رحل أنطوان كرباج، كما في صورته ممتطياً صهوة جواده، ممثّلاً من طراز رفيع، صاحب موهبة لا يضاهى، وصوت هادر يضجّ على المسرح وفي التلفزيون حياةً وحضوراً طاغياً لا يُمحى، وحركة مسرحية تَفرض إيقاعها لا بل طغيانها على الخشبة وفي الكادر التلفزيوني.... إنه انطوان كرباج، تاريخ المسرح والتلفزيون الذي رافَقَ أجيالاً وإختبر الحياةَ مع كبارٍ في الفن اللبناني تمثيلاً وإخراجاً وكتابة. الصوت المميّز على المَسرح الرحباني، والشخصيات المحبَّبة الخارجة من عبق التاريخ إلى رحاب الضيعة اللبنانية، الأدوار المحفورة عميقاً في ذاكرة اللبنانيين عبر «تلفزيون لبنان» أيام الأبيض والأسود ومن ثم الشاشات الملوَّنة، والمسرحيات التي حفظها اللبنانيون لأعوامٍ طوت أعواماً... يتردد صدى صوته مع فيروز، ونصري شمس الدين، فيصبح رفيقاً دائماً في المسرحيات التي لا بد ان يكون شريكاً فيها، ممثّلاً يرافق بالإيقاع المميّز لصوته وبوجوده الآسر على المسرح، فيروز الأيقونة اللبنانية في الإطلالات الرحبانية.

انطوان كرباج الدمث، اللائق، والمهذّب، الذي غاب منذ أعوام عن العمل الفني، هو الذي إرتبط إسمه بشخصياتٍ لا تمحى من ذاكرة أجيال ورافقتْه عبر المسرح اللبناني حين أصبح للبنان مكانة ثقافية راقية في نهضة شاملة بدأت بنقل المسرحيات الغربية إلى العربية.

لم يكن ذلك المسرحيّ نخبوياً، فقط لأن اسمه التصق بشخصيات الأدب الكلاسيكي أيام نهضة الفن اللبناني، بل صار كذلك لأنه الممثل الذي لا بد منه في المسرح الرحباني مع فيروز: من «فاتك» المتسلّط في جبال الصوان، إلى «الشخص» في مسرحية الشخص. كان القائد «باتريكوس» في بترا، و«الملك» في ناطورة المفاتيح، و«الوالي» في صَحّ النوم، و«الحرامي» في المحطة و«المهرب ملهب» في يعيش يعيش.

هو كل ذلك وأكثر، لانه أعطى للشخصية الرحبانية البُعد الآتي من عالم مسرحيّ آخَر، ليندمج مع العالم الرحباني ويلتصق به، فيتحول ركناً من أركانه.

مَن كان عاشقاً للمسرح، إنتقل مع الرحابنة في المسرح الغنائي إلى الجمهور الأوسع محلياً وعربياً، بعيداً عن كلاسيكيات المسرح الذي عمل فيه طويلاً مع نخبة من الممثلين المسرحيين العريقين، منير أبو دبس، أنطوان ولطيفة ملتقى، نضال الأشقر، ميشال نبعة، ويعقوب الشدراوي.

عايَشَ وعمل في المسرح باللغة العربية الفصحى، الراقية، لكنه عاد إلى لغته اللبنانية المحكية، في المسرح الرحباني ومن ثم مع أنطوان غندور في المسلسلات التلفزيونية، فأصبح رفيق الناس العاديين والجمهور الأوسع، من «بربر آغا» إلى الحرامي «سليم الديك» في مسلسل من يوم ليوم. لكنه أيضاً كان «جان فالجان» في مسلسل البؤساء، حين نَقل رائعةَ فيكتور هوغو إلى اللبنانيين في شكلٍ أدخل القصة الفرنسية إلى جمهور عريض لم يُتح له ان يدخل المسرح اللبناني ويشاهد روائعه.

ظلّ أنطوان كرباج رفيقَ اللبنانيين في المسرح وفي التلفزيون، يتنقّل من دور إلى آخَر، يقول عباراته مع فيروز فتخاله مغنّياً يرتقي بصوته وحواراته إلى مكانة أخرى. حوارُه المنفرد وصرختُه قائداً رومانياً أمام ملكة بترا يعلن فيه إنهزامَه في دقائق قليلة بصوتٍ يصدح مودعاً روما «ارفعوا راسي على رمح وزينو فيه ساحاتكن». حواره – الشخص - مع فيروز بائعة البندورة، والخوف من العتمة.

يتردد صوته كما اليوم وهو يقول، فاتك المتسلّط في جبال الصوان، «عبث كل اللي صار، عبث اللي بدو يصير قتلنا البيّ، قتلنا البنت، شو بدّنا نقتل لنقتل...».

هو نفسه الوالي الذي يريد أن يحاكم «قرنفل العفريتة» قبل ان يخاف عليها ويقول «جهنم، اي في جهنم... بس يمكن ما فيها حدا، الإنسان أحلى من النار... معقول الإنسان يقتل واحد خاف عليه؟». والصوت المتغيّر في طبقاتٍ عدة ومن مكان آخَر في شخصية الملك «غيبون» في ناطورة المفاتيح، الخائف من السم، ومن ثم المنتصر عليه، والمَشهد الطريف مع زوجته الملكة – هدى، ومن ثم مع فيروز تارة يراضيها وتارة يهدّدها. كل ذلك في حوار متماسك، يغلب فيه الصوت المتنوع في طبقاته وصرخاته وهدوئه. تماماً كما عمل لاحقاً في مسرحية صيف 840، في حوار يكاد يكون غنائياً مع وليم حسواني، أو منكسراً أمام إبنته هدى.

أن يغني أنطوان كرباج، كان كمَن يُنْشِدُ حواراته، كما فعل في مسرحية روميو لحود أمام الراحلة سلوى القطريب، في شخصية أستاذ الأبجدية في المسرحية الشهيرة سيدتي الجميلة التي لبْننها الراحل روميو لحود لتصبح بنت الجبل، وهو غنّى لها في حوار غنائي معها «يللي جايي على بالو يتعلم يحترم حالو... فكّرتي حالك بالضيعة جايي تحاكيني بشي بيعة».

مع أنطوان غندور الكاتب اللبناني العريق، عمل على شخصيات لبنانية من قلب اليوميات الجبلية المحلية، فأضاف نكهة على حضوره المحبَّب، وصار اللبنانيون ينتظرون إطلالاته وعباراته التي حفظوها، من «بربر آغا» إلى «ابو بليق» ومن ثم مسرحياً في مسرحية يوسف بك كرم، والصورة المرتسمة ممتطياً صهوة جواده.

وعمل كرباج مع أهمّ الممثلين في المسرح وفي التلفزيون، إلى جانب هند ابي اللمع ونهى الخطيب سعادة وعليا نمري، وعايش أجيالاً من الممثلين رفاق الدرب الطويل وصولاً إلى نجوم السنوات الأخيرة، في الكثير من المسلسلات المحلية والعربية، قبل ان يبعده المرض عن الحياة التي أَحَبَّها تمثيلاً وحضوراً طاغياً على مدى أكثر من ستين عاماً. أما دوره التلفزيوني الرحبانيّ الأشهر فكان سليم الديك في مسلسل من يوم ليوم، بجزئيه، حين تغنّي له هدى التي أُغرم بها وهو وراء قضبان السجن «من يوم ليوم بتفتح سوسنة».

بين كل هذه الأدوار، على مدى سنوات طويلة لم يَغِبْ أنطوان كرباج عن الحضور اللائق، والمثقّف والطاغي. فكانت مشاركته في الأعمال التلفزيونية تضيف عليها مكانة أخرى، آتية من شغفه بالمسرح وبالتمثيل وبالحياة المتجددة مع طواقم حديثة من ممثلين ومُخْرِجين.

في حياته ممثلاً، كما في حياته الشخصية، كان انطوان كرباج يشكل مع زوجته لور غريب، الصحافية والشاعرة والرسامة والناقدة، ثنائياً حاضراً في الحياة الثقافية منذ الستينات، فارضاً إيقاعه، فلا يكون أحدهما دون الآخر، يكملان بعضهما البعض ولا يفترقان ويتداخل تأثيرُها عليه مع حضورها الآسِر في حياته، محيطةً إياه برعاية دائمة لم تكلّ، إلى حين غيابها عنه، حين صار لحياة أنطوان كرباج معنى آخَر.

إلى المقلب الآخر من الحياة، غادر أنطوان كرباج ليعود إلى لور غريب، حيث ترسم هي لوحاتها الملوّنة بخرز وحبر أسود، وحيث يلعب أفضل أدواره، العاشق والوالي والملك والحرامي الذي سرق قلوب اللبنانيين وسرق بالأمس دمعتهم عليه.