| بيروت ـ «الراي» |
... «زوْبعة في فنجان». هكذا بدت أحداث طرابلس التي احتلّت «رياحها الساخنة» المشهد اللبناني على مدى ستة ايام حاصدةً 17 قتيلاً وأكثر من مئة جريح، قبل ان يباغت «هدوء ما بعد العاصفة» المدوّي الجميع في بيروت التي «تنفّست الصعداء» مع إخماد «حريق» عاصمة الشمال وسط تصاعُد علامات الاستفهام حول «حيثيات» وموجبات عودة «الجمر الى تحت الرماد» على جبهة جبل محسن - باب التبانة.
«فجأة» وبما يشبه «كبسة الزرّ»، تَوقّف القتال الذي كان اندلع على خلفية المكمن الذي نصبه الجيش النظامي السوري لمجموعة من الشبّان الاسلاميين من شمال لبنان في منطقة تلكلخ، والذي كان حوّل عاصمة الشمال «ملعب نار» مرتبط مباشرة بالأزمة السورية وتَشظياتها وارتسمت معه في طرابلس «خطوط تماس» عربية - اقليمية تلمّست طريقها عبر «خط النار» المذهبي الذي تشكّله جبهة جبل محسن (العلوية) - باب التبانة (السنية).
ورغم ان «اختفاء» المظاهر المسلّحة امس، في طرابلس وانتشار الجيش اللبناني في التبانة بعد ساعات من تمركزه ليل الاحد في جبل محسن وإمساكه بمحاور الاشتباكات اعتُبر ترجمةً لمقررات المجلس الاعلى للدفاع، فان سرعة الالتزام بالتهدئة، وإن بقيت قيد الاختبار، والترحيب الشعبي العارم بالمؤسسة العسكرية عكسا القرار السياسي الكبير الذي وفّر غطاء جامعاً لتفكيك هذا «اللغم» الذي كان يشي بامكان ان يتمدّد الى مناطق اخرى في الشمال ولا سيما عكار بعدما بدا طرفا الصراع القديم - الجديد في طرابلس وكأنهما يلعبان على «حد السيف».
ومع النهار الهادئ الذي عاشته طرابلس امس، غداة ليلٍ تقاسمته «بقايا» المعارك التي كانت «انفلشت» للمرة الاولى موحية بانفلات الامور كلياً قبل ان يفاجئ الجيش الجميع بخطته الامنية، كثرت القراءات لكيفية استكانة أطراف النزاع لـ «الهدنة الجديدة» وتقاطعت عند نقطتين:
* الاولى ان جدية القرار السياسي الذي دفع نحوه رئيس الجمهورية ميشال سليمان وتحذيرات الجيش ووزير الداخلية مروان شربل من «الانفجار الكبير» وضعت الجميع امام مسؤولياتهم وامام وجوب التسليم بوقف الاقتتال وإقامة «مظلة واقية» من تداعيات الازمة السورية التي اقتربت من مرحلة الحسم بما يجعل اي «لعب بالنار» في لبنان بمثابة عملية «انتحار» لن تقدّم او تؤخّر في المسار «المكتوب» لـ «سورية الجديدة».
* والثانية عبّرت عنها اوساط مراقبة لم تستبعد ان تكون فاعليات منطقة جبل محسن استشعرت بخطر كبير في حال استمرار المعارك التي تخللتها محاولات جدية لاقتحام المنطقة من مسلحي التبانة. وثمة مَن قرأ ان «الجبل» الذي يدين بالولاء للنظام السوري لا مصلحة له في مرحلة بدء العدّ العكسي لانتهاء الازمة السورية في ان «يحرق نفسه» على «نار» نظامٍ صارت «ورقته محروقة»، الامر الذي يفرض اعتماد مقاربة جديدة تسمح اقله بـ «شراء الوقت» تمهيداً لإعداد «خريطة عمل» للمرحلة الآتية تراعي موازين القوى الجديدة.
وكانت الاجراءات الامنية في طرابلس بدأت قرابة الحادية عشرة من ليل الاحد حين اخذت وحدات من فوجي «المجوقل» و«المغاوير» في الجيش اللبناني تنتشر في جبل محسن مع أوامر مشددة بإطلاق النارعلى كل من يعترض الجيش.
واستكمل الجيش صباح امس، انتشاره في باب التبانة واقام حواجز ثابتة وسيّر دوريات مؤللة عند الخط الفاصل مع جبل محسن في شارع سورية، ودوريات راجلة ومؤللة عند الطريق الرئيسي الذي يربط طرابلس بعكار وعلى طول الخط الممتد بين الملولة وجبل محسن. كما تمركز على مداخل حي المنكوبين والطريق الدولية في البداوي، وعلى مداخل وادي النحلة وجبل البداوي والطرق التي تؤدي الى مخيم البداوي، وأقام حواجز مؤللة على مداخل ومخارج المنطقة كافة، مدققا بهويات المارة وأوراق السيارات، وذلك وسط ترحيب الاهالي الذين فرحوا بعودة الحياة الطبيعية.
وجاءت هذه الخطوة ترجمةً لمقررات المجلس الأعلى للدفاع لجهة تكليف الجيش حفظ الأمن في طرابلس والبدء بإجراء مداهمات لتوقيف المخلين بالأمن، ومصادرة السلاح المضبوط ومخازن الاسلحة التي ترد معلومات عن أماكن وجودها وسط تقارير عن «خطة - صاعقة» اقترحها قائد الجيش على اعضاء المجلس الأعلى للدفاع وساهم في رسمها وزير الداخلية الذي حذّر من عمليات عسكرية كبيرة قد تخرج عن السيطرة إن لم توضع المدينة بكافة احيائها ولا سيما تلك الخلفية منها لخطوط التماس التقليدية في عهدة الجيش بعيدا عن منطق بقائه حاميا لخطوط التماس بين الطرفين «ما اوقعه فريسة الطرفين مرة من جهة بعل محسن العلوية ومرة أخرى من جهة باب التبانة». علماً ان مصادر ذكرت ان قائد الجيش تحدث بصراحة عن عدم الثقة بما يُقال عن رفع الغطاء عن المسلحين، فيما «نحن نعلم أن سياسيين هم من يمولونهم».
وترافق بدء سكب المياه الباردة على أحداث طرابلس مع تطورين هما: «تغريدة» رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ابن طرابلس، عبر موقع «تويتر» داعياً الجميع في عاصمة الشمال إلى «التعاون مع القوى الأمنية من جيش وقوى أمن داخلي لوقف النزف الحاصل وتحصين المدينة من آتون الفتنة»، لافتاً إلى أن الحكومة «اتخذت اجراءات واضحة ستترجم في الساعات المقبلة». اما التطور الثاني فتمثل في اتصال الرئيس السابق للحكومة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري بقائد الجيش العماد جان قهوجي والمدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء اشرف ريفي مشدداً على «ضرورة قيام القوى العسكرية والأمنية بتحمّل مسؤولياتها لوقف التدهور وفرض هيبة الدولة ووضع حد نهائي لمسلسل العنف الذي تريد بعض الجهات لعاصمة الشمال أن تنجرّ إليها»، ومطالبته في بيان أبناء طرابلس، معقل «المستقبل»، «بالتكاتف والتضامن في ما بينهم في سبيل تعطيل ما يحاك للمدينة من مخططات مشبوهة بات يدركها القاصي والداني، لا سيما الجهات المسؤولة في الدولة التي لا نعتقد أنه يغيب عنها ما يحاك في طرابلس وما يدبّر لها من عمليات تسليح لأطراف مكلفة بتنظيم التدهور الأمني من حين إلى آخر»، وأهاب بأبناء الأحياء المتضررة من الأحداث «التحلي بضبط النفس والتزام الصبر في مواجهة ما يدبّر لمدينتهم من دسائس، والتعاون مع السلطات المختصة باعتبار أن الدولة هي الملاذ الذي يحفظ أمن طرابلس وسلامة أهلها».
وفي السياق نفسه، تطرق الاجتماع الليلي الذي عُقد بين «حزب الله» وحركة «أمل» و«التيار الوطني الحر» الى الوضع الامني في طرابلس «وكان توافق على ضرورة تعزيز السلم الاهلي وعدم الانجرار الى المشاكل وضرورة دعم الجيش في ممارسته لدوره»، علما ان هذا الاجتماع خصص للململة القضايا المطروحة وبينها قانون الانتخاب وسط تأكيد الحاضرين بـ «لا واحدة» ان «لا انتخابات وفق قانون الستين».
ومجمل هذا الملف حضر على طاولة مجلس الوزراء امس وسط تأييد كل الوزراء خطة الجيش، وتأكيد رئيس الجمهورية «ان طرابلس يجب الا تكون صدى لما يحدث في سورية»، لافتاً الى «ان اي اخفاق سيرتد سلباً على الجيش وهذا ما لن نقبل به».
وتقرر في الجلسة، تعزيز حضور الجيش في طرابلس علماً ان 3 الوية منه باتت موجودة في عاصمة الشمال بما يوازي 6 آلاف عسكري، مع تحريك المشاريع الانمائية لطرابلس التي شهدت امس تعليق لجنة اهالي قتلى مكمن تلكلخ تحركهم التصعيدي الذي كان مقرراً قبل الظهر الى يوم غد افساحاً في المجال امام الاتصالات التي تجري مع السلطات السورية لضمان اعادة كل جثامين الضحايا الـ 14 الذين استُرد منهم الاحد ثلاثة وكشف مصير الآخرين.