لن يكون الانتخابُ الذي يتّجه إليه البرلمان اللبناني اليوم، لقائد الجيش العماد جوزف عون، الرئيسَ الرابع عشر للجمهورية مجرّد محطة دستورية يتوقّف معها قطارُ فراغٍ ملأ قصر بعبدا على مدى 800 يوم، بل «حلقة وصْلٍ» للبنان بقوسِ متغيّراتٍ إقليمية جيو - سياسية «حُفرتْ» أوّل مداميكها مع الانتكاسة الكبرى لـ «حزب الله» في الحرب مع إسرائيل والتي أسّستْ لِما يشبه «سقوط جدار برلين» بانهيار نظام بشار الأسد وتبلْورٍ أكثر وضوحاً لمَعالم شرقٍ جديد يطبعه ضمورُ محور الممانعة و«سحْب أذرعه» مما كان حتى الأمس القريب «ساحاته الحصينة».

فـ «فخامة الجنرال» الذي كان «بازل» انتخابه يكتمل تباعاً أمس «قطعة قطعة» مع التحاق كتل ونواب مستقلين بهذا الخيار الذي يحظى بقوة دفْع عربية دولية كبيرة، قطباها الرئيسيان الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، إلى جانب فرنسا، سيشكّل مع الاقتراع المتوقَّع أن يَحمله إلى القصر الجمهوري من الدورة الأولى أي بما يفوق غالبية الثلثين ويتجاوز على الأرجح المئة (من 128) عنواناً لمرحلةٍ ستَلِجها «بلاد الأرز» على قاعدتيْن متداخلتيْن:

- الأولى أن لبنان سيستعيد تَوازُنَه الداخلي بالمعنى السياسي والمؤسساتي، وهو ما يُنتظر أن تكون له تتماتٌ على مستوى الحكومة الجديدة، رئيساً وتركيبة وبرنامج عمل، ينسجم مع تطلعاتِ الشعب اللبناني وتوقّعات الخارج.

- والثانية أن لبنان الذي خَرَجَ بحُكْمِ التحوّلاتِ المتلاحقةِ في المنطقة من دائرة التأثير الإيراني الوازن، سيشهد بإنهاء الشغور الرئاسي وفق معادلةٍ تَناغَمَتْ فيها المبادئ - المواصفات التي وضعها المجتمع العربي - الدولي للرئيس العتيد مع إرادة داخلية جامعة تجاوزتْ تباعاً تناقضاتٍ سياسية وفي الحسابات، بداية تماهٍ مع الوقائع الجديدة من حوله بما يَقطع الطريقَ على تفويت «فرصة ذهبية» ليكون جزءاً من نظامٍ إقليمي يتشكّل على أنقاض خريطة نفوذ «مزّقتْها» أحداث وقعت وأخرى قد تكون في طور الحدوث.

«الخميس الأبيض»

وعشية «الخميس الأبيض» المرتقب تحت قبة البرلمان على مرأى من ممثلي البعثات الدبلوماسية، شهد «الأربعاء التمهيدي» للانفراجة الموعودة ما يشبه «حمى» انتخابية، من اتصالاتٍ واكَبها للمرة الثانية في أقلّ من أسبوع الأمير يزيد بن فرحان، المكلّف الملف اللبناني في الخارجية السعودية الذي حطّ في بيروت أمس، والموفد الفرنسي جان - إيف لودريان الذي وصل الثلاثاء، في محاولةٍ لإعطاء الدفعة الحاسمة لعبور الأمتار الأخيرة من الـ 3 كيلومترات الفاصلة بين اليرزة (حيث مقر قيادة الجيش) وبعبدا حيث القصر الذي سيتكلل مجدداً... بالنجوم العسكرية.

وساعة بعد ساعة تَدَحْرَجَتْ المؤشراتُ إلى أن قائد الجيش، الذي تَحَوَّلَ مرشّحاً «أممياً» بعد تزكيته من «مجموعة الخمس حول لبنان»، سيكون اليوم نجم ساحة النجمة في وسط بيروت حيث سيلمع اسمه في قلب الصندوقة الزجاجية التي ستتوسط القاعة العامة في البرلمان، الشاهِد في آخِر ثلاثة عهود على حال جمهورية مُرّها أكثر من حُلوها ولم تسلّم منذ الرئيس اميل لحود الرئاسة سوى إلى شغور (الأول استمرّ اقل من 6 أشهر، والثاني لنحو 30 شهراً والثالث 26 شهراً)، ويُراد أن تفتح أبوابها في 9 يناير 2025 على حقبةٍ جديدةٍ كأنها «صفحة بيضاء».

ولم تترك التطورات المتسارعة على مدار الدقائق أمس مجالاً للتحسب لمفاجآت يَحملها «الاقتراع السري» بعدما كُشفت الأوراق، أو زال عنها الغبار، ليُكتب عليها «جوزف عون» تحت عنوان التوافق الذي اجتذب حتى متردّدين أو نواباً كانوا اختاروا التصويت لمرشح بعينه (مثل الوزير السابق زياد بارود) ولكنهم جاهروا بأن أي إجماع أو ما يقاربه على خيار قائد الجيش سيجعلهم يلاقونه في الصندوقة التي ستُفضي إلى انتخاب العماد جوزف عون الذي سيصدّق عليه الرئيس نبيه بري بمطرقته، مستعيداً الموجبات نفسها التي أمْلت تغطية إيصال العماد ميشال سليمان العام 2008 من قيادة المؤسسة العسكرية مباشرة إلى بعبدا على متن دراسة دستورية أعدّها وزير العدل السابق بهيج طبارة في ما خص المادة 49 من الدستور التي تمنع انتخاب موظفي الفئة الأولى «مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتَين اللّتَين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم (...)».

وفحوى هذه الدراسة أن الشغور في موقع الرئاسي يُسقط المهل، كما أنّ غالبية الثلثين وما فوق للانتخاب تنطوي ضمناً على تعديلٍ للدستور لا يمكن حصوله في غياب رئيسٍ للجمهورية وحكومة تصريف أعمال.

ولم يكن أحد في لبنان والخارج يشكّك في أن المَخرج جاهِزٌ لتوفير «بوليصة التأمين» الدستورية لخيار قائد الجيش متى تأمّن النصاب السياسي الداخلي، وكانت العقبة الأبرز فيها رَفْض بري ومن خلْفه «حزب الله» السيرَ بالعماد جوزف عون لاعتباراتٍ تتصل بـ «بروفيله» الذي لا يشبه الآخَرين في «الأخذ والردّ» حول جزئيات في لعبة السلطة ناهيك عن حاجة رئيس البرلمان الذي «يرث» أثقال الحرب الأخيرة وأهوالها، إلى ضماناتٍ تتصل باتفاق وقف النار والتزام إسرائيل به في شكل مستدام وبأن تنسحب بحلول انتهاء هدنة الستين يوماً (في 27 الجاري) من عشرات القرى التي تحتلها في جنوب لبنان، إلى جانب ملف إعادة الإعمار.

وهذا الرفض من الثنائي الشيعي، أثار نقزةَ قوى وازنة في المعارضة وفي مقدمها «القوات اللبنانية» التي أخّرت إعلانَ دعم قائد الجيش، تفادياً لحرقه، إلى أن تظهر إشاراتٌ من الثنائي الشيعي، أو أحد طرفيه، بالسير به بما يؤّمن له غالبية الثلثين التي تُبْعِد شبحين: الأول إشكالية دستورية فيما لو نال في الدورات الأولى وما يليها (الانتخاب في الدورة الثانية وما بعد يتم بالنصف زائد واحد) ما يفوق 65 صوتاً ويقلّ عن 86 ما يجعله رئيساً ويمكن إعلانه فائزاً وترْك احتمال الطعن بالانتخاب أمام المجلس الدستوري والذي يتطلب ثلث النواب (43 نائباً)، والثاني إمكان أن يكون فريق «الممانعة الجريح» يعدّ مع النائب جبران باسيل «تهريبة» رئاسية بمرشح الـ 65 وبأحد الأسماء التي لن تَلقى المبارَكة الخارجية اللازمة.

«لمن يهّمهم الأمر»

ولكن ومع إرسال الخارج الإشارات «لمن يهّمهم الأمر» بأن قائد الجيش هو الاسم الوحيد الذي يؤشر انتخابه إلى أن لبنان سلك الطريق الصحيح الذي يوصله إلى استعادة ثقة المجتمعين العربي والدولي، سقطت تباعاً آخِر الجدران ومعها «الخطط ب» لكل الأطراف، ما يجعل 9 يناير يوم وضْع خط النهاية لـ 26 شهراً كانت فيها الجمهورية مقطوعة الرأس، على أن يشقّ «الرئيس الجديد» طريقه إلى القصر المهجور بعد معركةٍ ملأ صخبها «الدنيا» لتنتهي بشبه تزكية، بعدما كانت انتخابات 31 اكتوبر 2016 دارت بين المرشحيْن الحليفيْن «أبناء الخط الواحد»، زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، ورئيس «تيار المردة» النائب سليمان فرنجية، وكلاهما حليفا لـ «حزب الله»، في حين أنها كادت في 2025 أن تكون بين العماد جوزف عون والوزير السابق جهاد أزعور وكلاهما دعمته المعارضة للحزب وأوشكت أن تخوض المعركة بهما الأول لدورة الـ 86 والثاني لدورات الـ 65.

وأمكن اختصار توالي اكتمال لوحة انتخاب العماد عون، الذي يصادف أن عيد مولده يحلّ غداً (هو من مواليد 10 يناير 1964 ومتأهل من السيدة نعمت نعمه ولديه ولدان خليل ونور)، بالآتي:

- إعلان سليمان فرنجية، الذي كان حتى ربع الساعة الأخير مرشحاً سبق أن تبنّاه الثنائي الشيعي منذ 2022، انسحابه من السباق تحت عنوان «أمّا وقد توافرت ظروف انتخاب رئيس للجمهورية»، مؤكداً دعم انتخاب قائد الجيش.

- إعلان كتلة بري بعد اجتماعها، الذي سبقه لقاء بين مستشار رئيس البرلمان النائب علي حسن خليل والموفد السعودي في مقر سفارة المملكة، ما بدا فتْح الباب مواربة أمام التصويت لعون، وتالياً توفير غطاء شيعي له إلى جانب غالبية الثلثين التي لا تكتمل إلا عبر كتلتي «امل» وحزب الله أو أحداهما في ضوء إصرار باسيل على رفْضه لهذا الخيار.

فقد أكدت الكتلة «موقفنا المبدئي وهو التوافق بالنسبة لرئاسة الجمهورية» معلنة تعليقاً على احتمال سير كل المعارضة بخيار قائد الجيش والموقف حينها «لكلّ أمر مقتضاه وأكّدنا ضرورة التوافق في شأن الرئاسة»، قبل أن يُنقل عن أوساط الكتلة عصراً «أكدنا في بياننا تأييد التوافق بين اللبنانيين واذا صبّ هذا التوافق باتجاه انتخاب قائد الجيش فسنسير به»، ليتوّج بري نفسه هذا الاتجاه بالقول مساء «أنا مع التوافق ولم أبدّل رأيي».

- ما نقلته قناة «الجديد» عن أن رئيس كتلة نواب «حزب الله» محمد رعد أكد خلال لقائه لودريان، أن الحزب «لا ينوي الوقوف عائقًا أمام أي إجماع لبناني حول اسم رئيس الجمهورية المقبل».

- تَوالي إعلان كتل سنية، وبينهم نواب كانوا يُحسبون على «الممانعة»، ونواب مستقلين وتغييريين دعم قائد الجيش، وصولاً إلى اجتماع المعارضة ليلاً في مقر «القوات» في معراب مؤكدة تأييد انتخاب عون، بعد اجتماعاتٍ بين سمير جعجع ولودريان ورئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل، وهو ما وفّر الغطاء المسيحي لهذا الخيار الذي حاز (من دون الثنائي الشيعي وباسيل) ما يتجاوز 75 نائباً.

- كلام رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عن أنه «للمرة الأولى، منذ الفراغ في سدة الرئاسة، أشعر بالسرور لأنه بإذن الله سيكون لدينا الخميس رئيس جديد للجمهورية».