| علي الرز |
كل ما أعرفه ان الجزء الرئيسي من بيتنا تهدم وحشرت انا واختي الصغيرة في المطبخ لا نتنشق سوى رائحة الغبار ودخان الحريق. لم اعد اسمع صوت جدي محمود التسعيني المعاق وهو ينادي على جدتي كي تأخذه الى الحمام او تعطيه الدواء المسكن، كما اختفت ضحكات جدتي وهي تحاول عبثا رفع معنوياته بالقول: بعدك شباب. «راح الشباب» يجيبها بهدوء قبل ان يصب جام غضبه على الدنيا وما فيها وعلى القيادة الفلسطينية وعلى العرب والعالم... وعلى جدتي التي يحملها في لحظة غضب كل مشاكله الصحية ومشاكل البلد السياسية والامنية، فترد ام عبد الرحمن بحكمة الكبار ومن دون اعتراض وكأنها تكلم طفلا صغيرا: «سأبذل جهدي ان شاء الله لاكون عند حسن ظنك. الله كبير بس انت ارتاح يا زلمي انا رح اتصرف»، ثم تطلق ضحكتها الملعلعة وتقول لابي: «رح صدق انا بعد شوي اني مسؤولة عن كل المشاكل. بس ما فيني عارضو بحبو وما بدي يحس انو رجولتو انكسرت».يشتد سعال اختي الصغيرة، تسألني بحيرة عن ابي وامي. اضمها الى صدري وادعوها الى عدم الخوف فالظاهر ان القصف دمر السقف والاكيد ان البابا والماما والجيران ينتظرون هدوء المدفعية كي يتحركوا لازالة الانقاض واطفاء الحريق وانقاذنا.مسكين والدي عبد الرحمن، كان كثير العصبية في الفترة التي سبقت المعركة الاخيرة. يمضي وقته كله بلا عمل اللهم الا الحكي في السياسة هو واهله وجيرانه: «حماس على حق ام فتح على حق». وكان يعرف ان الوضع لا يمكن ان يستمر على ما هو عليه ويقول لكل من يجادله: «ولك اذا عملنا هيك ببعضنا ليش مستغربين يعملو اليهود فينا اكثر من هيك». وما زلت اذكر عندما زار الرئيس الاميركي فلسطين وتحدث عن امله بقيام دولة فلسطينية كيف انقسم الزوار بين متفائل ومتشائم فيما اصيب جدي محمود بنوبة ضيق صدر لانه اراد الكلام سريعا، وعندما هدأت النوبة نظر اليه الجميع فقال: «من خمسين سنة وكل ما رئيس افرنجي بيحكي منيح عن الفلسطينيين تحصل مجزرة، وكأنه يعطي اليهود الضوء الاخضر. واحنا لا بنتعظ ولا بنفهم سياسة وشغلتنا نروح من قتلي (ضربة) لقتلي، ولك اذا هم ما ضربونا بنضرب بعض. الله يرحمك يا حج امين الحسيني قديش فهموك غلط». اما والدي فكان يرد عليه لان الآخرين لم يجرؤوا: «يا سيدي البلد مش بس حماس وفتح، البلد شعب بامو وابوه، فينا نقول ليش حماس ضربت صواريخ او ليش فتح ماشية بالمفاوضات بس شو ذنب الناس وكيف ما نخليهم يدفعو الثمن. اسهل شي نحط الحق على محمود او اسماعيل او سلام او خالد، بس في شعب عايش بلا مي ولا كهربا ولا خبز ولا بنزين ولا مازوت ولا شغل ولا دراسة. في شعب بدو العالم يحس فيه كشعب لا كهتيفة او زقيفة لهذا الفصيل او ذاك، اليوم العالم غير انظمة بالمنطقة بحجة انها ما بتمثل شعوبها ومضطهدة شعوبها وبس تجي القصة عندنا بيصير الشعب الفلسطيني هوي يا حماس يا فتح. يا جماعة ابن حماس محصن ورا الدبش وكياس الرمل وابن فتح نفس الشي، احنا اللي بندفع الثمن».لم ينته حكي السياسة في بيتنا، كذلك لم تتوقف طوابير حاملي المياه بالغالونات وطالبي المازوت. وعندما اطلقت الصواريخ ردا على الغارات الاسرائيلية كنت اشعر بان جدي على حق واننا سنذهب من «قتلي لقتلي»، واعتقدت ان الموضوع سيتركز على ضاربي الصواريخ لا على اغتيال القطاع لكنني اكتشفت اني صغير في السياسة وان عقلي مهما كبر لن يستوعب حجم الوحشية الاسرائيلية والصمت العربي والدولي. صباح اليوم افقنا على دوي غير مسبوق واصوات انفجارات، انهار جزء كبير من البيت، وسجنت واختي في المطبخ مع رائحة الغبار ودخان حريق يبدو انه صادر من اشتعال مازوت التدفئة. شقيقتي الصغرى لم تعد تسعل ولم تعد تسأل. كان وجهها شاحبا وجسمها باردا. شيء ما جعلني ارتعش وانا بالكاد اتنفس عندما سمعت صوت الجيران وشباب اللجنة الشعبية يكبرون ويصرخون: «يا دلي عليك يا ابو عبد الرحمن، يا دلي عليكي يا ام عبد الرحمن، الله يرحم شبابك يا عبد الرحمن وشباب مرتك. يا ويلتي عليهم انقتلو وتشقفو واحترقو. الله ينتقم منكم يا ولاد (...) حسبنا الله ونعم الوكيل»... لم اعد اسمع شيئا، وآخر ما استطعت قوله كان دمعة انهمرت مني على خد شقيقتي الساكنة الوادعة الغائبة بين يدي، ثم اختنقت انفاسي رويدا رويدا وشعرت بانني انطفىء مثل الكهرباء في غزة والحياة في فلسطين.اسمي فلسطين... ولا ادري اذا كان يعني لكم شيئا.