كم هي صغيرة في حجمها، وكم هي دقيقة في تفاصيلها، تتسع وتضيق، تبهر وتنبهر، تسحر وتنسحر، مجردة بقدر بعدها عن التجريد... فأوصافها لم تصب مقتلاً كما هي بنفاذ بسهامها. هذه قصة العين التي تجوب الأماكن الواسعة، وهي ساكنة في محجرها، فيسيل صاحبها، ان أراد وتأثر، تلك المشاهد الى كلمات حبكت جماليتها رؤية مبدعة.«بعيون عربية» طرقت «الراي» أبواباً موصدة لخصوصيتها في الشرق والغرب، في مصر، المغرب، الجزائر، موريتانيا، الســـودان، اليمـــن، تركيـــا، فرنســـا، بريطانيــا، وكوبا، فلم يحرقها قيظ الصحراء ولم ينل منها برد الطقس وبعد السفر. كانت العين تتنقل بين جماعات وأشخاص أثارت قضاياهم الجدل، فتلخص ما تغرفه من بحر المعاينة، لتنسكب لحظات للذكرى. كل له مشكلته، كل له طريقة حياة، كل يستحضر التاريخ، وكل يفتش عن المستقبل والأمل وشذى الحياة. جماعات وشعوب تبحث عن هويتها وسط العولمة، أحياناً تحمل السلاح، لعل في لغة البارود حلاً بدلاً من لغة الحوار، لكن غالباً من دون جدوى. ومن بين ثنايا المشاكل تظهر الجماليات، فالمقلب الآخر للأزمات قصص تنبض بالحياة. كم هذا الانسان عظيماً عندما يطلق العنان للابداع، وكم هو ضعيفاً عندما يترك المشاكل تقيده بأصفادها. لكن يبقى لكل انسان، ولكل جماعة، فلسفة خاصة في الحياة. ولذلك تعرض «الراي» على حلقات تفاصيل رحلتها بين الأماكن التي يجمعها الانسان وتفرق بينها القضايا والحدود.

ناصريو مصر شعب يبحث عن قيادة

| القاهرة - من سامي كليب |

يقول الكاتب جون رودنبرغ في مؤلفه الأخير عن العاصمة المصرية: «اني أتجول يوميا بين المعادي ومناطق متفرقة من القاهرة فلا أرى شخصا واحدا يحمل كتابا غير المصحف»، وتقول زميلة صحافية موريتانية زارت أخيراً مصر: «كنت أعتقد أنني سأجد صور الزعيم جمال عبدالناصر على كل الحيطان، وأن تماثيله منتشرة في الساحات العامة، لكني لم أجد غير اعلانات الهواتف النقالة وصور الفنانين اللبنانيين والمصريين وأناس يخرجون بالمئات من المساجد وينظرون إلي شذرا». التوصيفان صحيحان في مصر التي تغلي على جمر الاخوان المسلمين من جهة، وتشهد بين الوقت والآخر «تنفيسات» شعبية تنم عن احتقان، غالبا ما يكون اقتصاديا واجتماعيا فيتمظهر بمظاهر «الناصرية» تارة، و«الإسلاموي» تارة أخرى، ولكنه في الحالتين يعود للسكون بانتظار مناسبة أخرى. هل في مصر ناصريون فعلا؟ من هم؟ ماذا يريدون؟ ولماذا سلموا الكثير من مفاتيح الحركة الشعبية للاخوان المسلمين؟من هذه الأسئلة بدأت رحلة «الراي» هذه المرة إلى القاهرة «بحثا» عما بقي من أحلام «الزعيم» جمال عبدالناصر.«يا أخي بلا عبدالناصر، بلا كلام فارغ، الشعب عايز ياكل والريس السادات جابلنا السلام والعيش، والريس مبارك قام بالضربة الجوية الأولى ضد الجيش الإسرائيلي عام 1973 ولكنه كان عارف ان العرب مش بتوع حرب فاختار لنا السلام، والحمد لله مصر بخير». كان هذا جواب سائق التاكسي البيضاء بين المطار والفندق. وسائقو التاكسي في القاهرة رواية بحد ذاتها، لا بل روايات متنقلة. غريبة تلك القدرة الهائلة التي يتمتعون بها لاختلاق الروايات أو لاستنباط النكات والطرائف خصوصا حول الرئيس حسني مبارك وعائلته، وغريبة أيضا قدرتهم على اقناع الزبون بدفع الأجرة مضاعفة مرات عدة، والمبررات كثيرة تبدأ بمرض أحد أفراد العائلة، لتصل إلى احتمال الطرد من الوظيفة لأنه لا يستطيع اصلاح عطل طرأ هذا الصباح على السيارة. وغالبا ما لا يقتنع الزبون بالرواية ولكن إما روح النكتة أو الترحيب الزائد عن اللزوم أو الرغبة في الانتهاء سريعا من هذا النقاش يدفع الزائر للتخلي عن النقاش ودفع الأجرة.ولأن لقمة العيش هي الأساس، فإن الكثير من التاريخ الناصري كاد يفقد بريقه وسط الدعاية الهائلة التي بدأت مع عصر السادات واستمرت حتى اليوم والقائلة بأن الحروب التي خاضها الرئيس الراحل والأخطاء التي ارتكبها أمنيا وسياسيا واقتصاديا أدت الى تدهور أحوال المصريين وصرف أموالهم على قضايا كانوا بغنى عنها. ولكن لقمة العيش نفسها هي التي تدفع قطاعات واسعة من الشعب المصري لكي تستذكر اليوم العهد الناصري معتبرة أن أوضاع الناس كانت فيه أفضل وأن الشعب كان يعيش نوعا من الاشتراكية المرفهة.السلطة تقول ان العالم تغير، وان ما كان يصلح قبل نصف قرن ما عاد صالحا اليوم، والدكتور عزيز صدقي (أب الصناعة المصرية في عهد عبدالناصر) يجيب بأن على السلطة ألا تبيع المصانع التي كان عبدالناصر يريد أن يبني منها ألفا كل شهر.الواقع أن لا هؤلاء على حق ولا أولئك مخطئون، ان الناصرية كانت ولا تزال مطية للمؤيدين والناقدين، ويمكن استخدامها كيفما اتفق ربما لأنها كانت ولا تزال فضفاضة إلى أقصى حد.

البحث الصعب عن ناصريين«فتش عن الناصرية ستجدها في عيون الناس، لكن لا تفتش عن قيادات ناصرية فهي غير موجودة ولو وجدت ستجدها تتقاتل وتتناهش مقاعد القيادة»، التوصيف الذي يطلقه زميلنا الصحافي المصري مرشدنا في هذه الرحلة قد لا يخلو من بعض الظلم، ولكن التاريخ الناصري بعد وفاة المؤسس يعطيه بعض الحق.ومن المفارقات في مصر، أن الرئيس السادات الذي كان المبادر إلى القضاء على «تركة الزعيم» هو نفسه الذي سمح بقيام التعددية التي سمحت بدورها بعودة الناصرية إلى العلن. حصل ذلك عام 1975 حين قرر السادات شيئا من الانفتاح السياسي تحت اسم «المنابر السياسية» التي أصبحت في نهاية عام 1967 أحزابا وبقيت طيلة 30 عاما محصورة بـ 21 حزبا.انتظر الناصريون حوالى 22 عاما قبل أن يتم السماح لهم بتأسيس حزب «علني» و«شرعي»، ففي عام 1992 تقدمت مجموعات وفصائل ناصرية عديدة بطلب ترخيص لتأسيس حزب، لكن لجنة الأحزاب رفضت كل الطلبات بما فيها تلك التي تقدم بها الفصيلان الأساسيان بقيادة كل من ضياء الدين داود (يكتبها المصريون بواو واحدة) والمحامي الراحل فريد عبد الكريم (وكيل مؤسسي الحزب العربي الاشتراكي الناصري)، ثم حسمت محكمة القضاء الاداري الأمر بقبولها الطعن الذي تقدم به داود وقبلت تأسيس «الحزب العربي الناصري» بقيادة داود نفسه (الذي كان وزيرا للشؤون الاجتماعية في الستينات)، فانقسم الناصريون بين مؤيدين لجمع كل التيارات داخل الحزب «الشرعي» وبين الرافضين وبين «عصبة طلعت حرب» و«زمرة عابدين» تيمنا بمقري الحزبين، ولم يخل الأمر من بعض الشتائم واستخدام العنف. وبين الحرس القديم الذي قاده فريد عبد الكريم تحت اسم «الحزب الاشتراكي المصري الناصري» (غير المرخص له)، والقيادة الشرعية برئاسة داود والحاملة لواء «الحزب العربي الناصري»، برزت تيارات أخرى شبابية تمثل جيلا جديدا يريد الحفاظ على الصورة النزيهة للرئيس جمال عبدالناصر، ولكنها في الوقت نفسه ترغب في التصدي لمشاكل المجتمع والناس والاقتصاد والحياة والحريات العامة بجرأة أكبر وفي الشارع.ومن هذه المجموعة برز أمين اسكندر كأحد المنظرين والصحافيين البارزين، وحمدين صباحي الذي وصل إلى النيابة من خلال قدرته على مخاطبة الشعب بلغة غالبا ما تكون «شعبوية» مبسطة لا استراتيجية أو فكرية مؤدلجة، وهؤلاء كانوا في طليعة مؤسسي حركة «الكرامة». كما ظهر الى العلن «حزب الوفاق القومي» برئاسة الدكتور رفعت العجرودي (الرفيق السابق لفريد عبد الكريم والذي ترشح للانتخابات الرئاسية عام 2005)، وتأسست «اللجنة العربية لتخليد القائد جمال عبدالناصر». واضافة إلى هذه الأطراف الثلاثة، يمكن رصد « الحزب الناصري – تحالف قوى الشعب العاملة» بقيادة كمال أحمد، و«حزب الانقاذ» الذي أسسه أحمد شهيب ومحمد عبدالله عقل وحسن بديع، و«الوفاق القومي» و«مصر 2000» إضافة إلى بعض المجموعات الصغيرة التي تفضل الحفاظ على تركة عبدالناصر لكن دون الانتظام بأي من التيارات المتنازعة.  واللافت انه قبل حصولهم على الشرعية، استطاع الناصريون ايصال 4 أشخاص منهم إلى مجلس النواب وذلك في انتخابات عام 1990 التي شاركوا فيها للمرة الأولى ورشحوا إليها 20 شخصا اما على أساس مستقل أو على لوائح أحزاب أخرى بما في ذلك الحزب الوطني الحاكم، لكن بعد حصولهم على الشرعية لم يوصلوا إلى البرلمان سوى مرشح واحد في انتخابات عام 1995 من أصل 35 مرشحا. البعض رأى في ذلك ثمرة لانشقاقاتهم وفوضويتهم وصراعاتهم وغياب القائد الكاريزماتي، بينما هم يعتبرون أنهم لم يشاركوا فعليا في الانتخابات الاولى، وانهم تعرضوا في الثانية لعمليات التزوير الفاضح، ويقولون ان المرشحين الـ 34 الذي فشلوا، كانوا قد حصلوا على أحكام قضائية بفوزهم بعد الطعون التي تقدموا بها لكن رئاسة البرلمان رفضت ذلك متسلحة بالمادة التي تقول: «ان البرلمان سيد نفسه» ذلك ان ثمة فصلا تاما بين الجهازين القضائي والتشريعي ولا يحق للقضاة فرض قرارات على البرلمان.

عبدالناصر بقليل من الجنيهاتيبتسم سائق التاكس حين يسمع السؤال عما إذا كان يعرف أين ضريح الرئيس جمال عبدالناصر، يسارع إلى الاجابة بخفة ظل المصريين: «هو يعني في غير ضريح واحد؟»، ثم يشرح كيف أن الناس ما عادت تزور قبر الزعيم الذي شغل العالم لما يقارب 17 عاما إلا لماما؟ يضيف السائق ان السائحين غالبا ما يطلبون منه زيارة ضريح السيدة أم كلثوم، أو العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ.وفي الطريق إلى الضريح، وقفة لابد منها عند أحد المسؤولين الناصريين السابقين. لا داعي لذكر الأسماء، ولكن لابد من ذكر الواقعة ربما لأن فيها ما يشرح جزءا من مأساة عبدالناصر مع بعض الذين أحاطوا به وأنزلوه في بعض المطبات والمنزلقات الخطيرة. يرحب المسؤول السابق، ثم يجلس خلف مكتبه لاحاطة نفسه بشيء من الهالة التي فقدها على الأرجح مع مرور السنين. يريد الايحاء بأنه كثير المشاغل وأن الملفات الكثيرة المبعثرة أمامه لا تترك له شيئا من الوقت لاستقبال صحافيين حتى ولو أن الأمر متعلق بالحديث عن الناصرية وعما بقي من عبدالناصر. يستأذن، ويغمز للزميل الصحافي المرافق لنا بأن يلحق به الى الغرفة الثانية، يعود بعد دقائق مرحبا بسعادة أكبر ومعربا عن الاستعداد للافاضة في الحديث.قال كلاما عاما، شرح ان الناصريين موجودون في صلب المجتمع المصري وان «معظم المجتمع إن لم يكن كله هو ناصري الهوى» وكرر ما هو معروف حول الحملة لمقاطعة اسرائيل وتحدي المشروع الاميركي والتصدي لعملية التوريث السياسي ورفض الليبرالية الاقتصادية المتوحشة.شرح مرافقنا الصحافي بعد اللقاء، ان كل قضية الغمز والاستئذان والدخول الى الغرفة الجانبية، كان لطلب بدل مادي للمقابلة، انقضى الأمر بحوالى 150 دولارا أو ربما أقل.تتبدل الصورة عند الناس العاديين، ويكفي لزائر مصر والباحث عن «الفكرة الناصرية» أو عن «تركة عبدالناصر» ان يذهب إلى الصعيد أو إلى العريش وسيناء ويقابل الناس الطيبين والفلاحين ومن بقي من «منظمة سيناء العربية» التي ضمت في صفوفها الكثير من بدو المنطقة، ليشعر باعتزاز الناس بناصريتهم واحتفاظهم بصور وذكريات الرجل الذي يرفضون تسميته بالرئيس الراحل ويصرون على مناداته بـ «الزعيم».فهناك في البيوت المتواضعة، تأتي أطباق الفول والطعمية (الفلافل) والجبنة البيضاء «المكبوسة» والبصل والزيتون والخبز المخبوز لتوه متوجة بابتسامة صادقة وكرم نابع من القلب وقافز فوق حدود الفقر. وويل لمن يحاول أن يقدم هدية مالية لهؤلاء الناس المؤمنين بأن الناصرية هي وحدها طريقهم الى الخلاص.. تختلف الصورة تماما بين ناصريي العريش وناصريي العروش. مبادئ ضرورية ولكن...يرفع الناصريون في مصر مبادئ عامة تبدو ضرورية في الكثير من جوانبها، ولكنها لم تعد حكرا عليهم، فالكثير من مطالبهم مندرجة في برامج أحزاب اخرى من المعارضة، لكن الشارع المصري يبدو متجاوبا إلى حد بعيد معهم، حتى ولو أن الاخوان المسلمين نجحوا في خطف الكثير من وهجهم. فالحزب الناصري يناهض سياسة الخصخصة ويدافع عن القطاع العام، ويحذر من بيع المصانع ويتهم السلطات بأنها تبيع بعضها إلى مستثمرين أجانب ويهود، ويرفض فكرة العولمة والليبرالية المتوحشة، ويواجه التطبيع مع إسرائيل، ويعادي السياسة الخارجية الاميركية ويدعو إلى وضع استراتيجيات اقتصادية جديدة تخفف من البطالة وتوفر فرص عمل للشباب وتعزز مجانية التعليم والحريات. كما يدعو إلى التضامن مع سورية ولبنان.تستطيع هذه المبادئ تحريك الشارع المصري خصوصا حين تشتد الأزمات الاقتصادية أو حين تتوالى صور الهمجية الإسرائيلية والسياسة الدموية الاميركية في العراق، لكن الشارع الذي يتحرك ليس بالضرورة ناصريا، انه شارع محتقن ومأزوم وقابل للتحرك لا بل والانتقال إلى مرحلة أكثر خطورة، ولذلك تكثف السلطة المشاريع الاقتصادية والانمائية بقدر ما تكثف الهراوات وخراطيم المياه ورجال الأمن.

قيادات وهراوات«ان لعنة الفراعنة تنطبق على الجميع عندنا في مصر بدءا برئيس الجمهورية وصولا إلى قادة الأحزاب الموالية أو المعارضة»، يقول زميل مصري، وهو يعبر في ما يقول عن «سرمدية» القيادة بحيث ان بقاء الرئيس مبارك في السلطة وفي قيادة الحزب أكثر من ربع قرن يقابله استمرار بعض قادة الاحزاب في مواقعهم لفترات مماثلة أو ربما أطول (الوفد والتجمع، وحاليا الناصري)، الأمر الذي جعل القاعدة تنفر من القيادة وتنقلب عليها أكثر من مرة.حاول بعض المعترضين عام 2002 احراق مقر الحزب، اعتراضا على القيادة ورغبة في التغيير. وشهد المؤتمر الرابع للحزب عام 2006 أسوا المعارك، حدثت تغييرات طفيفة وبقيت معظم المشاكل. انتظر ضياء الدين داود سنوات عديدة قبل أن يعلن نيته اعتزال العمل السياسي وترك الرئاسة لقيادات شابه، وذلك بعد أن كان قد سبقه إلى خطوة مماثلة خالد محي الدين على رأس حزب «التجمع» فأصبح رئيسا شرفيا أو فخريا للحزب. تشكلت «كتلة التغيير والاصلاح» رافعة شعار تغيير القيادة. رشحت سامح عاشور (نقيب المحامين) ليحتل منصب نائب الرئيس. واجهها الأمين العام أحمد حسن وفريقه بعد أن تبين لهم ان المعترضين يريدون فاروق العشري أمينا. انتهى المؤتمر الرابع بلا نتائج وبعبارة تقول انه تم تجديد الثقة «في السيد رئيس الحزب». عبارة تشبه إلى حد بعيد تلك التي تقولها الأحزاب العربية الحاكمة بعد كل انتخابات من تلك التي يحصل فيها الرئيس عادة على 99،99 في المئة من أصوات شعبه الغفير والغفور. قال «مرصد حالة الديمقراطية بالجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية» في حينه ان ما حصل في مؤتمر الحزب مؤسف وبرر ذلك بأمرين أساسين، أولهما «القانون 40 لسنة 1977 المنظم لعمل الأحزاب السياسي وتعديلاته التي كان آخرها القانون 77 لسنة 2005، ذلك انها قوانين تهدف في الأساس إلى منع تشكيل الأحزاب وتتنافى نصوصها مع الشرعة الدولية لحقوق الانسان»، وثانيهما «ان رؤوساء الأحزاب ومعاونيهم من أعضاء المكتب السياسي يتعاملون مع الأحزاب على أنها ملك لهم وعلى أنهم أصحاب رخصة الملكية الممنوحة لهم من قبل الدولة فيتصرفون في الحزب كيفما يشاؤون...». وصل الأمر بالكاتب أحمد الجمال لأن يكتب على صفحات الجريدة الناصرية «العربي» مقالات تنعي الحزب وتقول انه تحول إلى جثة أو إلى «جثمان ميت» خصوصا بعد أن دخل ممثل الهيئة البرلمانية للناصريين حيدر بغدادي صفوف الحزب الوطني، وبعد أن فشل الحزب في ايصال اي من أعضائه إلى مجلس الشعب بمن فيهم رئيسه الذي فشل في دائرته بدمياط. وبعد حملات التناهش والاشتباكات المتعددة الوسائل، نشر في مارس الماضي خبر في الصحف المصرية يقول ان سامح عاشور نقيب المحامين المصريين ورئيس اتحاد المحامين العرب فاز بمنصب النائب الأول لرئيس الحزب العربي الديمقراطي المعارض، فيما أرجأ مؤتمر عام الحزب اختيار أمين عام له والنواب الثلاثة للرئيس إلى موعد آخر لم يحدد. وانسحب أحمد حسن الأمين العام للحزب من الاجتماع احتجاجا على جدول الأعمال الذي قال ان انصار عاشور فرضوه عليه.  قد يكون من الظلم تحميل الناصريين كل مسؤولية عدم القدرة على تأطير «شعبهم» الناصري الغفير، فالمسؤولية تقع أيضا على الدولة التي سنت قوانين كثيرة لمنع قيام أحزاب حقيقية وقادرة على المنافسة، ولكن لا شيء يبرر أن تكون القيادة الناصرية بمختلف تلويناتها غير قادرة على تجميع نفسها رغم المحاولات الحثيثة التي بذلت سابقا في هذا السياق، فلماذا نجح الاخوان المسلمون على الأرض الخصبة نفسها التي كان من المفترض أن يكون الناصريون طليعيين فيها. ولماذا أصبح «الحزب الناصري في حالة من الضمور والانكماش لا تليق به» وفق ما يقول عاشور نفسه؟ ان الناصرية في مصر تشبه إلى حد كبير تلك الأفكار والايديولوجيات والأديان التي غاب مؤسسوها ودعاتها ورسلها ولكنها توسعت وانتشرت على مستوى الشعوب وتمزقت على مستوى القيادة. هل يعقل ألا يستطيع حزب جمال عبدالناصر المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة لأن المادة 76 من الدستور لا تسمح لحزب بالمشاركة إلا إذا كان له نواب في مجلس الشعب. لا شك ان في الاخوان المسلمين أنفسهم كثيرا من الناصريين. وفي حزب «الكرامة» الكثير من الناصريين أيضا، وفي كل تحرك شعبي وتظاهرة واحتجاج الكثير من الناصريين. ولكن أين هو القائد الناصري الكاريزماتي الشريف؟ ان حزبا لا يستطيع أن يصلح نفسه، كيف يمكنه ادعاء اصلاح الدولة؟

جورج إسحق:  المصريون قلقون

الراي: تناضلون لتغيير الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في مصر؟ ما هي مآخذكم على ما هو قائم، وحبذا لو قدمتم لنا بعض الأمثلة والأرقام؟اسحق: نحن نعاني من حالة انسداد حركي بسبب وجود سياسي سلطوي وفاسد بكل مؤسساته وسياساته وبين ثقافة سياسية تقوم على الترويع، نحن نعترض على ما هو قائم بسبب تردي الخدمات الصحية والتعليمية في مصر ومحاولة النظام الآن خصخصة الصحة والتي يستفيد منها 32 مليون مصري في مقابل دفع اشتراك مادي بسيط، العاطلون عن العمل في مصر يتجاوز عددهم 8 مليون نسمة، الأمراض الخطيرة منتشرة نتيجة استخدام المبيدات المسرطنة، الشباب الذي تجاوز سن الزواج حوالي 11 مليون مواطن، لكل هذه العوامل وليس الحصر تجعلنا نريد التغيير.الراي: معظم المراقبين للشأن المصري يشيرون إلى قلق حول المستقبل، فمصر دولة مركزية ومحورية وما يصيبها يصيب الأمة العربية جمعاء، هل أنتم قلقون؟ وما هي الملفات التي تقلقكم أكثر من غيرها؟اسحق: كل المصريين في حالة قلق شديد على الوضع في الداخل وذلك بسبب تردي الأحوال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع غموض الرؤية حيث لا يوجد حتى الآن نائب لرئيس الجمهورية وبرغم تعديل المادة 76 للدستور مرتين فان هذه المادة لا تتيح الفرصة لأحد للترشح واستحقاق الرئاسة سوى نجل الرئيس الذي يواجه قوى كثيرة في المجتمع المصري رافضة له مما سوف يثير القلاقل.الراي: بغض النظر عما حققه الاخوان المسلمون من نجاحات أو اخفاقات في بعض المؤسسات السياسية والاجتماعية (ومنها مجلس النواب)، فإن السؤال مطروح حول مستقبل دورهم. كيف تنظر إلى هذا المستقبل؟ وهل تعتقد أن مشاركتهم الآن أو لاحقا في السلطة أمر حتمي؟ وهل هو أمر ايجابي بالنسبة لكم؟اسحق: الإخوان المسلمين قوى لا يستهان بها على الإطلاق ولا يمكن تجاهلها ولكن خطابها السياسي مرتبك وغير واضح وعلى الإخوان تعديل خطابهم السياسي ووضع رؤية واضحة للحزب الذي ينوون إعلان قيامه، وعليهم أن يعلنوا صراحة هل هم حركة دعوية أم حركة سياسية، ونحن ان كنا نؤمن بالديمقراطية فإننا نقبل أي قوى تصل إلى السلطة عن طريق صندوق الانتخاب.الــــراي: كــــيف تـــنظــــرون فــي حـــركة كـــفـــايـــة إلــى حــصــيــلة الـــســـلام مع إسرائيل على المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية؟اسحق: لقد أضرت العلاقات المصرية الإسرائيلية بمصر أكثر مما أفادت ولذلك نحن في حركة كفاية نطالب بإعادة النظر في معاهدة «كامب ديفيد» خاصة وقد مضى عليها الآن أكثر من ربع قرن، هذه المعاهدة تحمل في طياتها أشياء خطيرة على مصر وعلى الدول المجاورة لها، هذا إلى جانب أن المصريين جميعاً رفضوا أي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل ومعظم الشعب المصري لا يريد التعامل مع إسرائيل نظراً لجرائمها الفجة في الأرض المحتلة.

 العصيان المدني  في 23 يوليو

تبنت حركة «الكرامة» فكرة العصيان المدني وكتب النائب السابق والناشط الناصري حمدين صباحي من على رأس الحركة التي شارك في تأسيسها يقول ان: «الجوع والفقر والفساد والاستبداد من خلفكم، وتزوير الانتخابات وإغلاق طريق التداول السلمي للسلطة من أمامكم. وليس والله من سبيل إلا العصيان.إنها المقاومة المدنية السلمية، لا سلاح ولا إرهاب ولا اقتتال ولا سفك دماء بل وسائل تعبير سلمي علني جماعي عن رفض الهوان وسلطة الهوان.ومن يعاني من هذا النظام ويتقاعس عن المشاركة في تغييره ولو حتى بالجلوس في بيته ورفع علم يكون راضيا بالمذلة قابلا للاستعباد، ويكون قد قبل على نفسه أن يعيش ما بقي من عمره راضيا بالضرب على قفاه».

أرقام وحقائق

1907- تاريخ تأسيس أول حزب سياسي في مصر باسم «الحزب الوطني» على يد مصطفى كامل.1919- البداية الحقيقية للتعددية الحزبية في مصر مع تأسيس حزب الوفد بقيادة سعد زغلول للتفاوض مع الانكليز على انهاء الاحتلال.1952- قيام ثورة يوليو بقيادة محمد نجيب وجمال عبدالناصر أدت إلى حل الأحزاب.1975- السادات يقرر عودة التعددية عبر «المنابر السياسية» التي تحولت في نهاية 1967 إلى احزاب.- بين 1976 و2005 تأسس في مصر 21 حزبا بقي منها حوالى 19 في بلد قارب عدد سكانه 70 مليون نسمة أو ربما تخطاه.1992 ظهور أول حزب ناصري شرعي باسم «الحزب الديمقراطي الناصري» برئاسة ضياء الدين داوود.1972- هو التاريخ الذي يقال ان الكاتب محمد حسنين هيكل أطلق فيه كلمة «الناصرية» وذلك في مقال نشره في صحيفة «الأهرام».

قراءة في دفتر أحوال مصر

|   بقلم أمين اسكندر *   |

تعيش مصر منذ ما يقرب من 35 عاما مضت، مرضًا مستعصًيا يتجلى أبرز وأهم أعراضه بتقليم الدور المصري وتقزيمه بما يتناسب مع اتفاقية كامب ديفيد بين النظام المصري والكيان الصهيوني وبين النظام المصري والنظام الأمريكي الذي عانى كثيرا من دور مصر القومية فى عصر الزعيم جمال عبدالناصر.بعد حرب أكتوبر مباشرة واستثمارا لتفاعلات تلك المواجهة العربية الإسرائيلية نجحت الولايات المتحدة وبالتنسيق الكامل مع إسرائيل في رسم ملامح لدور مصري جديد يتناسب مع عصر ما يسمى بالسلام، بدأت هذه الملامح بالداخل المصري حيث صدر قانون استثمار راس المال الأجنبي والعربي عام 1974 وانطلق قطار الانفتاح سداحا مداحا ثم جاءت الخصخصة وبيعت أصول مصر الاقتصادية وواكب ذلك فض الاشتباك الأول والثاني ثم زيارة القدس، ومن بعدها توقيع اتفاقية كامب ديفيد التي نصت بشكل واضح على التزام مصر بهذة الاتفاقية المناقضة لمعاهدة الدفاع العربي المشترك بما يعنى ذلك من ضرب لفكرة أمن مصر القومي، وهكذا ظهر دور مصر القومى فى المنطقة، دور يراد له ان ينفذ ما يطلب منه حتى يحافظ على المعونة الأمريكية سواء كان ذلك فى قضايا الصراع مع إسرائيل الذي أصبح دور مصر فيها وسيطا او حتى منحازا لصالح التصور الأمريكي _ والإسرائيلي.وكذلك الأمر فى قضايا العلاقات العربية او فى سياق المواجهة العربية الأمريكية فكلها مواقف ملتزمة بالخط الأمريكي وبالمعونة الأمريكية.ومن جراء تلك السياسة وذلك الدور أصبحت مصر تعانى فى الداخل بشدة ويكفى ان نتعرف على خارطة الأرقام آلتي يرزح تحت نيرها المصريون حتى نعرف أحوال مصر الآن وطبيعة وحجم المعاناة:- 44 في المئة من الشعب تحت خط الفقر أي اقل من دولار واحد باليوم.- الأموال المهربة إلى الخارج يصل حجمها الى ما يقارب 300 مليار دولار.- 10 في المئة من السكان تقريبًا يعانون من مرض السكر.- 100 آلف حالة سرطان تضاف سنويًا الى مرضى السرطان.- حوالي ستة ملايين عاطل عن العمل من قوة العمل.- 45 في المئة من الشعب يسكنون الأحياء العشوائية، 35 منطقة عشوائية بالقاهرة فقط.- 4 مليون مهاجر منهم 820 آلف من الكفاءات و2500 عالم في تخصصات دقيقة.- 26 في المئة من الشعب يعيش الأمية الأبجدية.- 6 مليارات دولار سنويا فى تجارة المخدرات.- حالة الطوارئ مفروضة منذ ما يقرب 26 عاما.- خسائر 8 مليارات جنيه خسائر شركات الغزل والنسيج، 12 مليار جنيه عجز اجمالي لسكك حديد مصر 10 مليارات جنيه بقطاع الإذاعة والتلفزيون، خمسة مليار جنيه خسائر في الصحف القومية.لكن المشكلة الكبرى التي يعيشها المهمومين في مصر تكمن في تلك المعادلة بين الحزب الحاكم ومؤسساته الأمنية ورجال أعماله من جهة، وحركة الاخوان المسلمين ذات الجماهيرية الواسعة وذات التوجه اليميني على مستوى الاقتصاد والثقافة من جهة ثانية. ان الشعب المحكوم بتلك المعادلة الثنائية للقوى لا يشعر بأنها السبيل الصحي للتعبير عنه، والشعب يفتقد الى قوى اليسار بثقلها العمالي والفلاحي ما يجعل رافعة التغيير ضعيفة وهشة مما يؤجل عملية التغيير لحين نضج الظرف الذاتي لقوى التغيير أو أن يكون التعويل من جانب المهمومين بحالة مصر يقترب من درجة التمني بتحرك الجيش حتى لا يقع التوريث او الدعوات من اجل ان نخلص عزرائيل مشكلة التوريث المحتمل فى مصر.