من واشنطن تبدو الصورة التي ترتسم في ذهن المراقب العربي الذي يزور العاصمة الأميركية هذه الأيام قاتمة إلى أبعد حدود. تلك الصورة تتكون بمجرد أن يسمع هذا المراقب الرئيس بوش الابن يتحدث عن «حرب عالمية ثالثة» يمكن أن تتسبب بها إيران وذلك من وجهة نظره، فيما نائب الرئيس ديك تشيني يؤكد أنه لن يسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي ويهددها بـ «عواقب وخيمة» في حال استمرارها ببرنامجها النووي، ويعتبر ذلك مؤشرا كافيا إلى أن الحرب في المنطقة احتمال وارد. لا كلام في الأروقة السياسية في واشنطن سوى عن الحرب واحتمالاتها، وما تمثله إيران من تهديد للمصالح الأميركية في المنطقة.ثمة إجماع داخل المؤسسات والمعاهد التي تهتم بالدراسات في واشنطن على أن إدارة بوش الابن تتصرف بالطريقة ذاتها التي تصرفت بها في الأشهر التي سبقت الحرب على العراق. قلة فقط من الباحثين والأكاديميين تصدّق ما يسربه مسؤولون ومستشارون لبوش الابن إلى الصحافة عن عدم رغبته في الحرب. آخر ما سربه هؤلاء صدر في صحيفة «الواشنطن بوست» يوم الجمعة الماضي عن أن الهدف من فرض عقوبات جديدة على إيران هو تفادي الحرب. وبرر مستشارون للرئيس الأميركي العقوبات ذات الطابع الاقتصادي والديبلوماسي والسياسي والمالي التي اتخذتها الإدارة من جانب واحد بأنها تستهدف الضغط على إيران كي تتراجع عن برنامجها النووي لا أكثر، وذلك تفاديا للحرب من جهة وكي لا يجد خليفة الرئيس الحالي نفسه أمام خيارين من جهة أخرى، الخيار الأول هو إيران نووية لا مفر أمامه من التعايش معها، والآخر الخيار العسكري للتخلص مما يسمى في واشنطن «الخطر الإيراني».لا يقتصر النقاش في الأروقة السياسية على «الخطر الإيراني» في حد ذاته، بل يشمل المشروع الإيراني ككل وما تمثله إيران على الصعيد الاقليمي، والمعني بالمشروع المتكامل الذي بدأ الأميركيون يتحدثون عنه بتأخير يزيد على أربع سنوات، إيران الطامحة إلى أن تكون القوة العظمى الاقليمية. ولعلّ أكثر ما يقلق الأميركيين قدرة النظام في طهران على التمدد في اتجاهات عدة مستفيدا بشكل خاص من المأزق الأميركي العميق في العراق. بدأ الأميركيون يعترفون بأن إيران كانت المنتصر الأول بل الوحيد من الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق. ويعترفون في الوقت ذاته أن الولاء الحقيقي لكل الميليشيات الشيعية في العراق هو لإيران أولاً وذلك بغض النظر عن التناحر الذي يصل أحيانا إلى حد الاقتتال في ما بينها. هذه الميليشيات وسواء كانت تابعة لـ «حزب الدعوة» الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء السيد نوري المالكي، أو تابعة لـ «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» أو للسيد مقتدى الصدر تتقاتل على مناطق النفوذ والغنائم، لكن الخط الأحمر الذي لا تتجاوزه هو مرجعيتها الإيرانية التي تتحكم بكل قراراتها وترسم لها حدود تحركها وهامش الحرية الذي تتمتع به. ولعل أكثر ما يقلق الأميركيين اكتشافهم أن الميليشيات الشيعية وراء معظم العمليات التي تستهدف قواتهم في العراق، خصوصا عمليات التفجير عن بعد للآليات العسكرية التي تنقل جنودا. ولم يعد الجنرال بتريوس قائد القوات الأميركية في العراق يخفي أن الأسلحة الإيرانية تتدفق على الميليشيات الشيعية بما في ذلك أجهزة التفجير المتطورة التي حققت اصابات مباشرة في صفوف القوات التي في إمرته. هناك باختصار وعي أميركي من نوع مختلف لخطورة المشروع الإيراني للمنطقة الذي يتجاوز العراق ليشمل منطقة الخليج إضافة بالطبع إلى المشرق العربي، أي سورية ولبنان وفلسطين. ويتوقف باحثون أميركيون عند محاولة فهم طبيعة العلاقات السورية - الإيرانية. وفي حين لا يزال هناك من يرى أن في الإمكان التمييز بين دمشق وطهران، يتعزز الإتجاه القائل أن مثل هذا التمييز اضاعة للوقت وأن الدليل على ذلك التدهور الذي طرأ على العلاقات السعودية - السورية. ويعتبر غير خبير أميركي في شؤون الشرق الأوسط أن وصول العلاقة بين دمشق وطهران إلى نقطة اللاعودة بمثابة تأكيد لذهاب النظام السوري إلى النهاية في رهانه على المشروع الإيراني. ويشير هؤلاء إلى أن من بين أسباب قوة نظام حافظ الأسد الذي قام في 16 نوفمبر1970 من القرن الماضي ووصوله إلى السلطة واحتكارها يعود للعلاقة العضوية بينه وبين النظام السعودي، وهي علاقة حمت حافظ الأسد طويلا وساهمت في الانتقال السلس للسلطة إلى نجله الدكتور بشّار في العام 2000. تبدلت طبيعة العلاقة بشكل جذري في السنوات الأخيرة، خصوصا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفض السعودية لصفقة تقوم على فكرة أن الانسحاب العسكري السوري من الأراضي اللبنانية هو ثمن دم الحريري.وفي هذا السياق، يؤكد مطلعون على كيفية اتخاذ الإدارة الحالية لقراراتها أن ثمة خيارات عدة تدرس في واشنطن. غير أنها تصب جميعا في اتجاه واحد يتمثل في التصدي للمشروع الإيراني المتكامل الذي تبين أنه المشروع الوحيد الذي لا يزال حيا بعد سقوط كل المشاريع الأخرى، بما في ذلك المشروع الأميركي الذي وضع نصب عينيه تغيير الأنظمة العربية انطلاقا من العراق «الديموقراطي». فإذا بالعراق ينتهي دولة مقسمة، على أسس مذهبية وقومية لا علاقة لها بالديموقراطية لا من قريب ولا من بعيد، دولة لا هوية واضحة لها. إضافة إلى ذلك، تحوّل الجنود الأميركيون في العراق رهائن لدى إيران القادرة، متى شاءت، على إلحاق كل أنواع الأذى بهم.لا شك أن الموقف الإسرائيلي يضغط في اتجاه التسريع في اتخاذ القرار الأميركي الحاسم، نظرا إلى أن الدولة اليهودية تعتبر نفسها غير قادرة على التعايش مع قنبلة نووية إيرانية، ورئيس إيراني يدعو إلى إزالتها من الوجود. لكن جديد واشنطن هذه الأيام، لا يتمثل في الضغط الإسرائيلي في اتجاه اتخاذ موقف حاسم من البرنامج النووي الإيراني فحسب، وهو ما فعله نائب الرئيس قبل أيام في مؤتمر لـ «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بل ظهر أيضا ما يمكن اعتباره بداية تحول في الموقف الإسرائيلي من النظام السوري. فقبل فترة قصيرة، كانت إسرائيل أشد المدافعين عن النظام في دمشق من منطلق أنه ضمانة لاستمرار الوضع الراهن في الجولان المحتل حيث هدوء تام لم تعكر صفوه ولو رصاصة واحدة منذ العام 1974. هذه الأيام، بدأ النشاط العسكري السوري في لبنان والذي في أساسه استمرار عملية تسليح «حزب الله» يثير مخاوف إسرائيلية، على الرغم من أن سلاح «حزب الله» بات موجها إلى اللبنانيين الآخرين منذ نهاية حرب صيف العام 2006 بالطريقة التي انتهت بها.خلاصة الأمر أن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بامتلاك كل هذه الأوراق في المنطقة. وبكلام أوضح، لن تقبل بأن تكون إيران صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في منطقة الخليج حيث أكبر احتياطي لمصادر الطاقة في العالم. حاول صدّام حسين ملئ الفراغ الذي نجم عن نهاية الحرب الباردة وأراد مفاوضة الأميركيين من موقع القوي اقليميا والمستعد للحفاظ على المصالح الأميركية في الوقت ذاته. رفضت إدارة بوش الأب العرض في حينه ومعروف كيف كانت نهاية صدّام. في أيامنا هذه، إذا لم تتراجع إيران عن مشروعها، ستكون هناك على الأرجح ضربة أميركية ما قبل نهاية عهد بوش الابن. النهاية الحقيقية لعهده هي في فبراير المقبل حين يصير معروفا من سيتنافس في الانتخابات الرئاسية المقبلة التي سيحل موعدها في نوفمبر 2008. السؤال هل سيركز الأميركيون في ضربتهم على إيران نفسها أم يتركون إسرائيل تقدم على عمل ما تجاه سورية؟ من المفيد هنا الإشارة إلى أن الضربة العسكرية التي استهدفت هدفا سوريا، لم تتضح طبيعته بعد، في السادس من سبتمبر الماضي كانت عملية مشتركة أميركية - إسرائيلية.وهي ضربة تعطي فكرة عن السيناريوهات التي تنتظر المنطقة في حال عدم حصول تراجع إيراني وانسحاب ذلك على السلوك السوري في غير مكان، خصوصا في لبنان.

خيرالله خيرالله

 كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن