-1-
في عصرنا التقليديّ هذا خُلِط الحابل بالنابل، والشِّعر بالنثر، والعامِّي بالفصيح، فصار كلُّه لدى العرب «شِعرًا» و«قصيدًا»، وكلُّ مَن قُيِّض له أن يرصف جملتين، فيهما درجة ما من الإحالة والانزياح، بات يُدعَى شاعرًا وقصّادًا، وبمنتهى المجّانيّة والهزليّة!
كُثُرت لهذا أسماء الشعراء العرب كثرةً فاحشةً، لم يسبق لها مثيل في التاريخ العربي، بل في التاريخ أجمع؛ لأن هذا الفتح العظيم للمصطلحات، والتدمير المتواصل للمعايير الفنِّيَّة، قد أطلق يأجوج ومأجوج الكلمات، حتى أصبحتْ صناعةُ موسوعة حديثة شاملة تستوعب الشعراء العرب مستحيلة من سابع المستحيلات، مهما ادَّعت الإحاطة والتقصِّي؛ لأن ذلك سيعني موسوعةً بكلّ مَن هَبَّ فكتبَ جملتين من ذلك النوع المذكور. فإذا أضفنا الشِّعرَ العامِّي «على البَيعة»، صار ذلك يعني موسوعةً بكلّ المواطنين العرب، بل بكلِّ مَن نَطق العربيّة في مشارق الأرض ومغاربها!
أ فنحن بهذا نتقدَّم أم نتأخَّر؟ **
أنحن، بمثل هذا، نحترم العقلَ، ونقدِّر قواعدَ الفنون حقَّ قدرها، ونعي معاني ما نقول ونكتب، وما عليه نصطلح؟ وقبل هذا وذلك، نحفظ لكلِّ فنٍّ خصوصيّات منجَزه ورصيده التاريخي؟
كلّا، بل من الواضح أننا- تحت ضغط الأهواء والرغبات الطفوليَّة- نعود إلى بدائيَّةٍ، كان الوعي باللغة والأدب، وكان الفِقه بالبلاغة والنقد، قد ترقَّى عنها، وتجاوزها منذ قرون طويلة، ماضيًا نحو فرز الأجناس والمصطلحات وتسمية الأشياء بأسمائها. وإنما مَثَلُ أولئك المخلِّطين كمن يريد أن يُرغم العربيَّ على تصديق أن بغلًا استراليًّا هو حصانٌ عربيٌّ أصيل، لا لشيء إلّا لأن فيه بعض الشَّبَه بالخيل، متجاهلًا معرفة العرب بالخيل وبأنسابها، أو كمَن يزعم أن شجرة لبلاب هي محض نخلةٍ مدينيَّةٍ أو هَجَريَّة! وعندئذٍ ستكون بضاعتهم أسوأ في العيون العربيّة ممَّن ضُرِب به المَثَل، فقيل: إنه «كجالب التمر إلى هَجَر»؛ لأن جلوبةً شِعريَّةً كتلك مردودةٌ أصلًا، لا لعدم جودتها؛ بل لأنها مختلفةٌ نوعًا عن جنس الشِّعر.
وإن القضيّة في نهاية المطاف ليست قضيَّة وزنٍ وتقفيةٍ فقط، ولا قضيّة تفعيلة وتنغيم، ولا قضيّة موسيقى وإيقاع- ولا حتى قضيّة (رؤية شِعريّة)، كما كانت تُنظِّر «مجلّة شِعر» (1957- 1964)- ولكنها قضيّة خلطٍ منهاجيّ، وتخليطٍ اصطلاحيّ، وتدليسٍ نوعيّ، لتسويق ما ليس شِعرًا- بأيّ معيارٍ عربيٍّ- شِعرًا، في زمنٍ استنثر فيه الشِّعر أو استشعر النثر، واختلط الدُّرُّ بالمخْشَلَب(1).
أجل، لقد كان الشَّاعر العربي يؤدِّي ثلاثة فنون في آن: فنّ البيان، وفنّ الموسيقي، وفنّ التصوير. فالشاعر بذلك كان لا بُدَّ أن يكون جمهرةً من المبدعين. وذلك هو التحدِّي، الذي ينكص عنه الشِّعرُ المُزْوَرُّ عن شِعر العرب؛ فيأتي مهيضَ الجناح، مبهوتَ الفؤاد، يُجمجم- ممّا سئم الناس سماعه- كلامًا ضحل الماء، شاحب الرواء، لا وزن له ولا أجنحة.
-2-
وفي هذا المساق يبرز سؤالٌ جوهريٌّ: ما علاقة اللغة بالموسيقى، سواء موسيقى الشِّعر أو الموسيقى عمومًا؟
فأمّا علاقة اللغة بموسيقى الشِّعر، فقد سبق بيانها في مقالاتنا في هذا الموضوع. وأمّا علاقة عالم اللغة بعالم الموسيقى، فسؤال في حاجةٍ إلى مزيد من البحث.
تُرى أ الموسيقى تتأثَّر بطبيعة اللغة، أم تُؤثِّر فيها؟
أ إيقاعات الموسيقى العربيّة نتاجٌ لغويٌّ، أصلًا، وإنْ تأثَّرت الموسيقى بعوامل أخرى، كما تتأثَّر اللغةُ نفسُها بمثل ذلك؟ أي أن شخصيَّة الموسيقى العربيَّة هي، إجمالًا، وليدة اللسان العربي؟
إن البحور الشِّعرية العربيَّة إنما جاءت عن غِناء الكلام المراد أن يكون شِعرًا. وذلك الغِناء لا بُدَّ وُلد متأثِّرًا ببنية اللغة، مفردةً ومركَّبة. وذلك الغِناء، الذي وُلِد شِعريًّا أساسًا، قد حَدَّد الخطوط العريضة لتشكيل الموسيقى العربيَّة، وعمران ما سُمِّي فيما بعد مقامات الغِناء العربي. تلك المقامات التي أصبحتْ أنماطًا تنغيميَّة عربيّة لأداء أي نصٍّ عربيّ غِناءً، بما في ذلك تجويد القرآن الكريم والتغنِّي به. وبالقياس فإن ذلك ما يَحدث في اللغات الأخرى، وما يمثِّل ملامح اختلاف بعضها عن بعض، في الموسيقى والإيقاعات، وفي أساليب التعبير الفنِّي، وبخاصَّة الشِّعري.
وعليه، يمكن القول إن الإيقاعات الموسيقيَّة في أيّ أُمَّة من الأُمم مرتبطة بإيقاعات لغتها الخاصّة، وبحياتها، وبيئتها، وثقافتها، وتاليًا بهويَّة شخصيَّتها المائزة بين الأُمم، تتطوَّر بتطوُّرها وتتأثَّر بتأثُّرها. ومن هناك، وبما أن الشِّعر هو أخصّ الأجناس الأدبيّة في تعبيره عن هُويَّة الأُمّة ومشاعرها وروحها، فإن تجريده من الموسيقى يعني تجريده من نِسغه التعبيريّ عن هُويَّة الأُمّة ومشاعرها وروحها، وبالنتيجة تجريده من شِعريَّته المرتبطة بلغته، وبشخصيَّة أُمَّته. ونعني بشِعريَّته تلك: الشِّعريّة التي تمثِّل جنسه الخاص: بما هو «شِعر»، لا بالمعنى العامِّ للشِّعريَّة. والمعنى العامُّ للشِّعريَّة هو ما يُغري مَن يَنسبون النثر إلى الشِّعر، بحُجَّة تلك الشِّعريَّة. والشِّعريَّة في النثر قائمة منذ الأزل، ومن أبرز النصوص النثريَّة شِعريَّةً القرآن الكريم. وهو المعطَى الذي أغرى دجاجلة الماضي، المستنكفين العرب ممَّا جاء به محمَّد، لاستغلاله كي يقولوا: إن محمّدًا شاعر، وما جاء به ضربٌ من الشِّعر. غير أن أولئك الذين احترموا العقل، وحذقوا التفريق بين ألوان الكلام، رفضوا هذا الزعم الرخيص بأن القرآن شِعر. وهو ما لا يرفضه أرباب قصيدة النثر اليوم، بعد أكثر من ألف وأربع مئة سنة. إن نظريتهم، إذن، لتَعُدّ ما كان على غرار النصِّ القرآني من الكلام: شِعرًا. بل منهم من يصرِّح بذلك فعلًا، وبلا تلجلج: عادًّا القرآن شِعرًا منثورًا، على غرار قصيدة النثر. إلى هذه الدرجة تنحدر نظريَّة الأدب، ونظريَّة الأجناس الأدبيَّة، لدى مَن يظنُّون أنفسهم أعادوا اكتشاف الشِّعر في العصر الحديث! أي أنها عادت بهم حليمةُ إلى أفكار بدائيَّة، لا يقول بها إلّا مُماحِكٌ جَدَليٌّ مؤدلَجٌ، سرعان ما ترفض تَهَوُّكَه جماعتُه نفسُها، وصحابةُ فكرِه عينِه؛ لأن مقولته- وإن كانت تخدم قضيَّتهم، ظاهريًّا- تفضح جهلهم بالأنواع الأدبيَّة، وتُسقط مصداقيَّتهم، معرفيًّا، ونصوصيًّا، وحِجاجيًّا أيضًا. فليقولوا: هو سِحر وساحر، لا شِعر وشاعر. ذلك أدنى ألا يُرموا بالسفاهة من جمهرة الناس.
إنها- كما يتبيّن من هذا- تمحُّلات عتيقة جدًّا، ومبادءات بدائيَّة بامتياز، لا على مستوى النصوص فحسب، بل على مستوى الجَدَل النظري كذلك. فلا جديد تحت الشِّعر، إلَّا عُميان هرولوا خلف سراب! سراب يكفي أنه غربيّ، ليغدو في أبصارهم الشرقيَّة ماءً عذبًا فراتًا، يُروي العُربان، والغِربان، وسُفُنَ الصحراء، في آن!


* عضو مجلس الشورى السعودي- أستاذ النقد الأدبي الحديث، جامعة الملك سعود في الرياض
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
1- «المخْشَلَب: خَرَزٌ أبيض، يُشْبِه الدُّرَّ، وليس بدُرّ، والكلمة نَبَطِيَّة- نسبة إلى الأنباط- والعرب يسمُّونه: الخَضَض. والخَضَض، كذلك- كما في (ابن منظور، لسان العرب، (خضض»-: «السَّقْطُ في المَنْطِق، ويوصف به، فيقال: مَنْطِقٌ خَضَضٌ.» قال أبو الطيِّب المتنبِّي:
بَياضُ وَجهٍ يُريكَ الشَمسَ حالِكَةً** وَدُرُّ لَفظٍ يُريكَ الدُرَّ مَخشَلَبا