| لندن من إلياس نصرالله |
يحتار البريطانيون في اختيار أي القصص المحلية المثيرة للمتابعة من بين العدد الكبير من فضائح الفساد الإداري والمالي والأخلاقي وقصص الجرائم الغامضة وغيرها التي تملأ صفحات الجرائد وتحتل حيزاً كبيراً في وسائل الإعلام الأخرى المرئية والمسموعة. غير أنه رغم عناصر الإثارة الشديدة التي تتضمنها كل قصة من هذه القصص على نحو من شأنه أن يلهي المتابعين ويشد انتباههم لقصة بعينها ويدفعهم لإهمال القصص الأخرى، ظلت هناك قصة الجريمة الغامضة لمقتل مربية الأطفال ساندرا ريفيت التي حصلت عام 1974 والتي ما زالت الشرطة تحقق فيها إلى اليوم من دون الوصول إلى نتيجة، والسبب في ذلك أن بطل القصة هو أحد أفراد الطبقة الأرستقراطية في البلد اللورد لوكان المتهم بارتكاب الجريمة والذي اختفت آثاره بعد أيام على حدوثها ولم يُعرف مصيره إلى اليوم.
والمدهش أن اختفاء اللورد لوكان ظل يجتذب اهتمام البريطانيين في عز انشغالهم بفضيحة التنصت على المكالمات الهاتفية التي تورط بها العاملون في مؤسسة روبيرت ميردوخ الإعلامية، لدرجة أن التلفزيون البريطاني بث الليلة قبل الماضية برنامجاً تضمن معلومات جديدة عن هذه القضية، من شأنها أن تثير ضجة كبيرة.
ففي مايو الماضي ظن البعض أن ظهور السيدة البريطانية شيرلي روبي فجأة للإعلان عن أنها ساهمت من خلال عملها كمساعدة سابقة للثري البريطاني الكبير جون أسبينال في مساعدة اللورد لوكان على الاختفاء في أفريقيا وترتيب أموره الحياتية، جاء بهدف التغطية على فضيحة ميردوخ وليس إلا لعبة من الأوساط المؤيدة له لإلهاء الرأي العام عن خطورة الجرائم التي ارتكبها العاملون لديه. لكن قصة روبي لم تنشر في وسائل الإعلام التابعة لميردوخ، بل نشرت في صحيفة «الديلي تلغراف» المنافسة له والتي كانت من أشد المتحمسين لإغراقه في مستنقع الفساد الذي كانت امبراطوريته تعوم فوقه لسنين طويلة، ملحقة أضراراً فادحة بالمنافسين الإعلاميين الآخرين ومنهم مؤسسة «الديلي تلغراف».
لكن المسألة لم تقتصر على ما كشفته روبي في اعترافاتها في مايو، إذ تضمن برنامج الـ «بي بي سي» مساء أول من أمس اعترافا من الشرطة البريطانية بوجود شهادة خطية أدلت بها عام 1974 الليدي سارة غيبس، شقيقة اللورد لوكان، أثناء التحقيق في جريمة مقتل المربية ريفيت، والتي قالت الشرطة ان الشهادة سقطت سهواً ولم يجر تقديمها إلى لجنة التحقيق التي انعقدت لاحقاً لتحديد هوية القاتل، الأمر الذي أثر على قرار اللجنة وجعلها تدين اللورد لوكان وتسميه القاتل، في حين أن شهادة أخته تشير إلى احتمال واضح لأن يكون القاتل شخصاً آخر.
ولم توضح الشرطة سبب هذا السهو عن شهادة الليدي غيبس، الأمر الذي يثير تساؤلات عديدة، ويضع جهاز الشرطة في حرج شديد، علاوة على الحرج الذي تسبب به قادة الجهاز الذين اضطر بعضهم لتقديم استقالته في وقت سابق من العام الحالي بسبب تورطهم في فضيحة التنصت على المكالمات الهاتفية وإقامة علاقات مريبة مع رموز امبراطورية ميردوخ الإعلامية، خاصة ربيكا بروكس، مديرة أعمال ميردوخ التي تلقت من المفوض العام للشرطة حصاناً من الخيول التابعة للشرطة هدية لها، هذا علاوة على فضيحة غض الطرف من جانب الشرطة عن شكاوى تقدم بها في الماضي عدد من المواطنين ضد هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية الـ (بي بي سي) وأحد رموزها السابقين جيمي سافيل، النجم التلفزيوني المتوفي منذ سنين، الذي تبين أنه ارتكب مئات الاعتداءات الجنسية ضد قاصرين وقاصرات من خلال عمله في التلفزيون التابع للهيئة، وهي إحدى الفضائح المثيرة الأخرى التي ما زال الرأي العام البريطاني مشغولاً بها ومازال التحقيق جاريا فيها إلى اليوم.
ويتضح من شهادة الليدي غيبس أن شخصاً آخر كان موجوداً في منزل اللورد لوكان ليلة حصول الجريمة. ويعتقد انه بحارا سويدياً، لكن الشرطة لم تهتم بهذا التفصيل المهم وأهملت الشهادة إلى الآن، من دون الوصول إلى نتيجة ما جعل من قصة هذه الجريمة واختفاء اللورد لوكان واحدة من القصص الغامضة الأشهر على مستوى العالم، ونجحت في إبقاء الرأي العام البريطاني وجزءاً من الرأي العالمي أيضاً مشغولاً طوال الوقت في البحث عن أجوبة لها.
وكان اللورد لوكان الذي حققت الشرطة معه قبيل اختفائه قال للمحققين انه شاهد في ذلك اليوم في المنزل شخصاً يتعارك مع زوجته الليدي لوكان التي كانت على علاقة سيئة به. ما أوحى بأن الزوجة قد كانت ربما على علاقة غرامية مع شخص ما، الأمر الذي استنتج المحللون أن يكون أثر على علاقتها بزوجها. وكانت الليدي لوكان أبلغت الشرطة في حينه أيضاً أن ابنتها الصغيرة كاميلا (4 سنوات) أبلغتها أن شخصاً غريباً ينام في غرفة المربية ريفيت في الطابق العلوي للمنزل. وليس واضحاً ما إذا كان الشخص الذي أفاد اللورد لوكان بأنه كان يتعارك مع زوجته هو الشخص نفسه الذي ذكرته الطفلة كاميلا لأمها. يُشار إلى أن الطفلة كبرت وأصبحت هي الأخرى بعد زواجها تحمل لقب الليدي كاميلا بينغهام، وبينغهام هو الاسم الأصلي للعائلة، لكنها تعرضت لوعكة صحية فتوفيت عام 2001، كما أن الأم توفيت وكذلك العمة غيبس شقيقة اللورد لوكان، ما يزيد في تعقيدات القصة. ناهيك عن انتشار توقعات بأن يكون اللورد لوكان ذاته المولود في عام 1934 توفي أيضاً. لكن حتى لو كان رموز القصة توفوا جميعاً، تظل الشرطة معرضة للمساءلة حول الطريقة التي تعاملت فيها مع الجريمة وعدم اهتمامها بالبحث عن الشخص الآخر الذي كان ينام في غرفة المربية.
وكان اختفاء اللورد لوكان دفع الكثيرين للاعتقاد بأنه فعل ذلك هرباً من العدالة، كونه هو القاتل. فيما انتشرت أيضاً نظريات عديدة حول هذا الاختفاء المريب. وكانت الشرطة عثرت بعد أيام من الجريمة على سيارة اللورد في نيوهافن المطلة على قناة لا مانش وفيها أثار دماء. ورجّحت زوجته في حينه أن يكون اللورد صعد إلى عبّارة متجهة إلى فرنسا وقفز منها إلى البحر لينتحر هرباً من العدالة، ونصحت الشرطة في حينه بالكف عن البحث عنه لأنه خبير في القوارب واليخوت ويعرف كيف يتعامل مع البحر.
لاحقاً تناقلت وسائل الإعلام تقارير من شهود عيان قالوا انهم شاهدوا اللورد المختفي في أستراليا، ثم في إيرلندا، وفي جنوب أفريقيا، وموزمبيق وهولندا، وفي جاوا في الهند، ونيوزيلاندا التي قيل أنه شوهد فيها بلباس راع ومعه شاة صهباء اللون. واعتقد البعض أن اللورد حصل على مساعدة من أصدقائه الأثرياء جداً مثل السير جيمس غولدسميث، والملياردير جون أسبينال، صاحب محلات القمار والكازينوهات في بريطانيا. وذكر تقرير آخر أن مساعدة أسبينال ساعدت بنتي اللورد على السفر بجواز سفر غابوني إلى جنوب أفريقيا للقاء والدهما. غير أن الأم الليدي لوكان نفت تلك الأخبار وأصرّت على أن زوجها، على الأرجح، لم يعد على قيد الحياة، وأنه لا يقدر على العيش في الغربة، كونه لا يتقن أي لغة أخرى غير الانكليزية ولا يقدر على تناول أطعمة غير الطعام الإنكليزي التقليدي.
وكانت الشرطة الأسترالية أثارت ضجة عالمية واسعة بإعلانها في نهاية عام 1974 عن اعتقالها اللورد لوكان متخفياً كشخص آخر، ليتضح أن الشخص المعتقل لم يكن سوى وزير سابق في الحكومة الأسترالية يُدعى جون ستونهاوس، اختفى في الولايات المتحدة تاركاً ملابسه على شاطئ فلوريدا بالقرب من مدينة ميامي ليوهم الناس بأنه غرق في المحيط، وانتحل هوية شخص آخر ليتزوج من سكرتيرته وهرباً من الديون التي تراكمت عليه.