| واشنطن - من حسين عبدالحسين |
غادر الرئيس اليمني علي عبدالله صالح صنعاء وهو يشارف على التخلي عن الحكم. ارسل العقيد الليبي معمر القذافي مبعوثا الى واشنطن للبحث في ضمانات تلي تنحيه، أما الرئيس السوري بشار الاسد، فلم ينجح استخدام القوة المفرطة في ثني المتظاهرين ضد حكمه، فصار يقدم التنازل تلو الآخر، فيما الحكم ينهار من تحت اقدامه. في وسط هذه العاصفة الشرق اوسطية، التي تبنى الرئيس باراك اوباما تسميتها «ربيع العرب»، تغيب الولايات المتحدة عن الصورة، ولا يظهر لها اي تأثير يذكر في مجرى الاحداث.
ولأن اوباما واجه انتقادات تتعلق بضمور الدور الاميركي في الازمات المندلعة في الدول العربية، خصوصا بعد تسليم دفة قيادة العمليات العسكرية في ليبيا الى حلفائه الاوروبيين في تحالف ناتو، فإنه وادارته ابتكرا مصطلحا هو «القيادة من الخلف»، والذي تحول الى محط سخرية بين خصومه، وخصوصا من الحزب الجمهوري.
اين واشنطن؟ وما يشغلها؟ وهل فقدت القوى العظمى الوحيدة في العالم قوتها وتحولت الى دولة غربية ذات وزن متوسط؟
الاجابات متنوعة ويتصدرها الهم الاقتصادي الاميركي، فالدين العام الاميركي بلغ 14 ترليون دولار، ومن المتوقع ان يتجاوز نسبة 100 في المئة من الناتج المحلي مع حلول العام المقبل، ما يدخل اميركيا في خانة الدول التي تعاني ميزانياتها عجزا مستمرا، ومديونية عامة تهدد استقرارها وحيوية اقتصادها.
على ان معظم المسؤولين الاميركيين يجمعون على ان اقتصاد بلادهم ما زال قويا، ان لم يكن الاقوى في العالم. المشكلة الوحيدة، حسب رأي البعض، يكمن في سوء «المحاسبة».
وتظهر الارقام ان واشنطن تنفق ما يقارب 25 في المئة من اجمالي ناتجها المحلي سنويا، فيما يبلغ اجمالي الضرائب التي تجنيها حوالي 18 في المئة.
وقد حاول اوباما اعادة نسبة الضرائب الى ما كانت عليه في زمن الرئيس السابق بيل كلينتون، اي حوالي 23 في المئة، الا ان الجمهوريين، وخصوصا بعد استعادتهم الاكثرية في الكونغرس، احبطوا خطة اوباما، وفرضوا الابقاء على نسبة الضرائب منخفضة كما اقرها سلف اوباما جورج بوش.
ويصر الجمهوريون على تخفيض اكبر في نسب الضرائب لاعتقادهم ان هذا سينشط الاقتصاد ويأتي بمردود اكبر للخزينة، فيما يجعلون من تقليص نفقات الحكومة جزءا اساسيا من رؤيتهم الاقتصادية. تقليص النفقات هذا يتضمن نسف مشروع الرعاية الصحية الذي عمل جاهدا اوباما لاقراره، كذلك نسف التقديمات الاجتماعية الاخرى مثل خصخصة «الضمان الوطني» للمتقاعدين.
ولأن شن حرب على الجمهوريين من اجل زيادة الضرائب، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس للعام 2012، يعتبر بمثابة انتحارا سياسيا لاوباما والديموقراطيين، وجد الرئيس الاميركي نفسه مضطرا الى مباشرة المفاوضات مع الجمهوريين من اجل التوصل الى تسويات لابرام موازنة العام المقبل.
عليه، كلف اوباما نائبه جو بيدن، وهذا امضى عقودا في مجلس الشيوخ، وهو ضليع في التكتيكات السياسية الحزبية، بالتفاوض مع الجمهوريين للتوصل الى حلول. وتقول مصادر بيدن ان الاختلاف بين الحزبين في شؤون الموازنة مازال كبيرا، وحجمه يناهز الترليون دولار.
بيد ان اشغال بيدن بشؤون الموازنة يؤثر سلبا في اهتمام واشنطن بشؤون السياسة الخارجية، فبيدن سبق ان ترأس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، وهو صاحب خبرة طويلة، ويعزى اليه الفضل وخصوصا الى مدير مكتبه انتوني بلينكن في التوصل الى اتفاقيات حول قانون انتخاب وتسويات من اجل تشكيل حكومة في العراق.
اضافة الى انشغال بيدن عن السياسة الخارجية، ينشغل عدد كبير من المحيطين بالرئيس الاميركي بالاستعداد للانتخابات المقبلة. صحيح ان اوباما في وضع ممتاز، ولم يقدم الجمهوريون حتى الان مرشحا منافسا ذات وزن، الا انه لا يمكن للفريق الرئاسي الاستخفاف بحجم المعركة التي سيخوضونها وسيحاولون خلالها الحفاظ على الرئاسة واستعادة الكونغرس، والمعركة ستتركز بمعظمها حول موضوع بطء النمو الاقتصادي والخروج من الركود الذي اصاب البلاد في العام 2008.
وجاء في تقرير «ماكينزي غروب» الصادر حديثا عن الاقتصاد الاميركي وسوق العمل فيه ان نسبة العاطلين عن العمل، التي تبلغ حاليا اكثر من تسعة في المئة، ستنخفض الى نحو 8 ونصف في المئة مع موعد الانتخابات في 2012، ومن شأن هذا الانخفاض ان يزيد من شعبية اوباما، وهي شعبية سيحتاجها من اجل اعادة انتخابه.
ثم ان القيمين على الحملة الانتخابية للرئيس الاميركيين يشيرون الى تراجع الجمهوريين ومرشحيهم عن الشعارات المؤيدة للحروب الاميركي حول العالم، والتي رفعوها في حملة 2008. يقول احد اعضاء حملة اوباما: «سمعنا (المرشح الجمهوري والمحافظ السابق لولاية ماساتشوسيتس) ميت رومني يقول انه حان الوقت لاعادة جيشنا الى قواعده، وكان يقصد العراق اوفغانستان، وهذا ما يعني انك لن تسمع مرشحا يطالب بشن الولايات المتحدة لاي حروب جديدة».
حتى الحرب في ليبيا، ومساهمة اميركا فيها متواضعة وبلغت 715 مليون دولار حتى منتصف يونيو، حسب تقرير صدر امس عن وزارة الدفاع، لم تلقى تأييدا يذكر من اي من الحزبين في الكونغرس.
الانكفاء الدولي، و«القيادة من الخلف»، والتفرغ لاعادة تنشيط الاقتصاد وسد
العجز، والمساعدة في تخفيض نسبة العاطلين عن العمل، هذه هي الامور التي تتصدر اهتمامات الاميركين، حسب مركز احصاء بيو. ولا يبدو ان هذه الاهتمامات ستتغير من الآن وحتى الانتخابات الرئاسية المقبلة، لذا، من غير المتوقع ان تبتعد ادرة اوباما عن سياستها الحالية التي تقضي بمشاركتها في الشؤون الدولية كدولة عضو في الامم المتحدة فقط، من دون ان تقود اي حملات عسكرية او غيرها بصفتها قوة عظمى.
كيف تؤثر سياسة الانكفاء الحالية على التغييرات التي يشهدها العالم، خصوصا في الدول العربية حيث تندلع ثورات مطالبة بتغيير بعض الحكام؟ يقول ديبلوماسي متقاعد وعتيق: «لطالما طالبتنا دول العالم بعدم التدخل في شؤونها وها نحن ننكفئ ونتراجع وندع العالم يسير اموره من دوننا».
يختم الديبلوماسي: «لكن الثورات العربية حقيقية، ومصدرها الشعوب، وهو ما يجعلها اصدق واقوى... لقد سقط حاكمان في مصر وتونس، واثنان في طريقهما الى الانهيار في اليمن وليبيا، فيما الثالث يخوض معركة خاسرة لبقائه، ونحن سندعم التغيير والديموقراطية، ولكن كأي دولة اخرى، واعتقد ان العالم لم يعتد ذلك في الماضي، ولكنه سيعتاد عليه في المستقبل، وقد يروق له اكثر من سياساتنا في السابق».