يدعي كثير من المسؤولين الاصلاح، وعند رؤيتك لتصرفات بعضهم ومواقفهم، فإنك تصدم بتناقضهم مع ما يدعون، ما يؤدي إلى زهد الناس في توجيهاتهم، وعدم الاستجابة لدعواتهم، فلا يمكن لمسؤول أياً كان منصبه أن يتوقع من الناس الثقة بحديثه، أو تنفيذ أوامره، أو الالتزام بالقوانين التي يصدرها أو الأحكام التي يقررها، وهم يرونه أول من يخالفها ويتجاوزها.
إن من الأخبار المتناقلة عن إحدى الدول الاسلامية أن رئيسة وزراء راحلة أعطت زوجها صلاحيات فوق العادة مكنته من التدخل في معظم الصفقات والعقود التي تجريها الدولة حتى أصبح ذلك الزوج يلقب بالسيد 10 في المئة، إشارة إلى النسبة التي كان يتقاضاها مع كل عقد.
وفي إحدى الدول صار من غير الخافي على الناس تدخل ابن الرئيس في كثير من المشاريع التجارية الناجحة والزامه لملاكها بوجوب جعله شريكاً معهم حتى صار لدى أهل ذلك البلد الكثير من النكات التي تتندر على هذا الوضع، والتي يجدون فيها نوعاً من التنفيس عن معاناتهم.
قبل فترة، ومن باب قاعدة (الأقربون أولى بالمعروف)، كشف عن استغلال أحد المسؤولين في إحدى الوزارات لمنصبه في تمكين أخيه من الحصول على مناقصة بمئات الآلاف من الدنانير لتأجير سيارات على الوزارة التي يترأس إحدى إداراتها، ومع توارد الشكاوى ضد تلك المناقصة تبين للجنة التحقيق أن السيارات المؤجرة مخالفة للمواصفات المتفق عليها، وبأن المسؤول قام بالمماطلة في الموضوع ما أدى إلى التفريط في حقوق الوزارة وتضييع أموالها.
ان الإصلاح لا يمكن أن يتم في أي دولة، أو وزارة، أو مؤسسة، ما لم يطبقه المسؤول على نفسه والمقربين إليه قبل تطبيقه على الآخرين، وقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أروع الأمثلة في ذلك إذ يروى أنه خرج يوماً يتفقد أحوال الرعية فرأى بعارين (إبل) كبيرة في حجمها ومتميزة عن مثيلاتها فسأل الناس عن صاحبها فقالوا: هي يا أمير المؤمنين لولدك عبدالله، فما كان من عمر إلا أن استدعى ولده وأمره أن يبيعها ويأخذ رأس ماله فقط وأن يقوم بارجاع ما زاد عن ذلك إلى بيت مال المسلمين، فقال عبدالله يا أبت إنما اشتريتها من أموالي ولم اتعد على حقوق غيري، فعبر عمر بن الخطاب لولده عن خوفه من أن هذه الإبل إنما تميزت عن غيرها لأن الناس ربما كانوا يتركون لها أفضل المراعي ويقولون هي إبل ابن أميرالمؤمنين، وقد يحاسبه الله على التفريق في المعاملة بين رعيته، فما كان من الابن إلا الاستجابة لأمر والده، فانظروا إلى ذلك الموقف من عمر، وخوفه من أن يتم استغلال أي صلة قرابة به في أخذ حقوق الآخرين أو اكتساب مميزات لا يستحقونها، وهذا ما جعل الرعية تدين له بالولاء والطاعة.
إن من التوفيق للمسؤول أن يجعل الله له بطانة ومستشارين يدلونه على الخير ويعينونه عليه، وخاصة إذا كانوا من أقرب الناس إليه، لما تولى عمر بن عبدالعزيز الخلافة، قام برد المظالم لأصحابها، وأعاد ما أخذه الخلفاء السابقون بغير وجه حق إلى بيت مال المسلمين، وكان عمر قد أبلغ أحد وزرائه أنه سيقوم بإرجاع أحد البساتين إلى بيت المال وسيعلن ذلك بعد صلاة العصر، فاتجه الوزير إلى عبدالملك بن عمر، وهو أحد أبناء الخليفة، وأخبره بما عزم والده على فعله ظناً منه أن الولد ربما يؤثر على الخليفة ويمنعه من فعل ذلك، إلا أن عبدالملك أسرع نحو والده وكان الخليفة ساعتها يستعد للراحة فقال: يا أبت لم تأخر ارجاع البستان ومن يضمن لك أن تبقى حياً إلى العصر، ففرح عمر لكلام ولده وشكره على صنيعه وحمد الله تعالى أن جعل له من ذريته من يعينه على الخير ويدله عليه، وقام من فوره وأعلن أمام الناس عن إرجاع ذلك البستان.
إن التاريخ يسجل للشخصيات مواقفها دون مجاملة، وسيرة القوم يبقى صداها يتردد عبر الأزمان، والسعيد من كتب تاريخه بماء الذهب، وسطر حروفه بمواقف الإصلاح والنزاهة والانصاف.


عبدالعزيز صباح الفضلي
كاتب كويتي
Alfadli-a@hotmail.com