ما بين القراءات والنقاشات، والأخذ والرد، نقرأ عبارة لابن خلدون هنا ولمالك بن نبي هناك، ثم نعيش رحلة في البحث عن الحقيقة وتحقيق الحق، نصارع الفكر الأوحد ونتجرد من لباس الانتماءات المختلفة، نقرأ لنقوّم ونقيّم، ونُقيم صروحاً من العلم بالأخذ بالمستجدات الواقعة ومن عِبر الزمان الماضية، تصرخ بنا كلمات ابن خلدون ويُفاجئنا بعلم التاريخ ووقائعه، أظهر الباطن من ذاك العلم وصرّح قائلاً أن الواقع المُعاش ليس هو إلا دوافع أحداث الماضي، وليست أحداث الحاضر ودوافعه سوى أماراة للمستقبل وبناء له، يُصعقنا ببرق العلم القائل إن حاضرنا الذي نعيشه، نتألم ونبكي منه ونفرح ونضحك بسببه ليس واقعاً فعلياً وما هو إلا تاريخ أجدادنا الذي شكّلوه بدوافعهم، ثم يُلقي قدراً ليس باليسير من المسؤولية على كواهلنا بأن ما نفعله وما نخطط له، ما نريده وما نصبو إليه سيُشكّل واقع القادمين من بعدنا فإما يُسعدهم أو يُشقيهم، وخروجاً من عالم الكتب والتنظير نزولاً إلى الواقع الذي ليس بواقع، تُخبر نفسي عما سُبب لها من ألم أو أمل بسبب تراكم أفعال السابقين ودوافعهم، فهل تلومهم أم تشكرهم؟ كلنا يعلم أن لنا من أحداث الماضي عظة وعبرة لكن أن يرسم الماضي حاضرنا يجعل بحثنا عن الحلول لمشكلاتنا بحثاً في التاريخ وأحداثه ودوافع تلك الأحداث، ويجعل من الدراسات التاريخية كنزاً معرفياً ثميناً يسيّر به الحاضر على الخير، وما بين المستقبل الذي يتشكل الآن والحاضر الذي تشكّل في السابق، أساس ذلك التشكيل أو جزء كبير منه وهو الماضي، ثم عودة لتنظير ابن خلدون الذي هو ضرب من ضروب الفلسفة والمعرفة الغائبة عن عامة الناس، بحثاً في الأحداث السياسية التي تعيشها المنطقة. أقول إن ذلك تشكّل تاريخياً عابراً العصور والأزمنة التي هي سلسلة الدوافع والأحداث في الدول والدويلات لقادة و شعوب، نظراً إلى الدولة الإسلامية التي قامت على أيدي خلفاء عدة ثم الانقسام الذي آلت إليه، وانقسامات الأحزاب على مر الزمن منذ وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، مروراً بترسبات الاستعمار لدولنا وصولاً لما نعيشه من أحداث، وتبدل أهداف القادة هنا وهناك، نجد التاريخ شاهداً بأن الانهزامية التي نعانيها والدمار الذي عمّ دولنا والخلاف الذي حطّم الأواصر والصلات، وأن التخلف والضعف وفقدان الهوية والذات ما جاء إلا من تبدّل الغاية من الحفاظ على الكيان العام إلى الحفاظ على الكيان الخاص، ومن تحوّل الهدف العظيم الذي هو إظهار الحق إلى تدنيسه وإخفائه، ومن ضمائر ونوايا تسعى لتعزيز شأن المسلمين ورفع مكانة الأمة إلى أخرى تنظر لمصالح خاصة أشد الخصوصية.

أنوار مرزوق الجويسري
A-aljuwaisri@hotmail.com