كم هي صغيرة في حجمها، وكم هي دقيقة في تفاصيلها، تتسع وتضيق، تبهر وتنبهر، تسحر وتنسحر، مجردة بقدر بعدها عن التجريد... فأوصافها لم تصب مقتلاً كما هي بنفاذ بسهامها. هذه قصة العين التي تجوب الأماكن الواسعة، وهي ساكنة في محجرها، فيسيل صاحبها، ان أراد وتأثر، تلك المشاهد الى كلمات حبكت جماليتها رؤية مبدعة.«بعيون عربية» طرقت «الراي» أبواباً موصدة لخصوصيتها في الشرق والغرب، في مصر، المغرب، الجزائر، موريتانيا، الســـودان، اليمـــن، تركيـــا، فرنســـا، بريطانيــا، وكوبا، فلم يحرقها قيظ الصحراء ولم ينل منها برد الطقس وبعد السفر. كانت العين تتنقل بين جماعات وأشخاص أثارت قضاياهم الجدل، فتلخص ما تغرفه من بحر المعاينة، لتنسكب لحظات للذكرى. كل له مشكلته، كل له طريقة حياة، كل يستحضر التاريخ، وكل يفتش عن المستقبل والأمل وشذى الحياة. جماعات وشعوب تبحث عن هويتها وسط العولمة، أحياناً تحمل السلاح، لعل في لغة البارود حلاً بدلاً من لغة الحوار، لكن غالباً من دون جدوى. ومن بين ثنايا المشاكل تظهر الجماليات، فالمقلب الآخر للأزمات قصص تنبض بالحياة. كم هذا الانسان عظيماً عندما يطلق العنان للابداع، وكم هو ضعيفاً عندما يترك المشاكل تقيده بأصفادها. لكن يبقى لكل انسان، ولكل جماعة، فلسفة خاصة في الحياة. ولذلك تعرض «الراي» على حلقات تفاصيل رحلتها بين الأماكن التي يجمعها الانسان وتفرق بينها القضايا والحدود.
الجزائر: ثورة الشعب ضد النواب
| الجزائر - من سامي كليب |
سجلت الانتخابات التشريعية الأخيرة في الجزائر أدنى نسبة لها في تاريخ البلاد. اقتصرت نسبة المقترعين على 35.67 في المئة، وحصد التحالف الرئاسي غالبية مقاعد البرلمان. وصف البعض ذلك بـ «عصيان» مدني، ولكن الأمر يبدو أقرب أكثر إلى «ثورة الشعب» ضد النواب والأحزاب. لم تكن رحلة «الراي» هذه المرة إلى الجزائر سهلة، فالأمن يبقى الأهم. لابد من إرسال طلب اعتماد عبر السفارة الجزائرية في بيروت، ثم انتظار يومين أو ثلاثة قبل الجواب. وعند الوصول إلى المركز الصحافي الموازي لفندق «الاوراسي» الشهير في العاصمة الجزائرية، نكتشف أن طلب الاعتماد لم يصل، فلابد من الانتظار ساعات أخرى، قبل أن تتصل الآنسة فريدة بسعة مسؤولة الاعلام، معتذرة بتهذيب عن التأخير وطالبة العودة لتسلم بطاقة الاعتماد.والآنسة بسعة كانت تعمل في بلجيكا، وجيء بها إلى الجزائر لكي تشرف على القطاع الإعلامي وتساهم في تقديم الصورة الفضلى عن الرئاسة الجزائرية، وذلك بعدما كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نجح في إعادة تلميع صورة بلاده على المستوى الدولي، نظرا لما يتمتع به هو شخصيا من كاريزماتية خاصة، وخبرة طويلة جدا في المجال الدبلوماسي(كان وزيرا للخارجية في أكثر الأوقات العربية والجزائرية صعوبة)، ونظرا أيضا لنجاحه في اقناع شعبه والأحزاب والجيش بقانون الوئام المدني والمصالحة واضعا بذلك حدا لعشر سنوات من الحرب أو ما تعرف هنا بـ «العشرية الدموية» التي يقال انها قضت على أكثر من 200 ألف جزائري.وساعده في ذلك تحسن الوضع الاقتصادي على ضوء ارتفاع أسعار النفط وبالتالي عرف بوتفليقة كيف يستعيد جزءا من صورة زعيمه ورفيقه السابق الرئيس الراحل هواري بومدين الذي لا يزال الأكثر رسوخا في أذهان شعبه. ولكن الرئيس شيء والأحزاب والمؤسسات شيء آخر، ذلك ان بوتفليقة حاول العمل بسرعة الطائرة، لكن المؤسسات لا تزال تعمل على محرك بخاري أو على ظهر جمل كما يحلو للبعض قوله. حقق بوتفليقة أعلى نسبة مشاركة في الانتخابات الرئاسية وحصد نسبة عالية جدا من الأصوات، بينما انهارت جل الاحزاب، وتقهقرت سمعة البرلمان، وبات المواطن الجزائري عديم الثقة بنوابه ووعود أحزابه. ويقول الزميل سعد بوعقبة الكاتب اللاذع بنقده، ان النتائج تفترض «اعتبار هزيمة الأحزاب المتحالفة هي هزيمة لها وحدها وبالتالي لا حق لها في ان تقول إنها تمثل الرئيس، أو اعتبار التحالف والرئيس شيئا واحدا وفي هذه الحالة على بوتفليقة ان يستخلص الدرس ومفاده ان الشعب قد غير رأيه».ويرى أن «الوضع الشاذ سيحصل مشاكل الشرعية في البرلمان المقبل قد تعيق بشكل جدي اي عمل وطني» وان «ثمة تخوفا من المحتوى الهزيل للتركيبة البشرية للبرلمان المقبل».
الأمن أولا ولأن الأمن يبقى الأساس وسط تهديدات «القاعدة لبلاد المغرب الاسلامي»، فليس غريبا أن يجد الصحافي العربي أو الأجنبي في الجزائر حراسا ينتظرونه أمام باب الغرفة، وما أن يخرج حتى يتقدم أحدهم واضعا نظارتين سوداوين على عينيه وحليق الرأس، ويقول: «نحن مكلفون بحمايتك». لا مجال للمناقشة، فالقلق من عمليات إرهابية قائم، ولكن ماذا لو كانت الحماية للمراقبة؟ لا بأس، هذه هي قواعد اللعبة.تتسلل أشعة الشمس الأولى عبر ستائر نافذة فندق «الاوراسي» الذي كان الزعيم المصري جمال عبد الناصر كان قد أهداه للجزائر بعد الاستقلال. تبدو البيوت البيضاء كعروس تستعد ليوم زفافها، تتهيأ بعض المراكب الراسية في المرفأ المقابل، للرحيل صوب الشمال الأوروبي. يبدو رجال الأمن والقوات الخاصة بثيابهم السوداء كشواهد على أن البلاد لم تخرج تماما بعد من حربها التي اندلعت عام 1992 في أعقاب إلغاء الدورة الثانية للانتخابات التشريعية.آنذاك اكتسحت الجبهة الاسلامية للانقاذ بقيادة الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج الدورة الثانية، فكان لا بد للجيش من أن يوقف المسار الانتخابي ويسجن قادة الجبهة ورموزها. هم دخلوا السجن، والجزائر دخلت في جهنم الاقتتال. هدأ الاقتتال بفضل مشروع المصالحة الذي أقره بوتفليقة، ولكنه الإرهاب يعود بشكل أكثر خطورة فالتفجيرات المرتبطة بالقاعدة وصلت هذه المرة إلى عقر رئاسة الحكومة.
تدجين الأحزاب تغيرت صورة الخريطة السياسية في جزائر اليوم. صارت التعددية في صلب النظام والبرلمان. 22 حزبا باتوا بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة جزءا من المؤسسة التشريعية، ولكنها في معظمها أحزاب موالية أو مدجنة أو منبوذة شعبيا بعدما نجح بوتفليقة في خطف الضوء، وفشلت الأحزاب في فرض نفسها فتشققت وعرفت صراعات ثم دخلت صاغرة الى بيت الطاعة.حاول حزب جبهة التحرير (الحزب الذي حكم الجزائر منفردا قبل التعددية لأكثر من ربع قرن)، أن يتمرد فتم تهميش أمينه العام السابق والسياسي العريق والمعتق عبد الحميد مهري، ثم حاول علي بن فليس التمرد فأقصي وانقسمت الجبهة إلى تيارين منذ مؤتمرها عام 2003، الأول يناصر بن فليس والثاني يدعم بوتفليقة.تزعم بلخادم جبهة معارضة بن فليس. نجح في معركته واقصى منافسه، ثم تمت تنحية 6 وزراء من المناصرين لبن فليس من الحكومة في العام نفسه. عادت الجبهة إلى بيت الطاعة، وصارت باشراف بلخادم الذي تولى أيضا رئاسة الحكومة، وتحدث البعض عن احتمال خلافته لبوتفليقة بعد مرض الأخير، ولكن يقال ان أسهم بلخادم قد تراجعت. التراجع واضح شعبيا، فالجبهة حصلت في انتخابات 17 مايو الماضي على 136 مقعدا وحصد حليفاها في التحالف الرئاسي أي «حركة مجتمع السلم» 51 مقعدا والتجمع الوطني الديمقراطي 62 مقعدا. ورغم أن الجبهة بقيت في طليعة الأحزاب الفائزة إلا انها فقدت 63 مقعدا مقارنة بانتخابات عام 2002. فهل بدأت معاقبة بلخادم ولماذا؟ السر يتعلق طبعا بمستقبل البلاد وبما يحكى عن استمرار وجهتي النظر بين المصرين على اقصاء الاسلاميين والراغبين بعودة بعضهم إلى العمل السياسي. كان لافتا ان عبد الحميد مهري نفسه امتنع عن التصويت في الانتخابات الاخيرة ويقول مبررا: «انني لم اكن باختصار مطمئنا عندما انتخب إلى انني اؤدي واجب الاختيار الحر الذي يرتبط بالمواطنة، أو انني أواصل السير في الطريق نفسه الذي جمع جيلنا بقوافل الشهداء، أو انني اساهم في بناء مستقبل أفضل للأجيال التي تأتي من بعدنا». كلام ذو مغزى كبير وأليم من رجل اشتهر طيلة حياته بدبلوماسيته العالية ودقة اختياره للكلمات. ثم جاء دور حركة النهضة التي أسسها الشيخ عبدالله جاب الله. فهي تعرضت لانشقاقين بارزين ولكن في كل مرة كان جاب الله المتأثر بأفكار الاخوان المسلمين يستعيد الكرة، وما ان تم اقصاؤه عن الانتخابات الأخيرة من خلال سبغ الشرعية على المنشقين عنه في حزب الاصلاح، حتى اختار الابتعاد عن الانتخابات وسافر إلى الخارج، فاصيب المنشقون عنه بنكسة تاريخية كرست نهايتهم السياسية تقريبا. انشرح صدر جناح الشيخ جاب الله في حركة الاصلاح، سارع الى القول: «ان هذه النتائج (الهزيلة) للمنشقين كانت استجابة لنداء المقاطعة الذي دعت إليه المؤسسات الشرعية للحركة وعلى رأسها الشيخ عبدالله جاب الله». وهو ما قالته أيضا جبهة القوى الاشتراكي بزعامة القيادي التاريخي الامازيغي (البربري) حسين آيت أحمد. فالرجل الذي كان أحد أركان الثورة في بلاده ضد الاستعمار الفرنسي وسجن مع القادة الكبار وفي مقدمهم الرئيس السابق أحمد بن بلا، يؤثر منذ سنوات طويلة العيش في سويسرا ويقاطع كل الانتخابات.ويقول الأمين الوطني في الجبهة والمكلف بتطوير الحزب نبو محمد ان النتائج «تكرس استمرار الطلاق بين الشعب والسلطة، وان الاوراق الملغاة والتي بلغت اكثر من مليون صوت تؤكد رفض الشعب للاحزاب المشاركة ورفضه للسلطة بشكل عام». أما منافس آيت أحمد في مناطق البربر الدكتور سعيد سعدي رئيس حزب «التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية» فلم يستطع فرض نفسه منافسا في مناطق القبائل، لا حين يقاطع كما كان شأنه في السابق، ولا حين يشارك كما كانت حاله في الانتخابات التشريعية الأخيرة. ولعل في ما قاله بعد الحصول على النتائج المتواضعة ( مقعد واحد) خير دليل على وضعه المعقد مع السلطة التي يقترب منها تارة ويبتعد عنها تارة اخرى، حيث اعتبر ان «السلطة تضع العراقيل أمام تقدم حزبنا بغية منعنا من اقتراح قوانين أو التأثير على البرلمان» مضيفا «ان الامتناع عن التصويت يشير إلى ان لدى الناس قناعة بأن النتائج محسومة سلفا خصوصا بعد ان تقاسمت أحزاب التحالف الرئاسية المقاعد في ما بينها». ويضاف إلى ذلك ان الجبهة الاسلامية للانقاذ المنحلة ليست قادرة على المشاركة في الانتخابات أو السلطة رغم الحلحلة التي أبداها بعض قادتها (وكان آخرهم رابح كبير الذي عاد من منفاه الألماني بأمل المشاركة). تشتت الجبهة بين زعيمها المريض الشيخ عباسي مدني المقيم في فندق شيراتون بقطر، وبين رجلها القوي علي بلحاج المتنقل بين الاقامة الجبرية والاعتقال، وبين طرف ثالث اقترب من السلطة لكنه لم يحصد شيئا حتى الآن. طوي الملف، يقول وزير الداخلية يزيد زرهوني. وأما حركة مجتمع السلم التي أسسها الشيخ الراحل محفوظ نحناح، فإنها باتت هي الأخرى في فلك السلطة وفي صلب التحالف الرئاسي، وقد حققت بقيادة زعيمها الجديد أبو جرة سلطاني تقدما لافتا إذ أنها زادت 12 مقعدا على ما كان عليه حالها قبل 5 سنوات. وحلت السيدة لويزا حنون وحزبها العمالي اليساري رابعة بحصولها على 26 مقعدا. السيدة الحديدية ذات الصوت الذكوري والشخصية القوية انتقدت بعض الانحرافات من خلال الحملة الانتخابية إلا أنها كانت تكيل اللوم للأحزاب أكثر مما تكيله للسلطة. وعلاقتها بالرئيس بوتفليقة جيدة.
الشعب يقاطع والتلفزة تهلل كانت صور المرشحين تملأ الحيطان، ولكن الناس يمرون قربها ولا يلتفتون. وحدها التلفزة الرسمية تبجل وتهلل لـ «الحدث الديمقراطي» ولـ «اليوم الوطني الكبير». تعرض صورا حول المشاركة «الواسعة والتعبير الوطني» لمواطنين في مختلف المناطق. يبدأ المراسلون بشرح اهمية ذاك اليوم «الديموقراطي بامتياز»، ينقطع الارسال. يحصل عطل تقني. تغيب الصورة ثم تعود. تحتل التلفزة الجزائرية موقعها الطبيعي بين الإعلام العربي الرسمي المهلل للسلطات مهما كانت طبيعة هذه السلطات. ولكن المشهد يختلف في الصحافة المكتوبة، فالجزائر تعرف حرية لافتة في هذا القطاع، وصحافيوها يكتبون تقريبا عن كل شيء وينتقدون السلطة علانية. ولعل الصحافة الجزائرية المكتوبة باتت واحدة من أهم القطاعات الاعلامية في العالم العربي. فلماذا يتخلف التلفزيون (بغض النظر عن بعض برامجه السياسية والترفيهية الجيدة)؟ ببساطة، لأن الرئيس بوتفليقة وجد أن الصحافة المكتوبة عرفت «فوضى» كبيرة وأنه غير مستعد لتكرار التجربة مع الأجهزة السمعية والبصرية. ولا بأس إذا ما سعى التلفزيون جاهدا في اختلاق أجواء انتخابية مريحة رغم عدم توافرها. وفي كل الأحوال فإن الجزائريين ليلة الانتخابات، كانوا لاهين عن الاعلام والسياسة والنتائج، ففريق كرة القدم لمدينة «سطيف» كان عائدا بنصر مظفر من مبارياته في عمان ضد الاردن، والجزائر كلها كانت ترقص فرحا. غالبا ما ترقص لكرة القدم ذلك ان الشعب في معظمه شاب وتقل اعمار الجزء الكبير منه عن ثلاثين في المئة.
البرلمان غرفة تسجيل ولكن الرياضة ليست وحدها من جعل الجزائريين غاضي النظر عن الانتخابات، فالاستحقاق التشريعي ما عاد يهم أحدا، ويقول فيصل مطاوي الرئيس السابق لصحيفة «الوطن» (اقيل من منصبه بسبب مواقفه)، ان النسبة الهزيلة في عدد المصوتين «تعبر عن فشل الحكومة الحالية والتحالف الرئاسي وكل من نادى بالمشاركة الواسعة» ويضيف ان رئيس الحكومة عبد العزيز بلخادم كان قد «نادى خلال الحملة الانتخابية بالمشاركة الكبيرة والواسعة» فلم يلب نداؤه، وكذلك الأمر بالنسبة لوزير الداخلية يزيد زرهوني الذي كان ينادي بالتصويت معتبرا ان ذلك سيكون صفعة للارهاب. اللافت ان زرهوني وحين يسأل عن النتائج الهزيلة، يقول «ان الكونغرس الأميركي ومجلس النواب الايطالي ليسا أفضل حالا منا» ويؤكد ان الانتخابات جرت من دون مشاكل وان ما شابها قد تم حله مباشرة. وهذا صحيح. ولكن ماذا عن رئيس اللجنة الوطنية للانتخابات محمد سعيد بوشعير الذي قدم عريضة حول الخروقات؟ يبتسم زرهوني ويقول: «ان بوشعير اعترف بالأخطاء واعتذر، وقد وردته أنباء مغلوطة». اعترف واعتذر. الجملة لها رنين خاص في الدول العربية. يواصل مطاوي حديثه من على الشرفة المطلة على الجزائر. يرتشف قليلا من عصير البرتقال، ثم يضيف: «ان الامر الثاني الذي عبرت عنه هذه المقاطعة يتعلق بانعدام ثقة المواطن الجزائري بالبرلمان وبنوابه ذلك ان مجلس النواب عندنا صار، وعلى غرار الكثير من البرلمانات العربية، مجرد غرفة تسجيل، وهو لم يعد يقوم بدوره وإنما صار مجرد مؤسسة فارغة المضمون لا تفعل شيئا ولا تأتي بقوانين جديدة ولا تحاسب ولا تحرج الحكام، والناس يقولون لنا لماذا نصوت لنائب لن نسمع به إلا بعد خمس سنوات» ولماذا إذا تبقى جبهة التحرير في الطليعة؟ يجيب مطاوي ان «للجبهة توزيعا وطنيا واسعا لكونها كانت الحزب الوحيد الحاكم سابقا، وهي تبقى في أذهان الناس قوية ومرتبطة بالإدارة ولها نفوذ، والناس تهابها وخصوصا منهم الموظفون، ثم ان الإدارة تساعد الجبهة بحيث أنك تجد بعض الولاة يقومون علانية بمنحها القاعات وتوفير السيارات وغير ذلك، والناس تقول انه بحكم ان الجبهة في السلطة وان رئيس الحكومة هو رئيسها فما جدوى التغيير طالما ان السلطة ستواصل تطبيق السياسة نفسها عبر التحالف الرئاسي، وبدلا من ان يضيع الصوت لصالح حزب سيفشل، فليذهب اذا الى الجبهة».لقد أثبتت الانتخابات التشريعية في الجزائر أن الاحزاب باتت بحاجة الى تجديد خطابها، وان «العصيان المدني» الذي مارسه الناخبون يوجه انذارا حقيقيا للبرلمان والقائمين على السلطة، ولكن هل كانت المقاطعة نتيجة طبيعية للدعوات التي اطلقها آيت أحمد، وجاب الله وتنظيم القاعدة؟ الأكيد لا، حتى ولو ان أيت أحمد وجاب الله حققا بعض النجاح، ففي جزائر اليوم، باتت القاعدة وكل ما يشير إلى الاسلام المتطرف منبوذا، ولكن البلاد تطرح اسئلة كثيرة حول ما بعد بوتفليقة، فنجاح النظام في تهدئة الأمور وتحسين الاوضاع واعادة بعض الأمل ارتبط بشخصه وبالتسوية الدقيقة التي عقدها مع المؤسسة العسكرية. فماذا بعد بوتفليقة؟ لعل هذا هو بالضبط السؤال الكبير، ولعل في ذلك بعضا مما تتعرض له الاحزاب بغية التمهيد لانتقال سلمي آخر للسلطة. ولكن لمن؟ (بالتعاون مع السفير اللبنانية)
عبدالله جاب الله إسلامي بربطة عنق
ان كان ثمة شيء يشير إلى اعتدال القيادي الاسلامي الجزائري الشيخ عبدالله جاب الله فهو مزاوجته بين القبعة التقليدية البيضاء وربطة العنق. في الاولى تراث اسلامي وجزائري، وفي الثانية تعبير عن المعاصرة. وبين كثير من التقليد وقليل من المعاصرة، حاول جاب الله أن يجد له مكانا على الساحة الجزائرية، فحل ثالثا في الانتخابات الرئاسية عام 2004 واحتل حزبه المرتبة الثالثة نيابيا في انتخابات عام 2002. أما اليوم فهو قاطع الانتخابات واتهم السلطة بتشجيع الانشقاق الحزبي عليه، فكان ان اصيب المنشقون عنه بهزيمة نكراء حيث اقتصر تمثيلهم على 3 مقاعد بدلا من 43 سابقا. وقصة الشيخ عبد الله جاب الله مع السياسة والدين في بلاده قديمة، فما ان بلغ من العمر 15 عاما (مواليد 1956) حتى أشرف على بناء أول مصلى في حيه، وبعدها بأربع سنوات أسس الجماعة الإسلامية وراح يتعمق بقراءة أفكار سيد قطب والشيخ حسن البنا (مؤسس جماعة الاخوان المسلمين في مصر)، ويوسف القرضاوي ومحمد الغزالي وغيرهم، وصار منذ منتصف السبعينات أحد ممثلي تيار الاخوان في الجزائر. وحين خرج من السجن عام 1986 كانت الجزائر تغلي بالشائعات حول انشقاقه عن الاخوان المسلمين الذين كان جزء لا بأس به منهم قد انضوى تحت كنف الشيخ محفوظ نحناح مؤسس حركة المجتمع الاسلامي التي اصبحت تعرف في ما بعد بحركة مجتمع السلم(حماس). ومع مرور الأيام توسعت قراءات الشيخ عبدالله جاب الله وكذلك علاقاته الدينية والعقائدية والسياسية، فتعرف على مؤلفات أبي الأعلى المودودي القيادي الاسلامي الهندي المولد والعربي الجدود وصاحب الكتاب الشهير «الجهاد في الاسلام». كما تأثر جاب الله بمؤلفات الشيخ بشير الابراهيمي (والد احمد طالب الابراهيمي) أحد أبرز وجوه التيار الاسلامي المعتدل في الجزائر اضافة الى الشيخ عبد الحميد بن باديس. منزل الشيخ عبدالله جاب الله زاخر بأمهات الكتب الاسلامية، تماما كما يزخر بمئات المقالات الصحافية والمقابلات مع الشيخ الذي كان بدأ معارضته للأنظمة الجزائرية وهو على مقاعد الدراسة آنذاك، وخلال دراسته للحقوق أسس تنظيما سريا عرف باسم «جماعة جاب الله» والذي أصبح في ما بعد يعرف باسم الجماعة الإسلامية. وهو ناهض مشروع الميثاق الوطني والتوجه الاشتراكي لدولة هواري بومدين، فكان ان اعتقل مرات عديدة. كان جاب الله يطمح في شبابه لاقامة الدولة الاسلامية، ولكن الملاحقة كانت أسرع من الطموح، فسجن مرات عديدة، وحرم في منتصف الثمانينات من حقوقه المدنية ومن حق السكن والعمل وكانت التحقيقات معه تدوم ما بين شهر وعدة أشهر وتم تعذيبه في عهد الرئيس السابق الشاذلي بن جديد بتهمة التواطؤ في هجوم عسكري على احدى الثكن العسكرية وتبين لاحقا ان لا علاقة له بالموضوع، ثم اتهم بأنه مؤسس تنظيم الاخوان المسلمين. وحين غرقت الجزائر باولى خضاتها الامنية حين انتفض الشارع على الدولة، أسس جاب الله حركة «النهضة للاصلاح الثقافي والاجتماعي» لكن السلطة حلتها فوجه رسالة الى الشاذلي بن جديد يسأله فيها «حراسة الدين وسياسة الدنيا واقامة الفروض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنهوض بالزراعة والصناعة وحماية العامل والامومة والطفولة وسائر ذوي الحقوق...»، لكنه اليوم لا يتردد في القول إن الشاذلي كان من أفضل رؤساء البلاد. بقي جاب الله في صراعه مع السلطة مستندا على شعبية جيدة، ولكن بروز الجبهة الاسلامية للانقاذ أفقده كما أفقد الشيخ نحناح (توفي قبل سنوات) الكثير من هذه الشعبية، وما ان حلت الجبهة وسجن قادتها حتى استعاد هو ونحناح قسما لا بأس به منها. وقد حاربته السلطة داخل حزبه، واستغلت بعض تفرده بالقرارات لتؤلب رفاقه ضده، فحصل أول انشقاق في حزب النهضة الذي أسسه بعد التعددية السياسية. لم يتراجع. عاد وأسس حركة الاصلاح. حصد 43 مقعدا في انتخابات 2002، ثم ترشح للانتخابات الرئاسية عام 99 وانسحب منها معيبا على السلطة التزوير والتدخل السافر، وما أن حل الاستحقاق الرئاسي الآخر عام 2004 حتى حل ثالثا. قيل الكثير عن تحالفاته، وذهب البعض إلى حد اتهامه بالسير في كنف المؤسسة العسكرية حين اشتبك الجيش مع الجبهة الاسلامية للانقاذ منتصف التسعينات. قيل ان بعض الضباط الكبار يرعونه ويساعدونه. وساهم في ذلك أنه كان ينتقد الجميع سوى الجيش.اليوم أثبت جاب الله انه سيد شعبيته، فالمنشقون عنه اصيبوا بنكسة كبيرة، الأمر الذي سيجعله إما راغب في استعادة كل الحزب وتحميل خصومه مسؤولية الانهيار، أو تأسيس حزب جديد. وفي كل الأحوال سيبقى لاعبا مهماً على الساحة الجزائرية حتى ولو أن وصوله إلى السلطة الأولى يبقى شبه مستحيل في بلد له حساباته الدقيقة وخطوطه الحمراء الكثيرة لهذا المنصب.
أرقام وحقائق
28 امراة فقط نجحن في الانتخابات التشريعية مقابل 361 رجلا. 3 صناعيين وفلاحان و11 تاجرا كانوا من بين الفائزين بينما عدد الكوادر والموظفين بلغ 218 نائبا. 900 يورو راتب النائب الجزائري يضاف إليها بدل مأكول ونقل ونفقات ليصل إلى 1500 يورو. 2 مليار دولار قد تصبح مردود السياحة الجزائرية عام 2015 ليخلق هذا 100 ألف فرصة عمل، ويضيف 311 موقعا سياحيا بحريا، وفق ما وعد وزير السياحة نور الدين موسى.8.5 مليار دولار مبيعات النفط الجزائري منذ بداية العام الحالي بينما كانت في الفترة نفسها من العام الماضي 7.5 مليار دولار. 13 سنة العمر الافتراضي المتبقي لانتاج النفط الجزائري وفق المجلة المتخصصة بشؤون الطاقة الصادر عن «بريتش بيتروليوم» والتي أكدت في عددها لصيف 2004 ان الاحتياطي الجزائري يبلغ 11.3 مليار برميل اي حوالي 1 في المئة من الاحتياطي العالمي. 2.5 مليون طن اي 640 ألف برميل يوميا معدل الصادرات النفطية الجزائرية الى الولايات المتحدة في شهر مايو الماضي.
التعاون العسكري مع أميركا
يستبعد المسؤولون الجزائريون تماما احتمال اقامة قواعد عسكرية أميركية على أرضهم، لا بل قد يجيبون بشيء من الاستياء على اسئلة في هذا الشأن ويعتبرون أن في الأمر سيادة وطنية وان عهد الاستعمار ولى. ومع ذلك فإن التعاون العسكري بين الجزائر وأميركا بات لافتا. وإذا كانت المعلومات الدقيقة تبقى حكرا على قادة الدولتين، إلا ان انضمام الجزائر إلى التحالف المناهض للارهاب عزز التعاون العسكري، والتجاري والسياسي، فقد وقع البلدان في صيف 2001 اتفاقا حول التجارة والاستثمارات والتبادل الضريبي، ما سمح للولايات المتحدة الاميركية بالحصول على النسبة الأكبر من القطاع النفطي، كما بدأت الشركات الاميركية بالاستثمار في قطاعات المال والأدوية والاتصالات والمعلوماتية. وقدمت أميركا للجزائر مساعدات كثيرة في مجال مكافحة الاسلاميين والارهابيين، من المناظير الليلية إلى اسلحة خفيفة إلى تدريب، وذهبت مثلا صحيفة «لوكانار انشينيه» الفرنسية الساخرة وذات المعلومات الخاصة والدقيقة الى حد القول ان 400 أميركي من القوات الخاصة يتواجدون في تمنراست في الجنوب الجزائري لمحاربة الارهاب وهو ما ينفيه الجزائريون. ولكن الأكيد ان قوات خاصة أميركية تعمل في مجال حماية شركات النفط التي لا يدخلها عمليا اي شخص إلا بعد مراقبة شديدة. وأجرت بحرية البلدين مناورات في مارس2005، تبعها توسيع للتعاون في مجال التأهيل والتدريب، خصوصا ان واشنطن كانت اطلقت عام 2002 مبادرة «خطة الساحل» لتقديم المساعدات من قبل البنتاغون للدول المكافحة للارهاب. وقررت الادارة الاميركية تأسيس قوات خاصة لافريقيا، وهي تتعاون حاليا بشكل وثيق مع الجزائر ودول المغرب خصوصا بعد التهديدات الأخيرة لتنظيم «القاعدة لبلاد المغرب الاسلامي». ووصل الأمر بالرئيس جورج بوش الى حد اعتبار الجزائر «شريكا استراتيجيا»، ومن هنا كان الاهتمام المتزايد بحل قضية الصحراء الغربية. ولم يتوان مساعد وزير الدفاع الاميركي للأمن الدولي بيتر رودمان في القول في ختام زيارته إلى الجزائر في نوفمبر 2006 ان التعاون سيشمل الحوار العسكري والعلاقات الاستراتيجية والتعاون على أعلى مستوى بين الجيشين. ويقول المحللون ان الجزائر باتت فعلا في المنظور الاستراتيجي الاميركي ليس فقط بسبب الحاجة لمكافحة الارهاب وانما للحفاظ على المصالح الأميركية، ذلك ان الواردات النفطية الأميركية من افريقيا ستصل مستقبلا إلى 25 في المئة من مجمل وارداتها النفطية مقابل 12 في المئة حاليا.