذار يتراجع لمصلحة أصوات سلفية متشددة. ما رأيك في ذلك؟
- تحالف الأقليات ضد الأكثريات هو الذي قادنا الى العنف سواء في لبنان أو خارجه. المطلوب اليوم تكثيف خطاب الاعتدال عند كل الطوائف اللبنانية ومن بينهم السنّة الذين يجب أن يكون لهم دور كبير في منع الانزلاق نحو الفتنة والمذهبية واعطاء صورة مختلفة عن الاسلام المعتدل، والعمل على بلورة طريق عربية نحو الديموقراطية، وهذا يتطلب رفض مقاربة الطائفة السنية بالمعنى القبَلي للكلمة، ورفض انجرار الشيعة وراء السياسة الإيرانية، عبر استعادة الدور الأساسي في الدفاع عن المظلومين ضد الظالمين في سورية. الاعتدال عند كل الطوائف هو الشرط الأساسي لحماية السلم الأهلي ومنْع الحرب الأهلية.
• وسط الحديث عن صراع سني - شيعي ما المطلوب من المسيحيين في لبنان؟
- أمام المسيحيين مسؤولية دفْع الأمور في اتجاه حماية العيش المشترك في لبنان كمقدمة لتعميمه على الدول العربية المجاورة كسورية وإيران والعراق، وعليهم أن يعيدوا الاعتبار لاتفاق الطائف كونه يقدم حلاً دستورياً للمجتمعات التي تتميّز بالتنوع كالمجتمع اللبناني والسوري والعراقي. ويتمثّل دور المسيحيين في بناء ثقافة السلام والعيش معاً في هذه المنطقة، لا في التقوقع واعتبار أنفسهم أقلية خاصة، والعمل على تعزيز بنى المواطَنة وتكثيف الحوار مع المكوّنات الدينية اللبنانية الأخرى.
• يبدو ان الملف السوري أمام السيناريو التالي اما الخروج بتسوية تجمع كل أطراف الصراع واما سقوط النظام. كيف تلاقي 14 آذار هذا التحول في الاتجاهين؟
- النظام السوري سيسقط، والسؤال ليس في بقائه أو عدم بقائه انما هل سيسقط بسرعة أم أن النهاية ستكون طويلة؟ بمعنى آخر انتقال سريع للسلطة أو السعي الى تحويل الصراع القائم الى حرب أهلية بين مكونات المجتمع السوري؟ لا شك في ان النظام يسعى الى ذلك وكذلك إيران و«حزب الله»، وخير دليل على ذلك الموقف الإيراني من الثورة السورية ومشاركة «حزب الله» في المعارك الجارية داخل سورية.
• ثمة خشية من انفجار الوضع اللبناني نتيجة الانقسام الحاد في مقاربة المعطى السوري. هل من شبكة أمان تحول دون امتداد «الحريق» السوري الى لبنان؟
- تحاول سورية نقل الأزمة الى لبنان. وما سمعناه من اعترافات الوزير السابق ميشال سماحة يؤكد ذلك، ولكن الأخطر من ذلك أن «حزب الله» بسبب دعمه للنظام السوري عسكرياً وقتالياً يريد جرّ لبنان بالقوة الى الأزمة السورية، ما يعني أنه يضع الشعب اللبناني في مواجهة الشعب السوري.


أستاذ دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأميركية في باريس يستعرض نجاحاتها وإخفاقاتها

زياد ماجد: معنى «14 آذار» ووظيفتها لم يعد قائماً
 
رأى أستاذ دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأميركية في باريس زياد ماجد أن قوى 14 آذار «جسّدت في مرحلتها الأولى المصالحة الوطنية بعد الحرب»، مستعيداً أهم الانجازات التي حققتها والإخفاقات التي وقعت بها.
وأكد ماجد أن «المبادرات التي فُرضت عربياً ودولياً على بعض مكوّنات 14 آذار لمصالحة النظام السوري (ولو موقتاً) قضت على معنى استمرارها».
• شكلت 14 آذار في مرحلة معينة حركة وطنية عابرة للطوائف استطاعت الحد من الشرخ العمودي بين اللبنانيين. لماذا كُسرت هذه الحلقة الجامعة؟ وهل فشلت قوى 14 اذار في إرساء خطاب وطني بسبب الصراع على السلطة؟
- كانت 14 آذار لحظة سياسية تأسيسية في لبنان. فهي جاءت نتيجة لاغتيال سياسي أطاح برئيس حكومة، ونتيجة لغضب متراكم من هيمنة النظام السوري المتّهَم بالجريمة، ونتيجة لخروج «حزب الله» وحلفائه دعماً لهذا النظام. وتأسيسيتها جاءت بهذا المعنى انطلاقاً من كونها أطلقت مساراً جديداً يعدّ التحرّر من الهيمنة المخابراتية السورية استقلالاً ثانياً، ومقدّمة لعقد سياسي جديد بين اللبنانيين.
لكنّ 14 آذار كانت أيضاً لحظة انكشاف للقسمة اللبنانية المستجدّة بين أكثرية شيعية التفّت حول «حزب الله»، وأكثريات سنّية ومسيحية ودرزية و«مواطنية» التقت في «ساحة الشهداء» قبل أن تتراكم العوامل التي تفرّق بعضها.
أما «قوى 14 آذار» فقد كانت ترجمة سياسية تنظيمية للّحظتين، بتناقضهما. أي أنها كانت وعاء تنظيمياً يؤطّر معظم القوى التي تلاقت خلال تلك المرحلة. وهذا ما جعلها تحالفاً عريضاً كان «لقاء البريستول» قد وضع أسسه بعد تجربتيْ «لقاء قرنة شهوان» و«المنبر الديموقراطي». وكانت أيضاً «تحالفاً طوائفياً» لا يستطيع تجنّب معضلة التموْضع الشيعي ضدّه لا بل يكرّسها نتيجة تركيبته.
ثم راحت العوامل والتبدّلات الداخلية تضغط على الوضع الـ 14 آذار إن بسبب تمنّع قوى 14 آذار أو عجزها عن إسقاط رئيس الجمهورية الممدّد له (اميل لحود)، أو بسبب الانتخابات النيابية (2005) وما رافقها من «تحالف رباعي» ملتبس (جمَع الأطراف المسلمة في 14 آذار بالقوّتين الشيعيّتين حزب الله وحركة أمل)، أو بسبب الانشقاق العوني والوعي السياسي المأزوم الذي عبّر عنه، أو نتيجة الانكشاف على «الخارج» في لحظة صراعية إقليمية، أو بسبب نظام يفترض مقداراً من التوافقية في آليات سيره، وهو ما يعني التنازل السياسي في القضايا الخلافية والبحث الدائم عن التسووية بهدف توسيع المشاركة في المؤسسات.
كلّ ذلك، ترافق مع هجوم أمني للنظام السوري بواسطة الاغتيالات استهدف مثقّفين وقادة سياسيين ونواباً (ثم أمنيّين) جميعهم من معسكر 14 آذار، ما أوجد حالة إرهاب وضغط دائم في صفوف هذا المعسكر، جاء 7 مايو 2008 لتتويجها بعمل عسكري لحزب الله أنهى محاولات التسوية وفرض تبديلات سياسية (موقتة) بواسطة السلاح.
• هل تحتاج قوى 14 اذار الى مراجعة نقدية بعد مرور ثمانية أعوام على انطلاقة حركتها؟
- قد تكون إجابتي هنا مفاجئة. لكنني لا أظن الأمر ضرورياً، على الأقل منذ 2009. فمعنى 14 آذار ووظيفتها السياسية وما مثّلته في الاجتماع السياسي اللبناني لم يعد قائماً اليوم. وما قد يعيد إنتاج الصيغة التحالفية الـ 14 آذارية هو الانتخابات (إن جرت) والاستحقاقات الحكومية المقبلة ومصالح بعض القوى في التعبئة لمواجهة «حزب الله» وحلفائه. وهذا طبعاً مشروعٌ سياسياً، لكنّه يمكن أن يتمّ من دون أي مراجعة. أكثر من ذلك، فافتراض حاجة المراجعة افتراض في غير محلّه، إذ ان الثقافة السياسية لمعظم القوى المنخرطة في التحالف الـ 14 آذاري لا يمكنها أصلاً تقديم ما هو مختلف عمّا قدّمته. كما أن الكثير من القضايا السياسية المهمة في البلد، خارج مواجهة «حزب لله» والتيار العوني، صارت منطلق طلاق وخلاف بين الحلفاء، وصار من الضروري البحث عن فرز سياسي جديد وعن برامج تحالفية مختلفة للتعامل معها ولإخراج البلد من اصطفافين يبدوان عقيمين منذ سنوات.
• أين أخفقت قوى 14 آذار؟ وما الذي حقّقته في التجربة الماضية؟
- لنبدأ بالإنجازات. لا شك في أن 14 آذار جسّدت في أشهرها الأولى جانباً من معاني المصالحة الوطنية بعد الحرب، ولو أن بعض التطوّرات اللاحقة عدّلت سلبياً في ذلك. كما أنها حقّقت، نتيجة التعبئة الشعبية والضغط الدولي الذي رافقها (والذي لم يكن ممكناً بالضرورة لولاها)، الخروج العسكري السوري من لبنان. وجرى كذلك إقرار المحكمة الدولية في ما خص اغتيال الرئيس الحريري، وهذا كان من أبرز مطالبها. و14 آذار صمدت رغم الاغتيالات والترهيب. وحتى بعد الانقلاب العسكري عليها الذي قاده «حزب الله» بالنيابة عن نظام الأسد في مايو 2008، عادت 14 آذار وفازت بالانتخابات النيابية العام 2009.
أما الإخفاقات، فتمثّلت في المقاربات المتسرّعة للكثير من القضايا (من التحالف الرباعي الى المسألة العونية والاستخفاف بها وبأثرها السياسي - الطائفي)، وفي الخطاب السياسي ومصطلحاته التبسيطية، وفي المراهنة على المتغيّرات أو العناصر الخارجية واعتبارها كافية لحسم الصراع (التحقيق الدولي نموذجاً)، وفي الارتباك خلال حرب يوليو 2006 وعدم التمييز بين المعركة السياسية مع «حزب الله» وسبل التعامل مع بيئته الاجتماعية والمذهبية. كما أظن أن التعامل مع موضوع سلاح «حزب الله» كان تعاملاً فيه الكثير من الارتجالية، بدءاً بتلافي طرح إشكالياته العام 2005، الى اعتباره الموضوع شبه الوحيد الشائك ابتداء من العام 2006، وانتهاءً بما يشبه التيه والتخبّط في سبل التعامل معه بعد اتّفاق الدوحة العام 2008.
• لماذا فشلت 14 اذار في اختراق الجدار الشيعي كي تصبح حركة مكتملة النصاب؟
- يحيلنا هذا الأمر على ضرورة الحديث عمّا يمكن تسميته بالمسألة الشيعية في لبنان. وهي مبنيّة على ثلاثة عوامل رئيسية على الأقل.
الأول، مرتبط بظهور «شيعية سياسية» بدءاً من منتصف الثمانينات من القرن الماضي، متحالفة مع النظام السوري ومموَّل أحد طرفيها من إيران. وهذه الشيعية السياسية لم تحصل في اتّفاق «الطائف» على ما تظنّه حقّها السياسي دستورياً (إذ ظلّ «الطائف» في فلسفته أقرب الى صيغة الـ 1943 معدّلة، مع ما يعنيه الأمر من عقد ماروني سنّي تبدّلت وظائف الطرفين فيه). فعوّضت عن ذلك من خلال الممارسة والأمر الواقع. بمعنى أن أحد طرفيها (رئيس حركة أمل ورئيس المجلس النيابي) فرض نفسه عبر صيغة ما سُمّي بـ «الترويكا»، والثاني (حزب الله) فرض نفسه من خلال إمساكه بمقاليد الصراع العسكري مع إسرائيل وما يوفّره الأمر له من بناء جيش متكامل ومن ترجمة للتحالف مع إيران ومن تذرّع بالمقاومة لتبرير كل موقف. وهذه الشيعية السياسية رأت «مكتسباتها» مهدَّدة مع الانسحاب السوري من لبنان، فتموْضعت ضدّ المطالبين به.
الثاني، مرتبط بما أحدثتْه الصيغ الطائفية وممارسات النخب السياسية وقوانين الانتخاب على مدى عقود من تكريس للهويات المذهبية ومن تحوّلها منطلقاً للولاءات وللفعل السياسي. والثالث، وهو ربطاً بما سبق ذكره، يفيد أن الأكثرية الشيعية في لبنان وقعت في أزمة كبرى العام 2005. إذ أن الانكفاء السياسي السوري يعني انكشافها لحسابات داخلية كانت بمنأى عنها نتيجة إدارة دمشق للوضع اللبناني. وسلاحها، الذي تحوّل باعتقادها ضمانة للحفاظ على الوضع نفسه الذي سبق مارس 2005، لم يكن مقبولاً من معظم اللبنانيين الذين يرون فيه - عن حق - وسيلة ربْط للبنان باحتمالات الصدام الاسرائيلي - الإيراني، وما يشكّله الأمر من مخاطر.
ويمكن أن نضيف أن «حزب الله» الذي نجح في جرّ قوى 14 آذار الى القسمة التي أرادها، تمكّن بعد اتّفاقه مع التيار العوني من «فكّ الطوق» عنه ومن إثارة قضايا مثل «توطين الفلسطينيين» والخشية من «السلفية السنية» لتبرير سلاحه في بعض الأوساط المسيحية. ولم تكن ردّة فعل قوى 14 آذار بنفس المهارة السياسية، ولم تتمكّن خلال السنوات التي تلت ذلك من تعديل الوضع.
• بدت 14 آذار في لحظة مناقشة قانون الانتخاب وكأنها أصيبت بتصدعات حقيقية. الى أي مدى يمكن القول إنها خسرت وحدتها؟
- لم يكن الأمر مفاجئاً. وأكرّر القول إن معنى 14 آذار ووحدتها لم يعد ذات طائل منذ العام 2009. فالمبادرات التي فُرضت عربياً ودولياً وقتها على بعض مكوّنات 14 آذار لمصالحة النظام السوري (ولو موقتاً) قضت على معنى استمرار 14 آذار. وكذلك الانقلاب العسكري - السياسي الذي تعرّضت له مطلع العام 2011 والذي أخرجها من السلطة التنفيذية. أكثر من ذلك، جاءت الثورات العربية، وآخرها الثورة السورية المستمرة، لتظهر أيضاً عجز قوى 14 آذار عن أيّ مواكبة للتحوّلات. ثم ما إن طُرحت قضايا الانتخابات وقوانينها حتى انكشفت الأولويات الطائفية المختلفة لدى هذه القوى. فالمزايدات التي أطلقها التيار العوني جذبت إليه - نتيجة ثقافة مشتركة أو نتيجة الخشية من الظهور بمظهر أقل تشدّداً وحرصاً طائفياً - معظم القوى المسيحية في 14 آذار. كما أن الأداء المرتبك لتيار «المستقبل» والحملة المرتجلة والفاشلة المطالبة باستقالة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بعد اغتيال اللواء وسام الحسن (الذي كان ضربة أمنية وسياسية موجعة جداً للبنان عامة ولقوى 14 آذار خاصة) أضرّت بتماسك المعسكر، وأعطت مؤشراً محبطاً لجمهورها. ولا ينبغي أن ننسى أن خروج وليد جنبلاط من 14 آذار أفقدها بُعداً أساسياً، كان «قيمة مضافة» لها على خصومها الـ 8 آذاريين...
• في ظل الحديث عن صراع سني - شيعي في لبنان والعالم العربي، ما المطلوب من قوى 14 اذار في سبيل الحد من تداعيات هذا الصراع؟ وهل استنادها لخطاب وطني عابر للطوائف يمكن أن يؤدي الى تخفيف الاحتقان المذهبي؟
- تحتاج القوى السياسية جميعها في لبنان، بما فيها 14 آذار، الى تقليص رقعة التوتّرات والاستفزازات المتّصلة بالشأن المذهبي. ويمكن طبعاً لكل خطاب وطني ولكل سلوك يخفّف من حدّة الاحتقان أن يكون مفيداً.
لكنني لا أظن أن هذا الأمر سيكون ممكناً. فانخراط «حزب الله» في المعركة التي يخوضها نظام الأسد ضد الثورة السورية هو مدعاة استثارة مشاعر مذهبية حادة، في سورية كما في لبنان. وتقدُّم الحضور السلفي السنّي في بعض المناطق اللبنانية صار ردّاً «شبه طبيعي» - وخطير - على سلوك «حزب الله» وخطابه.