| بقلم د. مصطفى عطية * |
يمثل الشاعر الكويتي محمد الفايز أبرز شعراء منطقة الخليج العربي في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن العشرين، فهو مرحلة انتقالية أو المرحلة الوسيطة في الشعر الكويتي المعاصر **خاصة، وفي الشعر الخليجي عامة، حيث حفلت تجربته بالقصيدة العمودية وبشعر التفعيلة من حيث الشكل، وبكثير من الاتجاهات والأبعاد المختلفة والمتعددة من حيث المضمون، ما جعله بحق رائد المرحلة الوسيطة في شعر الفصحى الكويتي المعاصر، وأكثر الشعراء تجديدا قياسًا إلى جيله وإلى مرحلته الزمنية.
وبالنظر إلى تجربة الفايز نرَ تميزًا شعريًا، ظهر منذ ديوانه الأول «مذكرات بحار»، وهي تجربة جديدة في الشعر الخليجي بشكل عام، والكويتي بشكل خاص، فالديوان يتناول حياة بحّار من مجتمع ما قبل النفط، ويبسط مأساته، في تجربة مكتملة الأبعاد، حظيت بأغلب صفحات الديوان، وحمل الديوان اسمها، عبر مذكرات تمتد إلى عشرين مذكرة، تمثل كل مذكرة وجها من وجوه مأساة البحّار، ونرى فيها رؤية للمجتمع الكويتي القديم، بمظاهر الفقر والعوز، وتحكّم العادات الموروثة به، ونمط التعليم التقليدي، وهيمنة العشائرية والقبلية عليه، وسيطرة كبار التجار وأصحاب السفن على مقدراته، وكيف أن البحّار يبذل روحه وهو يغوص في أعماق البحر من أجل لؤلؤة لزينة نساء الأغنياء في بقاع شتى في العالم، يقول في المذكرة الثانية:
في الليل نسري عبر هاتيك البحارْ
أيام كنتُ أعيش في الأعماق، أبحث عن محارْ
لقلادة لسوار حسناء ثريةْ
في الهند، في باريس، في الأرض القصيةْ
أيام كنت بلا مدينةْ
وبلا يد تحنو عليّ ولا خدينةْ
صارت الحياة للبحّار القديم ملازمة الأعماق، بحثا عن محار، وقد جاء الحذف هنا تلقائيا للفظة اللؤلؤة، التي قد تحويها محارة ما، ولكن يظل اللؤلؤ قيمة مالية لا جمالية لهذا البحار البائس، الذي غادر عائلته الصغيرة ترزح تحت الديون، على أمل أن يعود محملا بما يسد رمق الأفواه الجائعة. إن اللؤلؤة التي هي زينة لا غير للثريات في الهند أو باريس، قد تحمل في ثناياها روح بحار غاص بحثا عنها. ويأتي تعبير « أيام كنت بلا مدينةْ» ممثلا للوجه الآخر من الحلم، فالمدينة الحديثة تعني تقدما واستقرارا وقوانين وسلطات منظمة؛ وهذا ما وجده الفايز في حياته : فقد عايش النظام السياسي والاجتماعي العشائري والأبوي قبل النفط، وتحوّلَ هذا النظام إلى الدولة الحديثة التي ترعى أفرادها ولا تتركهم نهبا لتقلبات الطبيعة، المدينة تعني الدولة الحديثة بنظمها ومؤسساتها.
ويقول واصفا البحّار في الأعماق:
إلا حبالي والشراعْ
ويدي المقرحة الأصابع والضياعْ
والريحُ، والأسماكُ في القاع الرهيبْ
غرثى تطاردني بعالمها الغريبْ.
لقد كان الغوص يتم بشكل بدائي جدا، حيث يغلق الغواص أرنبة أنفه بمشبك، ويربط يده بحبل موصول في السفينة، ثم يغوص دقائق في الماء، ولو حدث أي مكروه له في الأعماق، فلا حيلة أمام رفاقه على ظهر السفينة إلا جذبه بالحبل، ليخرج جريحا أو ميتا، ثم يكون البحر قبره الأخير، كل هذا من أجل الرزق لأهله وعياله، ونرى هنا اختلافا في التسمية لأرض الوطن، فلفظة «المدينة» تمثل حلم الوطن والتقدم، ولفظة السواحل تمثل الشاطئ الذي ترسو عليه السفينة، حيث بيت البحار الطيني وأهله وعياله، إنه مجرد أرض استقرار موقت (ساحل)، يعود ثانية منها إلى البحر، وهذا ما كان متحققا في بناء المجتمع الكويتي قديما، حيث كانت أحياء الكويت القديمة عبارة عن شريط ساحلي يمتد مجاورا للبحر في بيوت طينية متلاصقة، وحوارٍ متجاورة، تفضي شوارعها إلى البحر، ويحيط بها سور من الطين. وتكاد الحياة مقتصرة على البحر: صيد السمك، وسفن التجارة، وخروج الأهل والعيال لاستقبال أو توديع الزوج والأب والأخ، ويتكرر المشهد مرات عدة في السنة.
وفي هــــذا الديوان يتعمق الوصف للـــحياة الــــقديمة مــــن منــــظور البحار، إنها حياة جافة، أولها ندرة المياه العذبة، وآخرها جفاف البر، وفقره.
إن هذا الديوان، يشكل ملامح تجربة متميزة في الشعر العربي، وهي تجربة الديوان ذي الموضوع الواحد المعمق عبر قصائد حملت عنوان المذكرات، ولكنها تمثل عمق المواجهة الحضارية الحقة لقضايا الواقع، وقد تصدى لها في جيل الشعر الستيني والسبعيني كل من: محمد الفايز، وعلي السبتي، وقد ألح الفايز في ديوانه الأول على بسط تفاصيل الحياة القديمة للكويت، بمقارنة غير مباشرة مع التطور الجديد في الحياة العصرية، عبر وسيلة فنية مبتكرة، تعتمد على تعميق وصف الحياة السابقة على سبيل المقارنة الوصفية غير المباشرة.
وهو في منظور البعض معبر عن تيار الواقعية الشعرية، الذي يتناول الحياة الاجتماعية للخليجي القديم، ولكنه وصف قهر الإنسان بشكل عام، وهذا ما أكسب هذه التجربة عمقا إنسانيا جعلها تتجاوز الإطار المحلي إلى الإنساني الرحب، وفي نفس الوقت عبّر الفايز عن نفسه أيضا التي عايشت جيلين مختلفين في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية (1). وقد أخذ بعض النقاد على هذا الديوان وجود ملامح نثرية حملت التكرار في ثناياها (2)، وهذا متحقق بالفعل، فالديوان اتخذ شكل شعر التفعيلة، وقد أمعن الفايز في الوصف للحياة البحرية القديمة بكل جوانبها، متأثرا بشكل القصة؛ فقد بدأ الفايز حياته الإبداعية قاصا، وكتب قبل هذا الديوان ست وثلاثين قصة، كما أن شكل المذكرات الذي اتبعه في الديوان مرتبط بالنثر أكثر منه بالشعر (3)، ولكن يحسب للفايز أنه أول من كتب في هذا الشكل الشعري الذي جمع شعر التفعيلة مع ديوان ذي الموضوع الواحد.
في الديوان التالي «النور من الداخل»، نجد الفايز متأرجحا ما بين التفعيلة والعمودي، وإن ظل متناولا قضايا إنسانية رحبة الدلالة، ففي قصيدة «الغجر ومدينة البحار»، يقول:
غجرْ
غجرْ
قوافل الغجرْ قد دخلت مدينتي لتخطف القمرْ
وتسرق الرحيق من براعم الزهرْ
تضع هذه القصيدة المدينة الخليجية موضعا إنسانيا، فقد استشعر الفايز أن الهجوم الحضري على الكويت ليس خيرا كله، بل يحمل بعضا من الشر، يتجلى في محو الهوية، وامحاء خصوصية المجتمع والذات، لذا حفلت القصيدة برموز من التراث الأدبي مثل : روما ونيرون، قصر شهرزاد، الذبح على الصليب، وهذا عائد إلى المرحلة التاريخية لكتابتها، فقد كان هناك زحف للمدينة الحديثة بأبنيتها وأعمدتها الخراسانية ضد الأبنية القديمة التي تحمل عبق الماضي، وتلاحم أهله. لذا أطلق الفايز على هذا الزحف «الغجر»، وهو لفظ لا يخص مجتمعا بعينه، وإنما الغجر جماعات تعيش على هامش المجتمعات الإنسانية، تمتهن السرقة والاحتيال والأعمال غير المشروعة.
وفي هذا الديوان استكمال للمنحى الاجتماعي الواقعي بنفس شكل التفعيلة كما في قصائد: «المسافر مع الأغنيات»، «أغنيتان للحروف المحترقة»، وقصائد جمعت بين التفعيلة والعمودي في نص واحد كما في قصيدة: «عذاري النيل».
وفي الديوان قصائد عمودية عديدة، مثل «من بلاد الهولو»، «العامرية»، «يا نار عينيك»، وهي تجمع ما بين الاجتماعي والوطني والحب العذري، وهو اتجاه يتعمق في الدواوين التالية لهذا الديوان، ويمثل تراجعا ملحوظا في التجربة الإبداعية، ويبدو أن الشاعر حاول التوفيق بين اتجاهه التجديدي، وما هو سائد في زمنه من شعر عمودي ذي أغراض تقليدية، ورغبته في التألق في الأمسيات الجماهيرية التي تحتاج الشكل العمودي الصاخب الإيقاع، فالجمهور الخليجي كان ولايزال ميالا للشعر العمودي. يقول في قصيدة «حملتك دهرا»:
حملتك دهرا في عيوني وفي قلبي
فلم تحفظي عهدي ولم تفهمي حبي
وهبــتكِ أياما كأن شــموسها
تطل بلا شرق وتخبــو بلا غربِ
فالقصيدة رومانسية الطابع، تعتمد على الجماليات الكلاسيكية للقصيدة العربية، مثل الطباق والتشبيه، وتشي الأبيات بالثراء القاموسي للشاعر، وموسيقيته العالية في النص الممتزجة بوجدان شديد الصفاء.
في ديوان «رسوم للنغم المفكر» يعود الفايز إلى البناء الكلي للديوان، فقد بسط الشاعر رؤيته عبر نصوص شعرية متتابعة حملت عناوين من «النغم الأول» إلى «النغم الثامن والسبعين»، وقد التزم فيه الشكل العمودي، ولكنه يحمل روحا فكرية فلسفية الطابع، ارتفعت كثيرا إلى الفضاء الإنساني، بجانب لقطات عاطفية واجتماعية وسياسية. يقول في النغم الثامن:
تجسّمي تجسّمي
يا فكرة في نغمِ
يا جسدًا كأنه
مبرعمٌ في برعمِ.
يكاد هذا النص شديد الوجازة ملخصًا لرسالة الديوان، بمقطع عالي الشاعرية والجماليات، فطموحه أن تكون أفكاره مجسمة وأرى التجسيم بدلالة التحقق الشعري، بمعنى أن تصبح الفكرة نصا شعريا مقروءا، كأنه جسد بشري، أو برعم نباتي. وهذا حققه في نصوصه، نقرأ في النغم الثالث والأربعين:
هوىً تقمص أعضائي إليكِ كـما
تقمص الماء أوراقا وأغصانا
ثيابكِ الحمر والزرق التي رعفت
من كل لون جعلن العمر ألوانا
تحقق في هذا النغم تجسيد للهوى، وقد جعل الشاعر الهوى بدلالة مجسدة، في المحبوبة المخاطبة، فقد جسدها بصور فنية متوالية دالة على تعمق الهوى في النفس الشاعرة، كتقمص الماء للأوراق والأغصان، والتقمص بمعنى التشرب والتوغل في الذات. أما بقية الصور في المقطع فقد جمعت تراسل الحواس : البصري والسمعي والشمي، بجانب حركية الصورة، وهو هنا يبتعد يلامس الجانب الحسي في المحبوبة، بشفافية شعرية عالية.
ويعد هذا الديوان تجربة متميزة في الفعل، ربما يظن البعض أنه تراجع على المستوى الشكلي قياسا بالديوانين السابقين حيث نرى شعر التفعيلة واستخدام الرمز بشكل فاعل، إلا أن الفايز في هذا الديوان يقدم تجربة جمعت موسيقية الشكل العمودي، وتوهج الصورة الفنية.
في بقية الأعمال الشعرية للفايز، نجد أصداء للتجربة السابقة، ولكنها تمثل اتجاهات مختلفة ما بين الرومانسي والوطني والاجتماعي والتغني بجمال الأمكنة والبلدان، كما في دواوين: بقايا الألواح، وحداء الهودج، وذاكرة الآفاق، ولبنان والنواحي الأخرى. وهي تمثل أصداء عديدة لتجربة الفايز، وإن عدها البعض تراجعا في مشروعه الشعري الذي كان واعدا في ديوانيه الأولين، وهذا صحيح نسبيا، وإن كان محافظا على القصيدة الممتدة، كما في ديوانه «ذاكرة الآفاق» حيث نقرأ «قصائد عن بغداد» ممتدة على ست قصائد متتابعة مرقمة، بشكل التفعيلة الممتزج بالشكل العمودي، يقول في القصيدة الثالثة:
ينهض صدرك يا بغدادُ
كبيادر من لؤلؤة
وكقوس من فيروزْ
أزرقٌ
تناولت القصائد البغدادية بغداد: المدينة والتاريخ والبشر والعطاء والطبيعة، وقد عمد الشاعر إلى التحاور مع بغداد عبر صور فنية عالية الشاعرية، تثبت تميزه في قدرته على التصوير الفني، وفي المقطع السابق نلمس وصفا لونيا لبغداد: فهي زرقاء ملتمعة: كاللؤلؤ والفيروز، ونهرها متدفقا حاملا التاريخ والحضارة.
وتتطور التجربة في ديوانه «من خلاخيل الفيروز»، فنجد تجليا رائعا للقصيدة الممتدة دون ترقيم أو عنونه، بل يكتفي بالمقاطع الشعرية المتوالية على امتداد الديوان، وهو يمثل الحلقة الأخيرة في التطور الفني للفايز، حيث استقر فيه على الشكل العمودي، ومزج في بنيته الرومانسي والوطني والمكاني، في خطاب شعري موجه إلى المحبوبة، يقول في مطلعه:
لم يزل شوقها القديم عنيفا
وهو مازال هائما ملهوفا
كيف لا يلتقي الهوى بهواه
ولقد جاء واضحا مكشوفا
فالخطاب العشقي لا يقف عند الحسي من المرأة، بل يتخطاه إلى الزمان والمكان والوطن بشفافية متوهجة، ما يبعد المحبوبة عن النسوية ويدخلها في دائرة الرمز الإنساني الرحب، فالمرأة المعشوقة حملت في مختلف التجارب الشعرية العربية الكثير من الأبعاد ما بين: الحسي والمعنوي في الحب، والمكاني والزماني والفلسفي في الإسقاط، ونرى أن الفايز قد جعل هذا الديوان نفثات شاعر، محملا بموروث شعري خطابي للمرأة المكان والإنسان والزمان، وصهرها في بوتقة واحدة.
إن تجربة محمد الفايز تثبت بجلاء أن التطور والتجديد الشعري في العالم العربي لم يكن يسير على وتيرة واحدة في الإقليم الواحد، ففي حين كانت تسود قصيدة التفعيلة في المراكز الحضارية العربية، كان هناك شعراء في أقطار عربية أخرى يتراجعون عنها إلى القصيدة العمودية، محافظين على التوهج الإبداعي المكتسب من قصائد التفعيلة، وجمالية وموسيقية القصيدة العمودية. وهذا ما ظهر في تجربة محمد الفايز، فتراجعه إلى القصيدة العمودية، دال على أن الذائقة السائدة في الكويت خاصة والخليج عامة في زمنه ومرحلته التاريخية كانت غير متقبلة لقصيدة التفعيلة، فعزف على الوتر العمودي محافظا قدر المستطاع على رؤية تجديدية في الرؤية والجماليات النصية.
* قاص وروائي وناقد أدبي مصري
مقيم في الكويت
(1) راجع: د. نورية صالح الرومي، الحركة الشعرية في الخليج العربي بين التقليد والتطوير، الكويت، دون تاريخ، ودون ناشر. ص463، 464.
(2) السابق، ص463. وانظر أيضا: د. إبراهيم عبد الرحمن، محمد الفايز والتوتر بين الذات والتاريخ، دراسة منشورة في مجلة البيان الكويتية، عدد 71، فبراير 1972م، ص13.
(3) انظر في هذا الرأي، د. ماهر حسن فهمي، تطور الشعر الحديث في منطقة الخليج العربي، دار قطري بن الفجاءة، 1993م، ط3، ص 188، وانظر أيضا: د.سالم عباس خدادة، التيار التجديدي في الشعر الكويتي، دراسة في المضمون والشكل، المركز العربي للإعلام، الكويت، 1989م، ص 344.
يمثل الشاعر الكويتي محمد الفايز أبرز شعراء منطقة الخليج العربي في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن العشرين، فهو مرحلة انتقالية أو المرحلة الوسيطة في الشعر الكويتي المعاصر **خاصة، وفي الشعر الخليجي عامة، حيث حفلت تجربته بالقصيدة العمودية وبشعر التفعيلة من حيث الشكل، وبكثير من الاتجاهات والأبعاد المختلفة والمتعددة من حيث المضمون، ما جعله بحق رائد المرحلة الوسيطة في شعر الفصحى الكويتي المعاصر، وأكثر الشعراء تجديدا قياسًا إلى جيله وإلى مرحلته الزمنية.
وبالنظر إلى تجربة الفايز نرَ تميزًا شعريًا، ظهر منذ ديوانه الأول «مذكرات بحار»، وهي تجربة جديدة في الشعر الخليجي بشكل عام، والكويتي بشكل خاص، فالديوان يتناول حياة بحّار من مجتمع ما قبل النفط، ويبسط مأساته، في تجربة مكتملة الأبعاد، حظيت بأغلب صفحات الديوان، وحمل الديوان اسمها، عبر مذكرات تمتد إلى عشرين مذكرة، تمثل كل مذكرة وجها من وجوه مأساة البحّار، ونرى فيها رؤية للمجتمع الكويتي القديم، بمظاهر الفقر والعوز، وتحكّم العادات الموروثة به، ونمط التعليم التقليدي، وهيمنة العشائرية والقبلية عليه، وسيطرة كبار التجار وأصحاب السفن على مقدراته، وكيف أن البحّار يبذل روحه وهو يغوص في أعماق البحر من أجل لؤلؤة لزينة نساء الأغنياء في بقاع شتى في العالم، يقول في المذكرة الثانية:
في الليل نسري عبر هاتيك البحارْ
أيام كنتُ أعيش في الأعماق، أبحث عن محارْ
لقلادة لسوار حسناء ثريةْ
في الهند، في باريس، في الأرض القصيةْ
أيام كنت بلا مدينةْ
وبلا يد تحنو عليّ ولا خدينةْ
صارت الحياة للبحّار القديم ملازمة الأعماق، بحثا عن محار، وقد جاء الحذف هنا تلقائيا للفظة اللؤلؤة، التي قد تحويها محارة ما، ولكن يظل اللؤلؤ قيمة مالية لا جمالية لهذا البحار البائس، الذي غادر عائلته الصغيرة ترزح تحت الديون، على أمل أن يعود محملا بما يسد رمق الأفواه الجائعة. إن اللؤلؤة التي هي زينة لا غير للثريات في الهند أو باريس، قد تحمل في ثناياها روح بحار غاص بحثا عنها. ويأتي تعبير « أيام كنت بلا مدينةْ» ممثلا للوجه الآخر من الحلم، فالمدينة الحديثة تعني تقدما واستقرارا وقوانين وسلطات منظمة؛ وهذا ما وجده الفايز في حياته : فقد عايش النظام السياسي والاجتماعي العشائري والأبوي قبل النفط، وتحوّلَ هذا النظام إلى الدولة الحديثة التي ترعى أفرادها ولا تتركهم نهبا لتقلبات الطبيعة، المدينة تعني الدولة الحديثة بنظمها ومؤسساتها.
ويقول واصفا البحّار في الأعماق:
إلا حبالي والشراعْ
ويدي المقرحة الأصابع والضياعْ
والريحُ، والأسماكُ في القاع الرهيبْ
غرثى تطاردني بعالمها الغريبْ.
لقد كان الغوص يتم بشكل بدائي جدا، حيث يغلق الغواص أرنبة أنفه بمشبك، ويربط يده بحبل موصول في السفينة، ثم يغوص دقائق في الماء، ولو حدث أي مكروه له في الأعماق، فلا حيلة أمام رفاقه على ظهر السفينة إلا جذبه بالحبل، ليخرج جريحا أو ميتا، ثم يكون البحر قبره الأخير، كل هذا من أجل الرزق لأهله وعياله، ونرى هنا اختلافا في التسمية لأرض الوطن، فلفظة «المدينة» تمثل حلم الوطن والتقدم، ولفظة السواحل تمثل الشاطئ الذي ترسو عليه السفينة، حيث بيت البحار الطيني وأهله وعياله، إنه مجرد أرض استقرار موقت (ساحل)، يعود ثانية منها إلى البحر، وهذا ما كان متحققا في بناء المجتمع الكويتي قديما، حيث كانت أحياء الكويت القديمة عبارة عن شريط ساحلي يمتد مجاورا للبحر في بيوت طينية متلاصقة، وحوارٍ متجاورة، تفضي شوارعها إلى البحر، ويحيط بها سور من الطين. وتكاد الحياة مقتصرة على البحر: صيد السمك، وسفن التجارة، وخروج الأهل والعيال لاستقبال أو توديع الزوج والأب والأخ، ويتكرر المشهد مرات عدة في السنة.
وفي هــــذا الديوان يتعمق الوصف للـــحياة الــــقديمة مــــن منــــظور البحار، إنها حياة جافة، أولها ندرة المياه العذبة، وآخرها جفاف البر، وفقره.
إن هذا الديوان، يشكل ملامح تجربة متميزة في الشعر العربي، وهي تجربة الديوان ذي الموضوع الواحد المعمق عبر قصائد حملت عنوان المذكرات، ولكنها تمثل عمق المواجهة الحضارية الحقة لقضايا الواقع، وقد تصدى لها في جيل الشعر الستيني والسبعيني كل من: محمد الفايز، وعلي السبتي، وقد ألح الفايز في ديوانه الأول على بسط تفاصيل الحياة القديمة للكويت، بمقارنة غير مباشرة مع التطور الجديد في الحياة العصرية، عبر وسيلة فنية مبتكرة، تعتمد على تعميق وصف الحياة السابقة على سبيل المقارنة الوصفية غير المباشرة.
وهو في منظور البعض معبر عن تيار الواقعية الشعرية، الذي يتناول الحياة الاجتماعية للخليجي القديم، ولكنه وصف قهر الإنسان بشكل عام، وهذا ما أكسب هذه التجربة عمقا إنسانيا جعلها تتجاوز الإطار المحلي إلى الإنساني الرحب، وفي نفس الوقت عبّر الفايز عن نفسه أيضا التي عايشت جيلين مختلفين في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية (1). وقد أخذ بعض النقاد على هذا الديوان وجود ملامح نثرية حملت التكرار في ثناياها (2)، وهذا متحقق بالفعل، فالديوان اتخذ شكل شعر التفعيلة، وقد أمعن الفايز في الوصف للحياة البحرية القديمة بكل جوانبها، متأثرا بشكل القصة؛ فقد بدأ الفايز حياته الإبداعية قاصا، وكتب قبل هذا الديوان ست وثلاثين قصة، كما أن شكل المذكرات الذي اتبعه في الديوان مرتبط بالنثر أكثر منه بالشعر (3)، ولكن يحسب للفايز أنه أول من كتب في هذا الشكل الشعري الذي جمع شعر التفعيلة مع ديوان ذي الموضوع الواحد.
في الديوان التالي «النور من الداخل»، نجد الفايز متأرجحا ما بين التفعيلة والعمودي، وإن ظل متناولا قضايا إنسانية رحبة الدلالة، ففي قصيدة «الغجر ومدينة البحار»، يقول:
غجرْ
غجرْ
قوافل الغجرْ قد دخلت مدينتي لتخطف القمرْ
وتسرق الرحيق من براعم الزهرْ
تضع هذه القصيدة المدينة الخليجية موضعا إنسانيا، فقد استشعر الفايز أن الهجوم الحضري على الكويت ليس خيرا كله، بل يحمل بعضا من الشر، يتجلى في محو الهوية، وامحاء خصوصية المجتمع والذات، لذا حفلت القصيدة برموز من التراث الأدبي مثل : روما ونيرون، قصر شهرزاد، الذبح على الصليب، وهذا عائد إلى المرحلة التاريخية لكتابتها، فقد كان هناك زحف للمدينة الحديثة بأبنيتها وأعمدتها الخراسانية ضد الأبنية القديمة التي تحمل عبق الماضي، وتلاحم أهله. لذا أطلق الفايز على هذا الزحف «الغجر»، وهو لفظ لا يخص مجتمعا بعينه، وإنما الغجر جماعات تعيش على هامش المجتمعات الإنسانية، تمتهن السرقة والاحتيال والأعمال غير المشروعة.
وفي هذا الديوان استكمال للمنحى الاجتماعي الواقعي بنفس شكل التفعيلة كما في قصائد: «المسافر مع الأغنيات»، «أغنيتان للحروف المحترقة»، وقصائد جمعت بين التفعيلة والعمودي في نص واحد كما في قصيدة: «عذاري النيل».
وفي الديوان قصائد عمودية عديدة، مثل «من بلاد الهولو»، «العامرية»، «يا نار عينيك»، وهي تجمع ما بين الاجتماعي والوطني والحب العذري، وهو اتجاه يتعمق في الدواوين التالية لهذا الديوان، ويمثل تراجعا ملحوظا في التجربة الإبداعية، ويبدو أن الشاعر حاول التوفيق بين اتجاهه التجديدي، وما هو سائد في زمنه من شعر عمودي ذي أغراض تقليدية، ورغبته في التألق في الأمسيات الجماهيرية التي تحتاج الشكل العمودي الصاخب الإيقاع، فالجمهور الخليجي كان ولايزال ميالا للشعر العمودي. يقول في قصيدة «حملتك دهرا»:
حملتك دهرا في عيوني وفي قلبي
فلم تحفظي عهدي ولم تفهمي حبي
وهبــتكِ أياما كأن شــموسها
تطل بلا شرق وتخبــو بلا غربِ
فالقصيدة رومانسية الطابع، تعتمد على الجماليات الكلاسيكية للقصيدة العربية، مثل الطباق والتشبيه، وتشي الأبيات بالثراء القاموسي للشاعر، وموسيقيته العالية في النص الممتزجة بوجدان شديد الصفاء.
في ديوان «رسوم للنغم المفكر» يعود الفايز إلى البناء الكلي للديوان، فقد بسط الشاعر رؤيته عبر نصوص شعرية متتابعة حملت عناوين من «النغم الأول» إلى «النغم الثامن والسبعين»، وقد التزم فيه الشكل العمودي، ولكنه يحمل روحا فكرية فلسفية الطابع، ارتفعت كثيرا إلى الفضاء الإنساني، بجانب لقطات عاطفية واجتماعية وسياسية. يقول في النغم الثامن:
تجسّمي تجسّمي
يا فكرة في نغمِ
يا جسدًا كأنه
مبرعمٌ في برعمِ.
يكاد هذا النص شديد الوجازة ملخصًا لرسالة الديوان، بمقطع عالي الشاعرية والجماليات، فطموحه أن تكون أفكاره مجسمة وأرى التجسيم بدلالة التحقق الشعري، بمعنى أن تصبح الفكرة نصا شعريا مقروءا، كأنه جسد بشري، أو برعم نباتي. وهذا حققه في نصوصه، نقرأ في النغم الثالث والأربعين:
هوىً تقمص أعضائي إليكِ كـما
تقمص الماء أوراقا وأغصانا
ثيابكِ الحمر والزرق التي رعفت
من كل لون جعلن العمر ألوانا
تحقق في هذا النغم تجسيد للهوى، وقد جعل الشاعر الهوى بدلالة مجسدة، في المحبوبة المخاطبة، فقد جسدها بصور فنية متوالية دالة على تعمق الهوى في النفس الشاعرة، كتقمص الماء للأوراق والأغصان، والتقمص بمعنى التشرب والتوغل في الذات. أما بقية الصور في المقطع فقد جمعت تراسل الحواس : البصري والسمعي والشمي، بجانب حركية الصورة، وهو هنا يبتعد يلامس الجانب الحسي في المحبوبة، بشفافية شعرية عالية.
ويعد هذا الديوان تجربة متميزة في الفعل، ربما يظن البعض أنه تراجع على المستوى الشكلي قياسا بالديوانين السابقين حيث نرى شعر التفعيلة واستخدام الرمز بشكل فاعل، إلا أن الفايز في هذا الديوان يقدم تجربة جمعت موسيقية الشكل العمودي، وتوهج الصورة الفنية.
في بقية الأعمال الشعرية للفايز، نجد أصداء للتجربة السابقة، ولكنها تمثل اتجاهات مختلفة ما بين الرومانسي والوطني والاجتماعي والتغني بجمال الأمكنة والبلدان، كما في دواوين: بقايا الألواح، وحداء الهودج، وذاكرة الآفاق، ولبنان والنواحي الأخرى. وهي تمثل أصداء عديدة لتجربة الفايز، وإن عدها البعض تراجعا في مشروعه الشعري الذي كان واعدا في ديوانيه الأولين، وهذا صحيح نسبيا، وإن كان محافظا على القصيدة الممتدة، كما في ديوانه «ذاكرة الآفاق» حيث نقرأ «قصائد عن بغداد» ممتدة على ست قصائد متتابعة مرقمة، بشكل التفعيلة الممتزج بالشكل العمودي، يقول في القصيدة الثالثة:
ينهض صدرك يا بغدادُ
كبيادر من لؤلؤة
وكقوس من فيروزْ
أزرقٌ
تناولت القصائد البغدادية بغداد: المدينة والتاريخ والبشر والعطاء والطبيعة، وقد عمد الشاعر إلى التحاور مع بغداد عبر صور فنية عالية الشاعرية، تثبت تميزه في قدرته على التصوير الفني، وفي المقطع السابق نلمس وصفا لونيا لبغداد: فهي زرقاء ملتمعة: كاللؤلؤ والفيروز، ونهرها متدفقا حاملا التاريخ والحضارة.
وتتطور التجربة في ديوانه «من خلاخيل الفيروز»، فنجد تجليا رائعا للقصيدة الممتدة دون ترقيم أو عنونه، بل يكتفي بالمقاطع الشعرية المتوالية على امتداد الديوان، وهو يمثل الحلقة الأخيرة في التطور الفني للفايز، حيث استقر فيه على الشكل العمودي، ومزج في بنيته الرومانسي والوطني والمكاني، في خطاب شعري موجه إلى المحبوبة، يقول في مطلعه:
لم يزل شوقها القديم عنيفا
وهو مازال هائما ملهوفا
كيف لا يلتقي الهوى بهواه
ولقد جاء واضحا مكشوفا
فالخطاب العشقي لا يقف عند الحسي من المرأة، بل يتخطاه إلى الزمان والمكان والوطن بشفافية متوهجة، ما يبعد المحبوبة عن النسوية ويدخلها في دائرة الرمز الإنساني الرحب، فالمرأة المعشوقة حملت في مختلف التجارب الشعرية العربية الكثير من الأبعاد ما بين: الحسي والمعنوي في الحب، والمكاني والزماني والفلسفي في الإسقاط، ونرى أن الفايز قد جعل هذا الديوان نفثات شاعر، محملا بموروث شعري خطابي للمرأة المكان والإنسان والزمان، وصهرها في بوتقة واحدة.
إن تجربة محمد الفايز تثبت بجلاء أن التطور والتجديد الشعري في العالم العربي لم يكن يسير على وتيرة واحدة في الإقليم الواحد، ففي حين كانت تسود قصيدة التفعيلة في المراكز الحضارية العربية، كان هناك شعراء في أقطار عربية أخرى يتراجعون عنها إلى القصيدة العمودية، محافظين على التوهج الإبداعي المكتسب من قصائد التفعيلة، وجمالية وموسيقية القصيدة العمودية. وهذا ما ظهر في تجربة محمد الفايز، فتراجعه إلى القصيدة العمودية، دال على أن الذائقة السائدة في الكويت خاصة والخليج عامة في زمنه ومرحلته التاريخية كانت غير متقبلة لقصيدة التفعيلة، فعزف على الوتر العمودي محافظا قدر المستطاع على رؤية تجديدية في الرؤية والجماليات النصية.
* قاص وروائي وناقد أدبي مصري
مقيم في الكويت
(1) راجع: د. نورية صالح الرومي، الحركة الشعرية في الخليج العربي بين التقليد والتطوير، الكويت، دون تاريخ، ودون ناشر. ص463، 464.
(2) السابق، ص463. وانظر أيضا: د. إبراهيم عبد الرحمن، محمد الفايز والتوتر بين الذات والتاريخ، دراسة منشورة في مجلة البيان الكويتية، عدد 71، فبراير 1972م، ص13.
(3) انظر في هذا الرأي، د. ماهر حسن فهمي، تطور الشعر الحديث في منطقة الخليج العربي، دار قطري بن الفجاءة، 1993م، ط3، ص 188، وانظر أيضا: د.سالم عباس خدادة، التيار التجديدي في الشعر الكويتي، دراسة في المضمون والشكل، المركز العربي للإعلام، الكويت، 1989م، ص 344.