مع العدّ العكسي لسنة 2025، لن يتسنّى لبيروت أن تُقَلِّبَ صفحاتِ عامٍ ولا كل الأعوام في لبنان والمنطقة، حيث إن الأحداثَ الكبرى التي تَناسَلَتْ منذ سبتمبر الماضي وتَكاتَفَتْ لتعيد رَسْمَ خريطة النفوذ الإقليمي و«تمحو» أكثر من 40 عاماً بَنَتْ خلالها إيران حضورَها في المنطقة «ساحةً ساحةً» عبر أذرع كان أقواها «حزب الله»، مازالت تتدحرج مُنْذِرةً بإكمال حلقات التحوّلات التي تُغَيِّرُ وَجْهَ الشرق الأوسط.

فلبنان الذي فُتحت منه «أبواب متغيّراتٍ» لم يكن ممكناً تَصَوُّر أن تطاول سورية وتطيح بـ «حُكْم الأسديْن» لو لم يتم قبْلها إضعافُ «حزب الله» في حرب الأيام الـ 65 التي انفجرت قبل أن يَطوي «طوفان الأقصى» عامه الأول، مازال يترقّب مسار «السيل الجارف» الذي يوشك أن «يمرّ» على الحوثيين وربما إيران نفسها في سياق تصحيح «انحرافها» نحو ساحاتٍ عربية «سقطت» بيدها من الداخل.

وما يَجعل هذا الترقُّب مُثْقَلاً بالقلق، أن طبيعةَ الأحداث المحتمَلة تؤشر لِما سيحْكُم الواقعَ اللبناني خصوصاً في الشهر الأخير من مهلةِ الستين يوماً التي نصّ عليها وَقْفُ النار لجعْل جنوب الليطاني خالياً من الوجود العسكري لـ «حزب الله» وانتشار الجيش اللبناني فيه وانسحاب الجيش الإسرائيلي من قرى الحافة الأمامية التي توغّل فيها، توطئة لاستكمال مندرجات الاتفاق بروحيته التي تتمحور حول انتهاء الوظيفة العسكرية للحزب.

وليس عادياً أن يَسْبق هذا الملف، على «سلّم الأولويات»، استحقاقَ الانتخابات الرئاسية الذي يَضرب موعداً في 9 يناير مع جلسةِ «كَشْفِ النيات» التي يترسّخ تباعاً أنها إما تُفْضي لانتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون رئيساً بـ65 صوتاً وإما سيكون مصيرها الإرجاء، وسط خشيةٍ من أن يفرّط اللبنانيون بفرصة اقتناص رئيسٍ، سواء لأن قسماً لم يصدّق أنه «فاز» أو لأن آخَر لم يسلّم بأنه خسر.

وترى أوساط سياسية أن الانتخابات الرئاسية باتت واقعياً بين مطرقة اعتقاد أطراف لبنانية أن الوضعَ الداخلي «حُسم» لمصلحة خصوم الحزب وان الرئيس يجب أن يتم إسقاطُه على «لبنان الجديد» الذي يتكئ على التوازنات الخارجية المستجدّة والمرشّحة لمزيد من التراجعات لمحور إيران، بما يتيح تعزيز «حصتّهم» في هذا الاستحقاق، وبين سندان محاولة الحزب تعويض خسائره الكبيرة عبر الرئاسة و«كعكة» السلطة وكأنه في «لبنان القديم».

وهذا الاستقطابُ الخفي الذي يُموَّه بعناوين عدة، بينها «شهر سلاح» وجوب أن ينال قائد الجيش 86 صوتاً كبديلٍ عن تعديل الدستور، خلافاً للمرتكز الدستوري الذي وَضَعَه وزير العدل السابق بهيج طبارة بناء على طلب رئيس البرلمان نبيه بري قبيل انتخاب العماد ميشال سليمان (2008)، يعكس وفق الأوساط نفسها عملية «عضّ أصابع» لتحسين الشروط، سواء «مرّ» عون أو فَرضت الظروف انتخاب آخَر.

وذكّرت الأوساط بأن دراسة طبارة اعتبرتْ أن شرط الاستقالة المسبقة (قبل سنتين) للقضاة وموظفي الفئة الأولى وما يعادلها في الإدارات والمؤسسات العامة يَسقط في حال شغور منصب الرئاسة (بوفاة الرئيس أو استقالته أو سبب آخر) بعدم انتخاب الرئيس قبل انتهاء ولاية السلف، قبل أن «يضيف» بري بجلسةِ انتخاب سليمان أن تصويت أكثر من ثلثي البرلمان له يعني أن المجلس عدّل ضمناً المواد الدستورية المانعة لانتخابه.

وتُبْدي الأوساط نفسها، خشيةً من أن يَبقى اللبنانيون يمارسون «الألاعيب السياسية» ويعتمدون قواعد «لعبةٍ انتهت»، في وقت لا توفّر إسرائيل فرصةً لتأكيد أنها «متحفّزة» لإكمال ما بدأتْه مع الحزب، ولا سيما من خلال الإمعان في تنفيذٍ «زاجر» لاتفاقِ وقف النار، في جنوب الليطاني وشماله، مسترهنةً انسحابها من نحو 62 بلدة جنوبية، للأيام الباقية من الهدنة ولشروط ضمنية يُرجّح أن «تظهر» تباعاً.

غارة على سهل طاريا

ولم يكن عابراً أن تردّ إسرائيل، وبعد ساعات من ترؤس رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي اجتماعاً في السرايا الكبيرة للجنة مراقبة وقف النار، طالباً «وقف الخروق الإسرائيلية والانسحاب الفوري من المناطق الحدودية التي توغلت فيها»، بتنفيذ خرْقٍ غير مسبوقٍ منذ سريان الهدنة في 27 نوفمبر الماضي، حيث أغار الطيران الحربي فجر أمس على منزل في سهل بلدة طاريا مجاور لضفاف مجرى نهر الليطاني في غرب بعلبك.

وفيما نقلت «فرانس برس» عن مصدر أمني لبناني أن «الغارة الإسرائيلية الأولى في البقاع منذ وقْف النار استهدفت مستودعات في سهل بلدة طاريا يُعتقد أنّها تابعة لحزب الله»، فإن هذا التطور عَكَسَ إصرار تل ابيب على تطبيق الاتفاق وفق تفسيرها و«نسختها» المعزَّزة بضمانات سرية أميركية تتيح لها حرية الحركة والتصدي لأي تهديد وشيك جنوب الليطاني وشماله وضمان ألا يعاود الحزب بناء ترسانته العسكرية.

الراعي

وعلى وهج مخاوف متزايدة من «كمائن» تعدّها إسرائيل للجزء الثاني من الهدنة مستفيدة من إبقائها «الإصبع على زناد» العودة للحرب الطاحنة، أطلّ البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بقداس الميلاد على الوضع الداخلي في ضوء «أحداث لبنان الأخيرة والمتغيّرات في سورية» والتي اعتبر أنها «زادت القناعة الداخليّة والدوليّة بحياد لبنان يما يجعله شريكاً يإيجاد الحلول عوض أن يبقى ضحيّة الخلافات والصراعات».

وأكد الراعي «أن لا حياد من دون سيادة واستقلال وأمن وحريّة».

وقال: «دستور الدولة المحايدة يردع الغرائز الداخليّة والأطماع الخارجيّة، فيسمح للدولة بأن تشارك في حلّ مشاكل الآخَرين دون أن يتدخّل الآخرون بشؤونها ويَتسببوا لها بمشاكل عصيّة الحلّ. وما أحوج لبنان لمثل هذه الضوابط كي يستعيد استقلاله ووحدته وقوّته»، معلناً «نتطلّع إلى 9 يناير حيث يقوم البرلمان بانتخاب رئيسٍ بعد مرور 26 شهراً من الفراغ المخزي».

وأمل الراعي «أن يصار هذه المرّة إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة: مؤهّلٍ لصنع الوحدة الداخليّة، ولتحقيق اللامركزيّة والإصلاح الإداريّ والماليّ والاقتصادي - الاجتماعي، ولضبط إيقاع قيادة الدولة وعملها وتفعيل مؤسّساتها، والتواصل مع الدول الفاعلة».