| علي الرز |

|   علي الرز   |

آخر كلمة قلتها كانت «يا الله» ... بعدها لم اقل شيئا لكني سمعت الآلاف يقولون «يا الله».ترجلت صعودا من سيارتي والتاع قلبي من هول المنظر... يا حفيظ  يا حفيظ شو صاير؟ حرائق ودمار وقتلى وجرحى. واجهة بيروت الجميلة تحولت الى برلين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والمواطنون الذين كنت اسعد بمنظرهم يتنفسون من هذه الرئة عصر كل يوم صاروا مسعفين ومنقذين وباحثين بوجوه مغبرة وعيون خائفة وقلوب واجفة.ماذا يحصل! شرفوا «القبضايات». كل واحد معه حمايته، بعضهم اصطحب مجموعة منتقاة من حملة الخراطيم والادوات الحادة والاجهزة التكنولوجية الصغيرة المتطورة ولابسي القفازات. كانوا اول من وصل وضربوا طوقا ودفعوا الناس والاعلاميين دفعا خارج مربع الموت... ثم بدأوا «تحقيقاتهم الاولية»: تنظيف لوحات السيارات هنا. سحب بعض القطع المعدنية هناك. نقل بعض الاشياء من اماكنها. تجميع مواد ووضعها في اكياس خاصة.   بعضهم  يقترب من سيارتي بفرح كي يتأكد من انني غادرت ثم يداري ابتسامته البلهاء والخبيثة في آن امام عدسات الكاميرا ويتحدث عن دقة المرحلة والمخاطر التي تحيط بلبنان والتدخل الاجنبي. هذا المخبر الصغير الذي كان يكتب التقارير ضدي ويرسلها من مكتبي، وهذا من سطر كل الاستنابات القضائية ضد جميع من كانوا حولي وكان الغطاء القانوني للجرائم التي شهدها البلد، وهذا «العبقري» صانع الرؤساء وقلب النظام المشترك النابض بالتآمر، وهذا الغبي الذي يتباهى بانه قائد حرس السيارات المفخخة وخفافيش الليل. هذا الوزير الذي اوهموه ان شتيمتي اقصر الطرق الى التقدم السياسي، وهذا النائب الذي ارسل نظرية «تخلصوا منه» الى من يهمه الامر وفاء لجزمة الضابط التي اوصلته الى مقعده، وهذا الضابط المتكبد عناء النزول من عنجره الى بيروت محاطا بجماهير الامن والاستطلاع يردد تصريحات وزيره الفاروق عن التفجير وتداعياته، مع فارق ان الفاروق غيب اسمي بعد تغييب جسدي... غريب ان يمتلئ قلب انسان بكل هذا السواد.      ما همني منهم، لم يتغيروا ولن يتغيروا. عيناي كانتا تبحثان عن الذين يبحثون عني. عن الآلاف المتجمعين خارج الحلقة الامنية يبكون ويصلون ويتمنون ألا يحصل ما كانوا يسمعونه. عيناي كانتا تبحثان عن رفاق موكبي متضرعا الى الله ان يلطف بهم وان يجتازوا معبر الغدر بسلام عائدين الى اهلهم، سكنني التفاؤل عندما تأخر باسل قليلا عن اللحاق بي لكنه خانني مجددا وانا ارى طارق ابن ابو طارق يجثو على ركبتيه ورأسه بين يديه ودموعه تنطق: حسبي الله ونعم الوكيل.كانت الغربة عند الذين غيبوني والوحشة عند الذين قتلوني. لا ادري لماذا شعرت ان الانفجار قربني اكثر من الناس. كأنه نقلني من سيارتي الى سياراتهم وبيوتهم وقراهم ومدنهم وقلوبهم. لا ادري لماذا شعرت عندما قال المذيع «انا لله وانا اليه راجعون» بحياة اخرى متجددة لي وللبنانيين وللبنان. لا ادري لماذا شعرت انني انتقل سيرا على الاقدام من السان جورج الى مستشفى الجامعة الاميركية ومن المستشفى الى قريطم. لا ادري لماذا شعرت انني اشارك زوجتي الحبيبة وعائلتي واولادي الاعزاء مراسم العزاء، كنت اعطي كتفي لنازك لتضع رأسها عليه اذا تعبت، واحضن بهية اذا انهارت، وامسح بيدي على جبين بهاء اذا عرق، وأكفكف دمعة سعد اذا انهمرت، وارفع معنويات ايمن وفهد وجمانة وعدي... اما الوحيدة التي لم استطع مساعدتها وكنت اتحاشى النظر اليها فكانت هند لانها الوحيدة في العالم التي اشعر انني اضعف منها ولا اقوى على مواجهة نظرة العتب والملامة في عينيها.من قريطم الى قلب بيروت، كنت في مقدمة الموكب وكأن من كان في النعش غيري. صارت الجنازة عرسا للوفاء. عرس وحد اللغة والشعارات والهمم من اجل مستقبل آخر. نعش فوق عرش فيما العريس يختلط بحاملي مشاعل الالم المصممين على اكمال المسيرة ولو عبر دروب مفخخة.كانت الغربة عند الذين غيبوني والوحشة عند الذين قتلوني. فكل يوم التقي الناس والمحبين امام زوايا الضريح. اراهم ولا يروني، اسمعهم ولا يسمعوني. اطمئن الى ان «البلد ماشي» مهما فعلوا... لكن الامور تغيرت لاحقا. صارت الطريق التي عبرتها من قريطم الى مسجد محمد الامين غير، والشعارات غير، والمطالب غير، والحقيقة غير، والاهداف غير. صار قلب بيروت متهما يجب اعتقاله وصارت بيروت مدانة تجب محاسبتها وصارت كل دمعة ذرفت بعد 14 فبراير خطيئة تستوجب رجم صاحبها.بعد ثلاث دقائق من التفجير كانت الغربة عند الذين غيبوني والوحشة عند الذين قتلوني. بعد ثلاث سنوات قال الفاروق، الذي نسي اسمي، انه اقوى في لبنان اليوم من اي مرحلة اخرى. اقوى بمن؟ اقوى فينا؟ بأهلنا؟ لا اريد ان اصدق.يعتقد من قتلني انه لم يعد غريبا ومستوحشا. «بس هيدا الشعور مش دقيق» و «البلد ماشي» و«ما حدا اكبر من البلد». ساحة الجريمة اوصلتني الى ساحة الشهداء وساحة الشهداء ستوصل المجرم الى المحكمة… ولا يشرفني هناك ان تذكر اسمي او تناساه.

Alirooz@HOTMAIL.COM