|    علي الرز    |

بعد قبول الغالبية اللبنانية الاقتراحات الدولية بابداء مرونة مع المعارضة للوصول الى رئيس توافقي والتخلي عن الانتخاب بالنصف زائد واحد، وبعد موافقة الغالبية على اسم الرئيس التوافقي الذي اقترحته المعارضة، وبعد قبولها تعديل الدستور، وبعد رضوخها لآلية المعارضة لتعديل الدستور، وبعد قبولها بالمبادرة العربية وبالتفسير الذي اعطاه الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى لبنودها، وبعد اجتماعها مع الجنرال عون المكلف من المعارضة التحاور معها بعد الرئيس نبيه بري... بعد ذلك كله، لم تعد المعارضة قادرة على اجتراح حجج دستورية وسياسية كالتي احتلت بها الحياة العامة لما يزيد على العام، فعمدت الى تحريك الشارع بحجج مطلبية (وقريبا سياسية) للقول لمن لا يريد ان يفهم ان المطلوب هو الفراغ والفوضى فقط لاعادة انتاج النظام السياسي اللبناني.والمخيف هذه المرة في تحريك الشارع، هو انطلاق الخطاب السياسي علنا من اقذر لغة، لغة الخطاب المذهبي. اذ عرضت شاشات التلفزة (والموالية للمعارضة تحديدا) صورا لمتظاهرين يقطعون الطرقات ويحرقون الدواليب وحاويات القمامة احتجاجا على ما اعتبروه «القطع المذهبي» للكهرباء (هكذا حرفيا وبالصوت والصورة) على اساس ان مناطق تسكنها غالبية من طائفة معينة هي التي شملها التقنين اكثر من غيرها. مع العلم ان من يعرف بيروت يعرف ان هذه المناطق مختلطة طائفيا بشكل كبير بل ان في بعض احيائها ارجحية لطائفة اخرى غير التي احتج ابناؤها واطلقوا كلاما انقساميا استفزازيا على الهواء مباشرة.ولكن قبل الكلام عن «القطع المذهبي» للكهرباء لا بد من محطة مع قصة قصيرة اخرى.     قبل سنتين زار صحافي لبناني مسؤولا امنيا سوريا رفيع المستوى في دمشق. كان المسؤول يرتدي ثيابا رياضية في مكتبه ويتابع تجديد ديكوره ووضع اللوحات الجديدة التي استقدمها من ايطاليا واسبانيا ويدخن سيجارا فاخرا. تحدث الزميل معه عن لبنان فكان المسؤول السوري يحول الحديث في اتجاه الديكور الجديد واللوحات والسيجار والمطاعم التي فتحت في دمشق في المنازل الاثرية القديمة، فايقن الزميل ان الرجل يريد اعطاءه انطباعا بان لبنان ليس اولوية وان الحياة تسير بشكل مريح من دون هواجس او قلق.انتهت الاحاديث الاجتماعية وكان لا بد من دقائق لـ «فش خلق» الصحافي باي خبر او تحليل عن لبنان خصوصا انه تكبد عناء السفر من دولة اوروبية. اجلسه المسؤول على كرسي في مواجهته وقال له: «اسمع جيدا، فساختصر لك موضوع لبنان بالنسبة الينا في هذه المرحلة. بلدكم مثل  البرتقالة على الشجرة، غنية بلونها الذهبي وبطعمها. ستقطف ويقال لنا ادفعوا 200 ليرة ثمنها لشرائها فنرد باننا لا نريد. بعد ايام سيبهت لونها وسيقال لنا ان الثمن تقلص الى 150 ليرة فسنرفض ونفهم من يقول اننا غير معنيين بها ولا نريد الحصول عليها. وبعد ايام اخرى ستضمر اكثر ويصير السعر مئة ليرة وسيكون ذلك مدعاة اكبر لرفضنا. ستنتهي لونا وطعما وسيأتي من يهمس في اذننا ان نأخذها ببلاش لكننا سنرفض. ستهترئ وتصبح مشكلة للثمار حولها وعندها سيرجوننا ان نأخذها ونأخذ فوقها ثمنا... وعندها يمكن ان نفكر في ذلك على ان يكون الثمن منسجما مع حساباتنا وحسابات حلفائنا وبطلب منهم لانهم هم من يستحق شرف العلاقة وليس من كنا نظنه حليفا».وعندما سأله الصحافي عن استقامة «نظرية البرتقالة» ولماذا ستذبل وتنتهي، رد المسؤول السوري:» فيكم البركة، لا تخاف، مشاكلكم كثيرة وقبعوا شوككم بايدكم».قصة «البرتقالة» مختلفة في الظاهر عن قصة الحشود التي احتلت وستحتل الشوارع في بيروت، لكنها في الجوهر هي القصة الحقيقية لما جرى ويجري، لان تعطيل المؤسسات اللبنانية وانتهاك الدستور واحتكار قراري الحرب والسلم وخنق وسط بيروت والاستماتة لايجاد فراغ في السلطة والتهديد المستمر بسيف الحرب والفوضى وتسعير الخطاب المذهبي الذي نشهده... كلها وغيرها امور اساسية على طريق انهيار الدولة اللبنانية وضرب التعايش بين اللبنانيين وتخصيب الفتنة، وصولا الى مرحلة الاهتراء واعلان وفاة النظام وادخال اشلائه المقطعة في سوق التسويات الاقليمية بعد تحديد الاثمان والاشكال الجديدة للحكم.لم يعد مفيدا القول ان المتضررين من انقطاع الكهرباء وارتفاع الاسعارهم من كل الطوائف. لم تعد مجدية الاشارة الى اسم وزير الكهرباء وهويته السياسية. لم يعد محركو الازمات يهتمون بانكشاف خططهم الحقيقية. القصة قصة «برتقالة» اقليمية ومحكمة دولية لا قصة «كهرباء مذهبية»، وكما قال المسؤول السوري – ودائما على ذمة الزميل الصحافي -  «البركة فينا» وعندما نعجز عن «تقبيع» اشواكنا بايادينا سنرجوه يوما ما ان «يقبعها» و«يقبعنا»... ويقبع مجددا على انفاسنا وصدورنا.

alirooz@hotmail.com