|   علي الرز   |

في خلال يومين، وبعد لقاءين، وعبر تصريحين متشابهين، كذبت كل من سورية وليبيا ان تكون المحادثات التي اجريت بين مسؤولين فيهما ومسؤولين اميركيين تطرقت الى قضية المعتقلين السياسيين وحقوق الانسان... وبعد ذلك بأيام زجت السلطات السورية في السجون دفعة جديدة من الناشطين الديموقراطيين الموقعين على «اعلان دمشق» وعلى رأسهم النائب السابق و«السجين الدائم» رياض سيف الذي عاد الى زنزانة تآلف معها لسنوات اثر «ربيع» توهمه. غريب امر الدول العربية التي تعقد محادثات مع من تسميهم ممثلي «الشيطان الاكبر» تعقبها تصريحات مشتركة تتعلق بالاتفاق على قضايا كبيرة ومعقدة واساسية مثل السلام مع اسرائيل والاستعداد لخوضه من دون شروط مسبقة ولا «ودائع» محفوظة، اضافة (في حال ليبيا) الى الاعلان عن تعاون تجاري وعسكري وصفقات من تحت الطاولة ومن فوقها تشمل بطبيعة الحال شروطا معينة لبائعي الطائرات والمقاتلات من قبيل تسهيل الاجراءات والتنقل واكثر من ذلك اذا تعلق الامر بالموضوع الامني... ثم يصبح الكشف عن ملاحظة «ديموقراطية» ولو من باب حفظ ماء الوجه الاميركي عن الاعتقال السياسي او حقوق الانسان «تدخلا مرفوضا في سيادة البلد».عندما قال الاميركيون انهم بحثوا في سورية ومع امين اللجنة الشعبية الليبية للاتصال الخارجي قضايا حقوق الانسان وابدوا رغبة في اطلاق المعتقلين السياسيين فانهم صادقون لكنهم تطرقوا الى ذلك على هامش المحادثات الجوهرية الاخرى ولم يضعوا هذه القضايا شرطا لتقدم قضايا اخرى تشكل اولويات لديهم، بل ما كان يمكنهم الا كشف هذه الجزئية لحسابات داخلية تتعلق بالانتقادات المستمرة للسياسة الخارجية العاجزة عن الخروج من اطار المعايير المزدوجة، ولتبريد سخونة مؤسسات الرأي والاعلام ولجان الكونغرس.قصة الاميركيين معروفة... قصتنا «مختلفة». فاعتقال مفكرين وسياسيين واصحاب رأي مختلف عن رأي السلطة هو من «الانتصارات» القليلة الباقية لدى انظمة من طبيعة معينة ومن بنود «السيادة». تخسر الانظمة معركة الحروب العسكرية. تخسر معركة الديموقراطية والانفتاح والتعددية. تخسر معارك التنمية. تخسر التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي. تخسر القدرة على جذب الاستثمارات والاصلاح ومواجهة الفساد وتطوير الانظمة الادارية والتشريعات والقوانين. تخسر القدرة على مقاربة التطورات الاقليمية من العراق الى لبنان باسلوب سياسي متحضر متوازن. تخسر القدرة على بناء جسور صداقة وتعاون مع الكثير من دول العالم... ثم يأتي الاميركي او الاوروبي بكل «وقاحة» ويندد بالانتصار الذي حققته هذه الانظمة  ضد مجموعة من المفكرين «تجرأوا» (في نموذج اعلان دمشق) على الحديث عن الحرية والديموقراطية كحل وحيد لوحدة البلاد وتقدمها وحصانتها ضد اي تدخل خارجي. بل «تمادوا» في الكلام العلني عن ضرورة التحول الديموقراطي بشكل هادئ من اجل مرحلة سياسية جديدة تلعب فيها كل القوى بما فيها حزب البعث العربي الاشتراكي دورا في صياغة دستور جديد يتلاءم والمرحلة المقبلة.هذا الكلام ترجمته السلطات فورا كالآتي: «الانتساب الى جمعية سرية بقصد تغيير كيان الدولة السياسي والاقتصادي ونشر اخبار كاذبة من شأنها ان توهن نفسية الامة واضعاف الشعور القومي وايقاظ النعرات العنصرية والمذهبية والنيل من هيبة الدولة». وها هو «اعلان دمشق» يمثل بندا من بنود خرق السيادة السورية على رغم ان جميع من وقع عليه يحمل الجنسية السورية ويعمل تحت السيادة وادارة السلطة. القصة نفسها التي تتكرر من دون اي تغيير في المقدمات والخواتيم: السلطة في مواجهة ازمات خارجية، حتى لو كانت هي المسؤولة عن افتعالها، تعتبر اي مشاركة شعبية (خارج الآليات الحزبية) في التعبير والاستياء والانتقاد اضعافا للجبهة الداخلية بل مؤامرة لاضعاف الامة وضرب الوحدة وايقاظ النعرات المذهبية. والمعايير المزدوجة لم تعد محصورة بالاوروبيين والاميركيين، فوقاحتهم في الصمت عن انتهاكات اسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب لا تخولهم اطلاقا، استنادا الى مفكرينا وفي طليعتهم البعثيون، الحديث عن انتهاكات انظمة عربية لحقوق الانسان العربي وحقوقه، فـ «الوقاحة» هنا عمالة ومواجهتها تكون بالمزيد من الاعتقالات والقمع لان العالم عندما يندد فانما يضيف الى تهم المعتقلين تهما جديدة.مرة جديدة، لن تنتصر امة وانسانها مكسور، ولو كانت في بغداد صدام حسين حرية وديموقراطية ومشاركة شعبية في القرار لما سقطت في 20 يوما. اما انت يا رياض سيف فلك الله في محنتك الوطنية التي لم تتوقف، ولك الله في محنتك الصحية التي تتفاقم، ولك الله في سجنك المستمر داخل الزنزانة وخارجها، ولك الله في تحمل «الانتصارات» المتتالية عليك وعلى رفاقك المعتقلين السياسيين الذين ظلمهم العالم مرتين: مرة بتجاهل حقوقهم مغازلة للسلطة ومرة بالحديث عن حقوقهم ضغطا على السلطة... وفي الحالتين غابت المبادئ وانتصرت المصالح.كلما كان رياض سيف يعتقل ويخرج او يستدعى الى التحقيق ويخرج، كنت اتصل به وأتحمد له بالسلامة فاسمع صوت رجل متفائل دائما رغم كل ما الم به. مع اشتداد مرضه هذه المرة وحجم «التهم» الملقاة على كتفيه لا اعرف اذا كان سيخرج قريبا لأتحمد له بالسلامة... لكنني اعرف انه منتصر وغيره مهزوم.

alirooz@hotmail.com