في آخر لقاء بيني وبينك، تمنيت عليّ أن أطلب من أحد الزملاء الذي قدم للسلام عليك ألا يقبلك لان الأطباء قرروا أن المناعة تحتاج إلى أقل قدر من التماس المباشر مع الآخرين. وعندما فعلت ما طلبته مني فوجئت بك تتقدم أنت وتقبله لأنك شعرت بأنه أحرج كثيرا. قلت لي يومها: «كيف أصد الناس عني وهم فعلا يشتاقون إليّ وأنا أشتاق لهم»... وكشفت لي أن الالتزام بقرار الأطباء في هذه الجزئية كان صعبا في الكويت.
أحمد الربعي... يومها تحدثت عن كل شيء إلا عن مرضك. كان مرض البلاد أهم لديك من أي شيء آخر. اتهمتك بالمبالغة في التفاؤل وجعله شعارا لك فوجدتك تتمسك أكثر بالشعار رغم ان تشخيصك الدقيق لما تمر به الكويت لا يحتوي على أي عنصر من عناصر التفاؤل. الأمل كان سلاحك والحوار مذهبك والتواصل طريقك والتحضر هويتك.
صقلتك التجربة صغيرا مستفيدة من نباهة مبكرة وقدرة حركية مبهرة. كان شبابك يموج في الساحات تحركه الحماسة الوطنية والمشاعر القومية. شباب لا يعترف بالحواجز والحدود. شباب مقهور من ظلم العالم لنا ولقضايانا العادلة. شباب مستعد للعبور إلى آخر الشطآن وحرق المراكب كي لا يفكر بالعودة إذا أشعره ارتفاع الموج بالخوف أو القلق... وأنّى لمثلك ان يشعر بالخوف أو القلق وقد دفعته الرياح بعيدا في آفاق التمرد.
وبقدر ما قادتك حماستك إلى التمرد على ظلم العالم لنا بقدر ما قادتك رؤيتك إلى التمرد على ظلم الكويتيين والعرب والمسلمين لأنفسهم من خلال الإقبال على الشعارات والتنظير والتواكل والشكليات والمظاهر من جهة، والادبار عن العلم والتطور والاقتصاد والنجاح والتنمية من جهة أخرى. صدقت مع نفسك وكنت النموذج والمثال وارتقيت أعلى الدرجات العلمية وبذلت كل طاقاتك في نقل خلاصة ما وصلت إليه علمياً وسياسياً إلى أجيال شابة ما زلت بالنسبة لها الرمز.
كنت أسألك عن التفاؤل رغم الإحباط الذي انتاب التجارب الثورية لجيلك، وتجاربك الخاصة في السلطة والمعارضة، وكان يشاركنا السؤال و«المشاكسة» شيخ الإعلاميين محمد السنعوسي خلال الإعداد للبرنامج الذي قدمتماه معا على «الراي». وكان إصرارك غريباً على أن الخير يجر الخير، وكان إيمانك عجيبا بأن الشعوب العربية لابد ان تتحرك وتتغير، وكان قلقك كبيرا من أن تتراجع الكويت في الوقت الذي يتقدم الآخرون إلى ربع ما كانت عليه... وعندما نسألك كيف تكون قلقا ومتفائلا في الوقت نفسه كنت تلجأ إلى سلاحك الشهير في الحوار: «اذا كنتما تريدانني أن أتشاءم فليكن... أكملا النقاش من دوني»، لكن النقاش كان ينتهي هنا خصوصا عندما يشعل السنعوسي سيجارة فتنتفض رحمك الله وتقول مازحا: «طبعا متشائم لان أمة يدخن فيها من يفترض أنهم قدوة هي أمة ستحترق». تغادر المكتب وانت تقول: «وصيتي إليكما أن تتركا التدخين وتكثرا من التفاؤل».
ثائرا وناشطا سياسيا واستاذا جامعيا ووزيرا ونائبا... كنت نفسك حتى وانت تتحدث عن ندم هنا أو حسرة هناك. أدركت قبل غيرك سر «الخلطة» في الكويت، وان الحوار سيد الأصوات مهما ارتفعت، وان التواصل جسر المستقبل مهما تقطعت المواقف والشوارع والمناطق، وان غياب الانجازات الحقيقية يخلق فراغا يملؤه شعبويون وهامشيون وعاجزون. أدركت قبل جميع وزراء التربية العرب ان بقاء المناهج كما هي عليه تدمير للحاضر والمستقبل، وانها ستخرج «كوكبة» من المتطرفين والظلاميين والطائفيين الذين رضعوا من صفحاتها كره الآخر وتكفير الناس واعتماد العنف وسيلة للتخاطب.
هوجمت كثيرا ومن هاجمك عرف ايضا سر «الخلطة». فبالحوار والمنطق واللغة المتحضرة المتزنة انت المنتصر دائما لذلك كان لا بد من نقلك خلال السجالات إلى مناطق أخرى تشبه اصحابها في كل شيء ولا تشبهك في شيء. هنا كان الدعاء بالهداية سلاحك والتخلي عن المنصب درسا. بل كانت العودة إلى مقالك وجامعتك وطلابك وديوانيتك و«ربعك» عودة لنا نحن الذين كنا نخسر بانشغالك الرسمي.
كنت حكيماً في المعارضة، لم تبحث عن حشود و«هتيفة». لم تتحدث يوما بلغة طائفية او مناطقية أو رجعية او متخلفة. لم يعرف التمييز طريقا الى تفكيرك والعنصرية مدخلًا الى مشاعرك. لم تخن شعاراتك ولم تبع مواقفك عند اول تسوية شخصية. ادركت ان لا مدخل الى التغيير غير التوافق وان بناء الحواجز بين الحكم والناس او بين الطوائف والمذاهب او بين المناطق والمناطق سيأخذ الكويت الى مكان آخر غير... الكويت.
وكنت حكيماً في السلطة. علمت ان القوة والهيبة والمكانة هي في التقرب من الناس لا في التعالي عليهم، وفي التسامح لا في الحقد، وفي المرونة لا في التشدد، وفي سباق الآخرين على اجتراح الحلول واطلاق المشاريع وقيادة التنمية، وفي تطبيق القانون ومحاربة الفساد بلا هوادة... ويبقى ما كنت تكشفه لنا عن «ليالي السكاكين» الوزارية الطويلة لأمانات المجالس، ويكفيك ما قلته يوما في مجلس الوزراء من ان على الوزير ان يواجه خمسين عضوا في وجهه لكنه لا يعلم كم وزيرٍ في ظهره عليه ان يحذر منهم.
اليوم الذكرى الخامسة لرحيلك يا ابا قتيبة. وجه لا يغيب. لا ينسى. افضل المحامين عن الكويت في ازماتها. مستوى عالمي من الحضور في الفضائيات والمنتديات الاعلامية والحوارية يخشى من هم دون المستوى مقارعته. نعود اليك عندما نتعب. نعيد قراءة ما كتبته وما قلته وما توقعته وكأننا في لقاء دائم لا تفرقه المسافات.
في اللقاء الاخير قلت لي: «كيف اصد الناس عني وهم فعلا يشتاقون اليّ وانا اشتاق لهم»... الاماكن كلها مشتاقة لك يا ابا قتيبة وليس الناس فقط، والكويت من اكثر هذه الاماكن حسرة على رحيلك.
تبقى نقطة اخيرة، اوصيتني بترك التدخين والتفاؤل، وانا نفذت الجانب الاول من وصيتك وتركت التدخين منذ سنوات. اما التفاؤل... فسامحني يا أحمد... سامحني... ما تعودت أن أكذب عليك.
جاسم بودي
أحمد الربعي... يومها تحدثت عن كل شيء إلا عن مرضك. كان مرض البلاد أهم لديك من أي شيء آخر. اتهمتك بالمبالغة في التفاؤل وجعله شعارا لك فوجدتك تتمسك أكثر بالشعار رغم ان تشخيصك الدقيق لما تمر به الكويت لا يحتوي على أي عنصر من عناصر التفاؤل. الأمل كان سلاحك والحوار مذهبك والتواصل طريقك والتحضر هويتك.
صقلتك التجربة صغيرا مستفيدة من نباهة مبكرة وقدرة حركية مبهرة. كان شبابك يموج في الساحات تحركه الحماسة الوطنية والمشاعر القومية. شباب لا يعترف بالحواجز والحدود. شباب مقهور من ظلم العالم لنا ولقضايانا العادلة. شباب مستعد للعبور إلى آخر الشطآن وحرق المراكب كي لا يفكر بالعودة إذا أشعره ارتفاع الموج بالخوف أو القلق... وأنّى لمثلك ان يشعر بالخوف أو القلق وقد دفعته الرياح بعيدا في آفاق التمرد.
وبقدر ما قادتك حماستك إلى التمرد على ظلم العالم لنا بقدر ما قادتك رؤيتك إلى التمرد على ظلم الكويتيين والعرب والمسلمين لأنفسهم من خلال الإقبال على الشعارات والتنظير والتواكل والشكليات والمظاهر من جهة، والادبار عن العلم والتطور والاقتصاد والنجاح والتنمية من جهة أخرى. صدقت مع نفسك وكنت النموذج والمثال وارتقيت أعلى الدرجات العلمية وبذلت كل طاقاتك في نقل خلاصة ما وصلت إليه علمياً وسياسياً إلى أجيال شابة ما زلت بالنسبة لها الرمز.
كنت أسألك عن التفاؤل رغم الإحباط الذي انتاب التجارب الثورية لجيلك، وتجاربك الخاصة في السلطة والمعارضة، وكان يشاركنا السؤال و«المشاكسة» شيخ الإعلاميين محمد السنعوسي خلال الإعداد للبرنامج الذي قدمتماه معا على «الراي». وكان إصرارك غريباً على أن الخير يجر الخير، وكان إيمانك عجيبا بأن الشعوب العربية لابد ان تتحرك وتتغير، وكان قلقك كبيرا من أن تتراجع الكويت في الوقت الذي يتقدم الآخرون إلى ربع ما كانت عليه... وعندما نسألك كيف تكون قلقا ومتفائلا في الوقت نفسه كنت تلجأ إلى سلاحك الشهير في الحوار: «اذا كنتما تريدانني أن أتشاءم فليكن... أكملا النقاش من دوني»، لكن النقاش كان ينتهي هنا خصوصا عندما يشعل السنعوسي سيجارة فتنتفض رحمك الله وتقول مازحا: «طبعا متشائم لان أمة يدخن فيها من يفترض أنهم قدوة هي أمة ستحترق». تغادر المكتب وانت تقول: «وصيتي إليكما أن تتركا التدخين وتكثرا من التفاؤل».
ثائرا وناشطا سياسيا واستاذا جامعيا ووزيرا ونائبا... كنت نفسك حتى وانت تتحدث عن ندم هنا أو حسرة هناك. أدركت قبل غيرك سر «الخلطة» في الكويت، وان الحوار سيد الأصوات مهما ارتفعت، وان التواصل جسر المستقبل مهما تقطعت المواقف والشوارع والمناطق، وان غياب الانجازات الحقيقية يخلق فراغا يملؤه شعبويون وهامشيون وعاجزون. أدركت قبل جميع وزراء التربية العرب ان بقاء المناهج كما هي عليه تدمير للحاضر والمستقبل، وانها ستخرج «كوكبة» من المتطرفين والظلاميين والطائفيين الذين رضعوا من صفحاتها كره الآخر وتكفير الناس واعتماد العنف وسيلة للتخاطب.
هوجمت كثيرا ومن هاجمك عرف ايضا سر «الخلطة». فبالحوار والمنطق واللغة المتحضرة المتزنة انت المنتصر دائما لذلك كان لا بد من نقلك خلال السجالات إلى مناطق أخرى تشبه اصحابها في كل شيء ولا تشبهك في شيء. هنا كان الدعاء بالهداية سلاحك والتخلي عن المنصب درسا. بل كانت العودة إلى مقالك وجامعتك وطلابك وديوانيتك و«ربعك» عودة لنا نحن الذين كنا نخسر بانشغالك الرسمي.
كنت حكيماً في المعارضة، لم تبحث عن حشود و«هتيفة». لم تتحدث يوما بلغة طائفية او مناطقية أو رجعية او متخلفة. لم يعرف التمييز طريقا الى تفكيرك والعنصرية مدخلًا الى مشاعرك. لم تخن شعاراتك ولم تبع مواقفك عند اول تسوية شخصية. ادركت ان لا مدخل الى التغيير غير التوافق وان بناء الحواجز بين الحكم والناس او بين الطوائف والمذاهب او بين المناطق والمناطق سيأخذ الكويت الى مكان آخر غير... الكويت.
وكنت حكيماً في السلطة. علمت ان القوة والهيبة والمكانة هي في التقرب من الناس لا في التعالي عليهم، وفي التسامح لا في الحقد، وفي المرونة لا في التشدد، وفي سباق الآخرين على اجتراح الحلول واطلاق المشاريع وقيادة التنمية، وفي تطبيق القانون ومحاربة الفساد بلا هوادة... ويبقى ما كنت تكشفه لنا عن «ليالي السكاكين» الوزارية الطويلة لأمانات المجالس، ويكفيك ما قلته يوما في مجلس الوزراء من ان على الوزير ان يواجه خمسين عضوا في وجهه لكنه لا يعلم كم وزيرٍ في ظهره عليه ان يحذر منهم.
اليوم الذكرى الخامسة لرحيلك يا ابا قتيبة. وجه لا يغيب. لا ينسى. افضل المحامين عن الكويت في ازماتها. مستوى عالمي من الحضور في الفضائيات والمنتديات الاعلامية والحوارية يخشى من هم دون المستوى مقارعته. نعود اليك عندما نتعب. نعيد قراءة ما كتبته وما قلته وما توقعته وكأننا في لقاء دائم لا تفرقه المسافات.
في اللقاء الاخير قلت لي: «كيف اصد الناس عني وهم فعلا يشتاقون اليّ وانا اشتاق لهم»... الاماكن كلها مشتاقة لك يا ابا قتيبة وليس الناس فقط، والكويت من اكثر هذه الاماكن حسرة على رحيلك.
تبقى نقطة اخيرة، اوصيتني بترك التدخين والتفاؤل، وانا نفذت الجانب الاول من وصيتك وتركت التدخين منذ سنوات. اما التفاؤل... فسامحني يا أحمد... سامحني... ما تعودت أن أكذب عليك.
جاسم بودي